عناية الإسلام بالصحة من ناحية الطعام والشراب

أذيعت من حلب صباح يوم الأحد 11 من المحرم 1378، جعلها الله خالصة لوجهه الكريم. آمين.

أيها المستمع الكريم، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد.

فحديثي اليوم عن: عناية الإسلام بالصحة من ناحية الطعام والشراب.

إنَّ من أَجَلِّ نِعَمِ الله على العبد، وأجزلِ عطاياه ومِنحِهِ سبحانه أن يجعل الإنسان في صحة سابغة وعافية تامة، فذلك من أكبر النعم، وأغلى ما يحتاج إليه الإنسان في هذه الحياة، وقد أرشد إلى هذا المعنى رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي رواه البخاري عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "نعمتان مغبونٌ فيهما كثيرٌ من الناس: الصحة والفراغ".

وروى الترمذي وغيره عن عبيد الله بن مِـحْصَن الأنصاري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من أصبح منكم مُعافى في جسده، آمناً في سِربه - أي في نفسه - عنده قوت يومه، فكأنما حِيزَتْ - أي جُمعت - له الدنيا بحذافيرها". أي بجوانبها وأطرافها، وتوضيح هذا كما قال العلماء: أن من جمع الله له بين عافية بدنه، وأمْنِ قلبه، وكَفَاف عيشه، وسلامة أهله، فقد جُمِعَت له النِّعَمُ التي لو ملك الدنيا لم يحصل على غيرها، وقد روى الإمام أحمد والترمذي أن رجلاً جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، أيُّ الدعاءِ أفضلُ؟ قال: "سَلْ ربك العافية في الدنيا والآخرة". ثم أتاه في اليوم الثاني فقال: يا رسول الله: أيُّ الدعاء أفضل؟ فقال له مثل ذلك: "سل ربك العافية في الدنيا والآخرة". ثم أتاه في اليوم الثالث فقال: يا رسول الله: أي الدعاء أفضل؟ فقال له مثل ذلك: "سل ربك العافية في الدنيا والآخرة، فإنك إذا أُعطِيتَ العافية في الدنيا، وأُعطيتَها في الآخرة، فقد أفلحت". نعم لقد أفلح إذا أُعطي العافية، فإن العافية: هي الصحة والسلامة من الأسقام والبلايا الحسية والمعنوية، ولهذا جاء عنه صلى الله عليه وسلم فيما روى الإمام أحمد والترمذي عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه قال: قال رسول الله: "سلوا الله العفو والعافية، فإن أحداً لم يُعطَ بَعْدَ اليقينِ خيراً من العافية".

هذا، وما كان حِرْصُ الإسلامِ على الصحة والعافية هذا الحرص، وما كان للصحة والعافية في نظره هذا الموقع العظيم، إلا لأنها قِوام حياة الفرد المسلم، وعماد استطاعته الإتيان بالتكاليف والعبادات، ذلك أن العليل المريض لا تتاح له الفرصة التي تمكنه من أداء واجبه الإنساني الذي فرضه الإسلام، كما أنه لا يمكنه الجهاد في سبيل الله والذود عن حياض الدين والبلاد، فإن العلة تقعده عن ذلك، حتى قد يعوقه المرض عن السعي في طلب الرزق من أيسر مسعى وأقرب سبيل، فضلاً عن أنه يعاق عن أداء فريضة الحج وصوم رمضان وأداءِ الصلاة على أكمل وجه، فالإنسان - في نظر الإسلام - إذا كان مريضاً كان عضواً أشلَّ في مجتمعه، كَلَّاً على غيره مُعوِّقَاً له، مستهلِكاً غير منتج، ضعيفاً عن أداء واجبه الديني والدنيوي معاً، ولهذا كله حض الإسلام على العناية بالصحة، وحذَّر من إهمالها كُلَّ التحذير.

وإذا كانت حياة الإنسان في هذا الوجود تعتمد على الطعام والشراب كل الاعتماد، فقد رسم الإسلام فيهما خير توجيه وإرشاد، قال الله تعالى في سورة الأعراف: ﴿وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ﴾، فأمر سبحانه بتناول ما يُقيمُ البدن من الطعام والشراب، على أنه ينبغي أن يكون ما يتناوله الإنسان منها بالقدر الذي ينتفع به البدن في الكمية والكيفية دون إسراف ولا تقتير، فإن الإسراف مانعٌ من الصحة جالِبٌ للمرض، كما أن عدم الأكل والشرب مدعاة للمرض والضعف أيضاً.

وجاء في الحديث الذي رواه الترمذي وغيره أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ما ملأ آدميٌّ وعاءً شراً من بطنه، بحسب ابن آدم لُقيماتٍ يُقِمْنَ صُلْبَه، فإن كان لا بدَّ فاعلاً فثُلُثٌ لطعامه، وثلث لشرابه، وثلث لنَفَسه. فبيَّن صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث الشريف التوزيع الذي ينبغي أن يكون في الطعام والشراب حتى ينتفع بهما البدن، وتنتظم بهما الحياة، وذلك بأن يأكل الإنسان في ثلث بطنه، ويدع الثلث الآخر للماء، والثلث الآخر للنَّفَس، وفي هذا التوزيع العادل ما يجنب الإنسان من التخمة وأمراض المعدة التي هي أساس الأدواء، قال طبيب العرب الحارث بن كَلَدَة الثَقَفي: الِحمْيةُ رأسُ الدواء، والمعِدَةُ بيتُ الداء، وعوِّدوا كلَّ جسم ما اعتاد. ويظن بعض الناس هذا الكلام حديثاً عن النبي صلى الله عليه وسلم، وليس هو بحديث إنما هو من كلام الحارث بن كلدة الثقفي طبيب العرب.

وقد جاء عن رسول الله عليه وسلم في شرب الماء وآدابه وملابساته أحاديث كثيرة، كلها تهدف إلى تجنيب الإنسان المخاطر على صحته وبدنه، مما تكرر حاجته إليه في كل يوم، فجاء عنه صلى الله عليه وسلم النهي عن التنفس في الإناء أو النفخ فيه، روى البخاري وغيره عن أبي قَتَادة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إذا شرب أحدكم فلا يتنفس في الإناء. وفي حديث ابن ماجه، عن أبي هريرة: إذا شرب أحدكم فلا يتنفس في الإناء، فإذا أراد أن يعود فليُنَحِّ الإناءَ ثم ليَعُدْ إن كان يريد. وروى الترمذي عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يُتنفَّسَ في الإناء أو يُنفَخَ فيه. وهذا النهي من النبي صلى الله عليه وسلم عن التنفس أو النفخ في الإناء سواء أكان الذي في الإناء طعاماً أو شراباً، إنما هو للمحافظة على سلامة الأجسام والنفوس مما قد يصيبها من هذه الطريقة الخاطئة، فإنه قد يقع شيء من الريق في الطعام أو الشراب، فتعافه النفوس وتتقزَّز منه الطباع، كما قد يكون من فم النافخ رائحة مكروهة تتغير بها رائحة الإناء أو ما فيه، هذا إذا لم يكن معه مرضٌ مُعْدٍ أو داءٌ سار، ولهذا جاء النهي عن النفخ في الطعام والتنفس في الإناء قوياً صريحاً في أسلوب التحريم.

وروى البخاري ومسلم عن أنس بن مالك رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا شرب يتنفس في الشراب ثلاثاً. أي يبعد القدح عن فمه ويتنفس، ثم يعود إلى الشرب، فيشرب الكمية التي يحتاجها على ثلاث دفعات، ويبين صلى الله عليه وسلم فائدة ذلك فيقول: إنه أروى وأمرأُ وأبرأ. يعني أن الشرب بهذه الطريقة أشدُّ رياً للجسم، وأفضل هناءة ونفعاً له، وأبرأُ للعطش وأقضى عليه من الشرب دفعة واحدة كل الكمية التي يحتاج إليها العطشان.

على أن في الشرب دفعة واحدة ونَهْلَة مستعجلة آفاتٍ وأضراراً كثيرة، ولهذا نهى رسول الله عليه وسلم عن عبِّ الماء عَبَّاً، وهو أن يشرب الإنسان كمية كثيرة من غير تدرج ولا تنفُّس في أثنائها، روى البيهقي وغيره أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إذا شرب أحدكم، فلْيَمُصَّ الماء مصاً، ولا يَعُبَّ عَبَّا، فإنَّ الكُبَاد من العَبّ. والكُبَاد: وجع الكبد ومرضها، قال شُرَّاح الحديث: قد عُلِمَ بالتجربة أن ورود الماء جملة واحدة على الكبد يؤلمها، ويضعف حرارتها، وسبب ذلك: المضادةُ التي بين حرارتها وبين ما ورد عليها من كيفية الماء وكميته، ولو ورد عليها الماء بالتدريج شيئاً فشيئاً لم يضادَّ حرارتها، ولم يُضْعِفها، ألا ترى أن صب الماء البارد على القدر وهي تفور يهبط بدرجة حرارتها ويكسرها كسراً، ولو صُبَّ بالتدريج قليلاً قليلاً لم يؤثر عليها، فكذلك حال الكبد إذا نزل عليها الماء بقوة أو تدريج ومهل.

ويُشبِهُ النهيَ عن الشُرب عَبَّاً النهيُ عن الشرب من فم السِقاء، أي من فَمِ القِربة أو الآنية الكبيرة التي يُستقى منها، روى البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الشرب من فَمِ القِربة أو السقاء. قال العلماء: وفي هذا النهي حِكَمٌ بالغة، منها أن تردُّدَ أنفاسِ الشاربين في الإناء يكسبه زَنَخاً ورائحة منتنة، يُعافُ الشُربُ منه لأجلها، ومنها أنه ربما غلب الشاربَ الماءُ الداخلُ إلى جوفه فتضرر به، وقد يكون فيه حيوان لا يشعر به فيؤذيه، وربما كان فيه قذاة أو غيرها، فلا يراها عند الشرب فتدخل جوفه، على أن الشرب بهذه الطريقة المكرَّهة يملأ البطن من الهواء، فيضيق عن أخذ حظه من الماء، أو يزاحمه أو يؤذيه، وفي هذا ضرر بالغ يحرص كل عاقل على تجنبه وسلامته منه.

وروى أبو داود والإمام أحمد والحاكم عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن الشرب من ثُلمة القدح. أي من الموضع المكسور منه، وذلك لما في الشرب من ثلمة القدح من الأضرار والمفاسد، فمنها أنَّ ما يكون على وجه الماء من قذى أو غيره يتجمع إلى الثلمة ويترسب فيها، وأن الشارب من الثلمة لا يتمكن من حسن الشرب منها، فتضطرب عليه السقيا فلا يهنأ بما شَرِب، هذا فضلاً عن أن الزنخ والأوضار التي تجتمع في الثلمة لا يصل إليها الغسل والتنظيف كما ينبغي، فتترسب فيها الأوساخ والجراثيم، ويكون ذلك الشرب شراً على صاحبه لا خيراً له، وقد يجرح شَفَتَهُ جانبُ الثُلمة الحاد فيتأذى ويدخل من دمه في القدح فيتلوث الماء كذلك.

هذا قبس من هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم وتعليمه يتعلق بالطعام والشراب، قدمته للمستمعين رجاء الانتفاع به والعمل على منواله، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

من كتاب:" أيها المستمع الكريم" إعداد ومراجعة: محمد زاهد أبو غدة

جميع المواد المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين