عندما يعلن بعض المتعالمين اكتشافاً جديداً غفل عنه جميع العلماء والمفسرون

عندما تسمع لأحدهم وهو يعلن في الفضائيات أنه اكتشف تفسيراً جديداً لأول مرة لآية كريمة غفل عنه جميع العلماء والمفسرون : تظنّ بأنه اطلع على كل كتب التفسير وبحث فيها ، وأنه توصل لفائدة علمية عظيمة ، ووقف على قيمة تربوية مهمة ، وإذا بك تفاجأ بأنّ هذا الاكتشاف هو : إثبات أن زوجة سيدنا نوح عليه السلام قد خانته بارتكاب الفاحشة ، وأن ولده الذي غرق هو ليس من صلبه ، وكأنه بذلك حقَّقَ سبقاً علمياً ، وأرشدنا لحقيقة علمية ظلت الأمة تائهة عنها منذ مئات السنين ، ولكننا عندما نعود لكتب التفسير فإن الكثير منها نبّه لهذا الفهم الشاذ للآيات الواردة فيها وأجابوا على ذلك إجابات رصينه ، وشرحوها شرحاً عقَدياً وتربوياً يتناسب مع عصمة الأنبياء ومكانتهم وإبعاد التهمة عنهم في أعراضهم .

ولنستعرض الآيات الواردة في هذه القضية :

1- الآية الأولى : قال الله تعالى : { وَنَادَىٰ نُوحٌ رَّبَّهُ فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ * قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ ۖ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ ۖ فَلَا تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ ۖ إِنِّي أَعِظُكَ أَن تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ} [هود: 45- 46] 

أ- معنى قوله تعالى : { إنه ليس من أهلك } نفي أن يكون من أهل دينه واعتقاده ، فليس ذلك إبطالا لقول نوح - عليه السلام - { إن ابني من أهلي } ولكنه إعلام بأن قرابة الدين بالنسبة لأهل الإيمان هي القرابة الحقيقية المعتبرة ، وليس معنى ذلك أن أمّه أتتْ به من الحرام والعياذ بالله؛ لأن الله تعالى ما كان ليُدلِّس على نبي من أنبيائه، ويُبيِّن لنا الحقُّ سبحانه العلة في قوله: {إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ } مباشرة في نفس الآية بقوله: {إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ } ، وذلك حتى لا تذهب بنا الظنون في زوجة نبي الله، أي إنّ عمل ولده بسبب كفره ليس عملاً صالحاً يكون سبباً في نجاته ، فالعلة أنه عمل غير صالح، وبنوة الأنبياء بُنوَّة عمل، لا بُنوَّة نَسَب.

وقد استخدم القرآن الكريم هذا الأسلوب في نفي النسبة المعنوية في قوله تعالى : { وَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنَّهُمْ لَمِنكُمْ وَمَا هُم مِّنكُمْ وَلَٰكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ } [ التوبة : 56)

وكذلك استخدم النبي صلى الله عليه وسلم هذا الأسلوب في بيان أن أهل النبوة هم الذين اتبعوا منهج النبي وذلك في قول رسول الله صلى الله عليه وسلم لسلمان الفارسي : (سلمان منا أهل البيت) رواه الحاكم والطبراني

فنسبه إلى أهل بيته وهي نسبة إيمانية .

ب- يقول الدكتور المفسر أحمد فرحات حفظه الله :

[ إن قوله تعالى: "إنه ليس من أهلك إنه عمل غير صالح" ورد في السياق التالي من سورة هود:

( حَتَّى إِذَا جَاءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ قُلْنَا احْمِلْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ- إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ- وَمَنْ آمَنَ وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ ) 

فقوله:" قُلْنَا احْمِلْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ- إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ- وَمَنْ آمَنَ" ، فقد طلب إليه أن يحمل في السفينة من كل زوجين اثنين وأهله، واستثنى من أهله: من سبق عليه القول،

-وهو ابنه الذي قال سآوي إلى جبل يعصمني من الماء-

وقول نوح عليه السلام :"إن ابني من أهلي": يريد: الذين وعدتني بنجاتهم.

ويجيبه الله"إنه ليس من أهلك": أي الذين وعدتك بنجاتهم" لأنه سبق عليه القول بعدم النجاة لكونه لم يكن صالحا،

بدلالة قوله:"إنه عمل غير صالح" وفي قراء:" عمل غيرصالح" وهذا يعني: أن الذين نجوا من أهل نوح إنما نجوا لصلاحهم. وهكذا فالله لا ينفي بنوة ابن نوح لأبيه نوح -عليه السلام- وإنما ينفي أن يكون من أهله الذين وعده الله بنجاتهم.لأنه لم يكن صالحا- وهو الذي سبق عليه القول ] اهـ

2- الآية الثانية : قال الله تعالى : 

{ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِّلَّذِينَ كَفَرُوا امْرَأَتَ نُوحٍ وَامْرَأَتَ لُوطٍ ۖ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَقِيلَ ادْخُلَا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ } [ التحريم : 10]

المقصود بخيانة زوجة سيدنا نوح عليه السلام أنها كانت تفشي أسراره لخصومه، وتخبرهم خبره؛ وهذا النوع من الخيانة جاء ذكره في قوله تعالى { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ } [ التوبة : 27 ]. 

والخيانة والخون ضد الأمانة وضد الوفاء ، وذلك تفريط المرء ما اؤتمن عليه وما عهد به إليه .

#من_اللطائف_التفسيرية_التربوية :

ولكن قد يسأل البعض لماذا أخبرنا الله تعالى عن زوجتي نوح ولوط عليهما وضرب لنا فيهما المثَل ؟؟؟

#الجواب :

يوضح الله سبحانه أن الرسول مع أنه رسول من الله إلا أنه لا يستطيع أن يفرض إيمانا على امرأته؛ فالمسألة هي حرية الاعتقاد، فمع كونها تحت إمرة وقوامة زوجها النبي ولكن لم يكره زوجته على الإيمان للتأكيد على أن الإيمان هو مسألة اختيار، وهذا الاختيار متروك لكل إنسان .

وكل ذلك لبيان أن قضية الإيمان والكفر قضية عقدية اختيارية ، وأن مجرد علاقة الزوجية لا تنفع صاحبها إذا لم يقترن معها إيمان وعمل ، لنفهم أن الاختيار في العقيدة هو الذي جعلهما من الكافرين، وأن الرسولين نوحاً ولوطاً لم يستطيعا إدخال الإيمان في قلبي الزوجتين؛ حتى يتأكد لدينا أن العقيدة لا يقدر عليها إلا الإنسان نفسه .

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين