عندما انتصرت الغوطة على نفسها

 

خسرت الغوطة الكثيرَ في الشهر الأخير، ولكنّ الذي ربحَته أيضاً كثير. لقد خَطَت الغوطةُ خطوة في طريق النصر عندما انتصرت الغوطة على نفسها، على عيوبها وأمراضها التي أصابت أفرادَها وجماعاتها (كما تصيب أفراد الناس وجماعاتهم في كل مكان وزمان) وسوف تمشي في درب الانتصار -بإذن الله- بعدما انتصرت على أسباب الهزيمة والانكسار.

أكتب هذه الكلمات في وقت خسرت فيه الغوطة قطعة ثمينة من الأرض، أكتبها وأنشرها وسط بحر من التشاؤم والإحباط الذي ملأ القلوب، ولكني لا أكتبها من باب التخدير الخادع ولا أنشرها لنشر الأمل الزائف، إنما هو يقينٌ أراه بعين الثقة بالله وبنصر الله، يقين بالنصر المشروط باتخاذ أسباب النصر التي قررها ربنا الكريم في كتابه العظيم، يقين يجمع بين أسباب النصر التي نعرفها في عالم الشهادة، وأسباب النصر المخبوءة في عالم الغيب الذي لا يملك مفاتحه إلا الله.

* * *

لقد انتصرت الغوطة على نفسها عندما ألّفت المحنةُ بين القلوب وأخرجت من النفوس أنبلَ ما في النفوس، فاقتسم الجائعون اللقمة، وتسابق أهل البلاء في العطاء والتراحم والإيثار، وفتح أصحابُ الدور أبوابَ الدور للاجئين الهاربين من القصف والدمار.

انتصرت الغوطة على نفسها عندما صار كل قوي ظهيراً لكل ضعيف، وكل غني مُجيراً لكل فقير، وكل كبير أباً لكل صغير.

انتصرت الغوطة على نفسها عندما بارت أسواق التلاوم التخوين وأُسكِتَت الأصوات الشاذة التي تنشر الضغائن وتفرق الصفوف، فاجتمع مقاتلو الفصائل المختلفة في الخنادق واختلطوا في الجبهات.

انتصرت الغوطة على نفسها عندما تحدّى أهلُها العالَمَ كله، بشرقه وغربه وهيئاته الأممية والدولية، فوقفوا في جوف الإعصار شامخين رافعي الرؤوس هاتفين: لا انسحابَ ولا استسلام، هذه أرضُنا، فيها وُلدنا وفيها نموت.

* * *

وبقيَتْ بقيّة: إن الظلم يؤخر النصر ويجلب غضب الرب، وإن بقاء أي معتقَل بريء في سجون الفصائل ظلم كبير لا يرضاه الله. فهذا نداء أرسله عبر هذه السطور لكل الفصائل في الغوطة المباركة: تقرّبوا إلى الله واستنزلوا نصرَه برفع الظلم عن المظلومين، أطلقوا سراح المعتقلين الأبرياء، حتى مَن اعتُقل في جناية يسيرة أطلقوه، أطلقوه واتركوه ليحمل نصيبه في الدفاع عن أرضه قبل أن تضيع الأرض لا قدّر الله.

هذا نداء ورجاء لكل الفصائل في الغوطة المباركة: أطلقوا مَن بقي في سجونكم من مقاتلي الفصائل الذين اعتُقلوا في نزاعات السنين الماضيات. أطلقوا معتقَلي جيش الإسلام وفيلق الرحمن وأحرار الشام، أطلقوا أبا صبحي طه، أطلقوه يا قادة جيش الإسلام هو ومن بقي معتقلاً إلى اليوم من إخوانه في "جيش الأمة"، أطلقوهم وافتحوا لهم الطريق إلى الجبهات، فهي مكانهم اليوم، ليس مكانهم السجون والمعتقلات.

* * *

هذا يومٌ له ما بعده؛ لقد تغير في الغوطة كل شيء، تغير الناس وصاروا أقرب إلى الله، تغيرت الفصائل وصارت أبعد عن التنازع وأقرب إلى الاعتصام بحبل الله، فلتكمل الغوطة انتصارها على نفسها بعلاج أخطائها واجتثاث أسباب غضب الله، حتى تستحق معيّة الله وحفظ الله ونصر الله، والله خيرُ حافظٍ والله خيرُ الناصرين.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين