عمرو بن عبيد الناصح الزاهد

رجال ومواقف

عمرو بن عبيد الناصح الزاهد

 

(1)

عمرو بن عبيد – أبو جعفر المنصور – المهدي بن المنصور

عمرو: يا أمير المؤمنين!.. أنت أحقُّ من بذلتُ له النصيحة، وأخلصتُ له القول. يا أمير المؤمنين!.. إنَّ مثال الناصح المشفق يثقل ويشتد فهو كالدواء المُر، لكنَّ نفعه يُرتجى، وإن مثال المنافق المتزلف يحلو ويصفو، فهو كالشراب السائغ، لكنَّ فيه سُمَّاً ناقعاً تظهر هجمته بعد حين. يا أمير المؤمنين!.. إني اخترتُ أن تكون مقالتي بين يديك مُرَّةٌ كالدواء فهل تأذن لي؟

المنصور: قل ما تشاء يا عمرو بن عبيد، فما أنت عندي بمُتَّهم.

عمرو: يا أمير المؤمنين!.. لقد ألقى الله تعالى بين يديك مقاليد خلقه، وإنك مسؤولٌ عنهم أجمعين. يا أمير المؤمنين!.. أترى هذه الخلائق الكثيرة تسكن في ديار الإسلام الواسعة الممتدة؟ والله ليكوننَّ أمير المؤمنين أبو جعفر المنصور مسؤولاً عن أحوالها بين يدي خالقها يوم القيامة.

المنصور: صدقت والله يا عمرو، "في صوت هادئ حزين" صدقت، صدقت.

عمرو: يا أبا جعفر المنصور!.. إنك في مقام يُنظر إليه، يُخشى ضرره، ويُرجى نفعه فانظر من تجالس؟ إنَّ أكثر مَنْ تجالسهم طلاب قوتٍ يا أبا جعفر، طلاب دارٍ تُسكَن، ومنحٍ تُعطى، وجوائز تُهدى..

المنصور: "في صوت هادئ" أما والله إنك لناصح.. أما والله إنك لجريء!..

عمرو: يا أمير المؤمنين!.. قل لنفسك: أكان هؤلاء الناس الذين يحيطون بك، يحرصون عليك مثل هذا الحرص لو لم تكن في مقامٍ يُخشى ويُرجى؟ "فترة صمت". يا أمير المؤمنين!.. إن هؤلاء يريدون أن يجعلوا منك سبباً للغنى والمال والمجد والجاه، عن أي طريقٍ كان، فانظر إلى نفسك يا أمير المؤمنين.. إنهم قد يصلون إلى ما يريدون، لكنك ستكون وحدك غداً بين يدي الله، فانظر ماذا أنت قائلٌ له؟

المنصور: ولكن، مَن لي بسرائرهم يا عمرو؟

عمرو: سرائرهم إلى الله يا أبا جعفر، وعليك أن تجتهد في الأمر، وأنت مِمَّن يعرف معادن الرجال.

المنصور: وهل أنت مُتَّهِمٌ لهم جميعاً؟

عمرو: معاذ الله يا أمير المؤمنين، ففيهم من طاب وزكا، لكن أكثرهم طلاب قوت.

المنصور: صدقت يا عمرو!.. "صمت" عِظني يا ابن عبيد.

عمرو: واحدة فحسب يا أمير المؤمنين!.. هذا المُلك العريض الذي بين يديك، أأنتَ أول مَنْ ملَكه؟

المنصور: لا.. يا عمرو.

عمرو: فلن تكونَ آخر مالكٍ له، وكأني بك اليوم أو غداً تودِّع الدنيا فتصير خبراً من أخبار التاريخ يُروى.

المنصور: "صوتٌ حزينٌ يخالطه البكاء" صدقت، صدقت، أما والله إنك لَناصح!..

          "فترة صمت" يا بُني إليَّ كيساً فيه عشرة آلاف درهم.

المهدي: سمعاً وطاعة. "حركة أقدام"

عمرو: يا أمير المؤمنين.. لِمنْ هذه الدراهم!؟

المنصور: لك يا ابن عبيد.

عمرو: لا حاجة لي فيها.

المنصور: يا عمرو، والله ما أنت عندي بمُتًّهَم. خذ هذا المال فضعه حيث تشاء.

عمرو: يا أمير المؤمنين!.. كأني إذاً ما حدَّثتكَ عن طلاب القوت.

المنصور: بلى والله، لقد تحدثتَ ونصحت، وأخلصتَ وأبلغت، وما أنت منهم.

عمرو: فما لي، وما لها يا أمير المؤمنين؟

المنصور: تضعها حيث ترى.

عمرو: فابعثها مع غيري.

المنصور: بل معك أنت يا عمرو.

          "حركة أقدام، وصوت خشخشة المال في الكيس"

المهدي: ها هو المال يا أمير المؤمنين!.. "يتناول المنصور، فيسمع صوت الدراهم"

المنصور: "في صوت هادئ" يا عمرو، ما أنت طالب قوت، وما أنت عندي بمُتَّهَم.. خذ هذا المال فضعه حيث تشاء.

عمرو: "في صوت هادئ" فليضعه غيري يا أمير المؤمنين.

المهدي: "في صوت غاضب عالٍ" ما هذا يا عمرو!؟ يحلف أمير المؤمنين وتحلف أنت؟

عمرو: "في صوت الهادئ" مَنْ هذا الفتى يا أمير المؤمنين؟

المنصور: هو ولي العهد، ابني المهدي.

عمرو: "في صوته الهادئ" أما والله لقد ألبستَه لباساً ما هو من لباس الأبرار، وسميتَه باسم ما استحقه، ومهَّدْتَ له أمراً، أمتع ما يكون به، أشغل ما يكون عنه "صمت.. ثم في صوت هادئ حاسم": يا ابن أخي، أبوك أقوى على الكفارات من عمك. "صمت"

المنصور: يا عمرو، هل من حاجة!؟

عمرو: "في صوت هادئ حاسم" لا تبعث إليَّ حتى آتيك.

المنصور: إذن لا تلقاني.

عمرو: هي حاجتي.. "صمت" أتأذن لي بالانصراف؟

المنصور: مصاحباً أيها الناصح الصادق. "صوت خطوات ثم باب يفتح ويغلق"

المنصور يكرر في صوتٍ هادئٍ حالمٍ عدة مرات:

                     كلكم يمشي رويد،  كلكم يطلب صيد، غير عمرو بن عبيد.

*****


جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين