عمرو بن الجموح رضي الله عنه شهيد أقسم على الله فأبره

الإسلام دين الرحمة ، ودين الفطرة ، دين رباني ، كامل شامل منظم لشؤون العباد ، الدنيوية والأخروية ، يراعي طاقاتهم وقدراتهم وإمكاناتهم وكفاءاتهم الجسدية والعقلية ، المادية والمعنوية ، ومن قواعد هذه الرحمة ، وأسس هذه الفطرة التي فطر الناس عليها ، والعدالة التي أقام الأرض والسماء عليها ، قوله جل وعلا في القرآن الكريم في سورة البقرة : ( لا يكلف الله نفساً إلا وسعها لها ماكسبت وعليها ما اكتسبت ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا ربنا ولا تحمل علينا إصراً كما حملته على الذين من قبلنا ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به واعف عنا واغفر لنا وارحمنا أنت مولانا فانصرنا على القوم الكافرين ) .وتماهياً وانسجاماً مع هذه الآية الكريمة جاء قوله تعالى في سورة الفتح أية : 17 : ( ليس على الأعمى حرج ولا على الأعرج حرج ولا على المريض حرج ومن يطع الله ورسوله يدخله جنات تجري من تحتها الأنهار ومن يتولّ يعذبه عذاباً أليما ) فذكر الله تعالى في هذه الآية الكريمة الأعذار المقبولة في ترك الجهاد كالعمى والعرج والمرض ، ونلاحظ أن منها ما هو دائم مستمر غالباً كالعمى والعرج ، ومنها ما هو مؤقت طارئ فإذا زال زال العذر.

وبين سبحانه فيها أنه لا إثم على هؤلاء في ترك الجهاد، وإنما يكون الإثم على من كان سليماً صحيحاً معافىً قادراً.

وهذا من رحمة الله بعباده ، ورأفته بهم من أن يكلفهم فوق طاقتهم .

ولكن كان في الجيل الأول الفريد ، من حملة هذا الدين ، من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، من سمت به نفسه ، وعلت به همته، فأبى إلا الجهاد في سبيل الله ، على الرغم من إعاقته الظاهرة ، وعرجه الشديد مع إعفاء الله جل وعلا له من هذه المهمة بنص الكتاب الكريم . 

إنه الصحابي الجليل والسيد المقدام الجواد ، الشهيد المبارك عمرو بن الجموح بن زيد بن حرام بن كعب بن سلمه الأنصاري الخزرجي الذي شهد العقبة ، وأراد الخروج إلى بدر فمنعه أولاده ، ولعله نال أجرها بصدق النية والعزم ، وقد حضر أحدا واستشهد فيها ، ودفن في قبر واحد هو وعبد الله بن عمرو بن حرام والد جابر بن عبد الله ، وذلك بأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد كانا صهرين متحابين متصافيين وزوجته رضي الله عنها هند بنت عمرو عمة جابر بن عبد الله ، وقد أسلمت قبله وأخفت إسلامها عنه، وله من البنون أربعة مثل الأسد يشهدون مع رسول الله صلى الله عليه وسلم المشاهد وهم : خلاد ، وأبو أيمن ، ومعوذ ، ومعاذ - قال جرير بن حازم عن ابن اسحاق معاذ بن عمرو بن الجموح شارك ابنا عفراء في قتل أبي جهل - وقد كان لهم ر ضي الله عنهم حنكة وحيلة جميلة في قضية إسلامه تدل على حبهم لأبيهم ورغبتهم في إسلامه وحرصهم على دعوته ، وتنفيره من وثنيته وجاهليته .

قصة إسلامه

لقد نجح سفير رسول الله صلى الله عليه وسلم مصعب بن عمير رضي الله عنه في مهمته في دعوة الناس إلى الإسلام في المدينة المنورة ، قبل وصول رسول الله صلى الله عليه وسلم إليها ، وكان فيمن أسلم حينئذ أبناء عمرو بن الجموح رضي الله عنهم .

وكذلك أمهم هند بنت عمرو بن حرام ، ولكنهم كانوا يخفون إسلامهم عن أبيهم ، لما يعلمون من شدته وحدته ، وتعلقه بوثنيته وجاهليته ، وصنمه مناف ، وذلك إلى جانب حرصهم الشديد على إسلامه ورغبتهم في إخراجه من الكفر إلى الإيمان ، وبخاصة بعد ما آمن غالب أشراف المدينة ، ومن جانب آخر فقد كان عمرو في الوقت نفسه يخشى على أولاده الإسلام ، والدخول في الدين الجديد ، فنادى أمهم يوماً قائلاً : إحذري يا هند على أبنائك من هذا الرجل - يعني مصعب بن عمير رضي الله عنه - فقالت هل لك أن تسمع إلى ولدك معاذ ، قال : أَ وَ قد أسلم ؟! قالت : بل اسمع ، فلما دخل معاذ ، قال له : أسمعني بعض مايقول هذا الرجل ، فقرأ عليه ابنه سورة الفاتحة: الحمد لله رب العالمين .... حتى آخرها فقال : ما أحسن هذا الكلام وما أجمله ، أَكلُّ كلامه مثل هذا ؟ قالوا : نعم ، فقال : ادعو لي الرجل يعني مصعباً رضي الله عنه فقرأ عليه من سورة يوسف ، فلما لمسوا عنده ارتياحاً واستحساناً لما سمع ، دعوه للإسلام ، فقال : لست بفاعل حتى أستشير مناف فأنظر ماذا يقول . سبحان الله ! وماذا عسى أن يقول صنم من خشب لا يسمع ولا ينطق ، ولكنها طبائع الوثنية الجاهلية التي أشربوها في قلوبهم ، فقام إلى صنمه فلما سأله ما تقول فيما يقول هذا الرجل ، فلم يجبه ولم يرد عليه ، قال : أعلم أنك غضبت غضبا شديدا ، لأن هذا الداعية الجديد ما جاء إلا ليسلبك مكانك ومنزلتك فينا ، ولكني سأتركك لأيام حتى يهدأ غضبك . عند ذلك أدرك أبناؤه أن الشك بدأ يسري في نفسه ، فعمدوا إلى حيلة ينتزعون بها إيمانه بهذا الصنم إنتزاعاً حكيماً رشيدا.

وهاكم القصة كما جاءت عن يونس بن بكير عن ابن اسحاق قال : كان عمرو بن الجموح سيداً من سادات بني سلمة ، وشريفاً من أشرافهم وكان قد اتخذ في داره صنماً من خشب يقال له : مناف ، يعظمه ويطهره ويطيبه ، فلما أسلم فتيان بني سلمة ، وفيهم ابنه معاذ بن عمرو ، ومعاذ بن جبل ، فكانوا يدخلون بالليل على صنم عمرو فيحملونه فيطرحونه في بعض حفر بني سلمة ، وفيها أقذار الناس منكباً على رأسه ، فإذا أصبح عمرو قال : ويلكم ، من عدا على آلهتنا هذه الليلة ؟ ثم يغدو فيلتمسه ويطلبه ، فإذا وجده غسله وطيبه ، ثم يقول : والله لو أعلم من فعل بك هذا لأخزينَّه ، فإذا كانت الليلة الثانية صنعوا به كما كان في الليلة السابقة ، فلما تكرر ذلك الأمر لعدة ليال جاء بسيفه فعلقه عليه ، ثم قال: إني والله لا أعلم من صنع بك ذلك ، فإن كان فيك خير فامتنع ، فهذا السيف معك ، فلما أمسى ، عدا عليه الفتية وأخذوا السيف من عنقه ، ثم عمدوا إلى كلب ميت فقرنوه مع الصنم بحبل وألقوه في بئر من آبار بني سلمة التي تلقى فيها الأقذار والجيف ، فلما أبصره على هذه الحالة ، أبصر رشده ، فكلمه بعض من أسلم من قومه ، فأسلم وحسن إسلامه ، ولما عرف من الله ما عرف ، أنشد يعيب صنمه ذلك ، وما أبصره من أمره ، ويشكر الله الذي أنقذه من العمى والضلال :

أَربّ يبول الثعلبان برأسه=لقد ذلّ من بالت عليه الثعالب

ويقول في أخرى : 

تالله لو كنت إلهاً لم تكــن=أنت وكلب وسط بئر في قرن

فالحمد لله العلي ذي المِنَن=الواهب الرزق وديّان الدِّيَن

ومن شعره رضي الله عنه الذي يصف فيه فرحه بدخوله في الإسلام ، ويذكر فيه توبته ونجاته من النيران :

أتوب إلى الله مما مضى=وأثني عليه بنعمائهِ

فسبحانه عدد الخاطئين=وقطر السماء ومدرارهِ 

هداني وقد كنت في ظلمة=حليف مناة وأحجارهِ

رجل الرياسة والكرم

كان عمرو بن الجموح رضي الله عنه قبل إسلامه زعيما من زعماء يثرب ، كريماً جواداً ، بل من خيرة أجوادها ، وهذا ما شهد له به رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فوصفه بأنه سيد بني سلمة .

روى الشعبي أن نفراً من الأنصار من بني سلمة ، أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال : من سيدكم ؟ فقالوا : الجَدُّ بن قيس على بخل فيه ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : وأي داء أدوى من البخل !! بل سيدكم الجَعدُ الأبيض عمرو بن الجموح ، وفي ذلك يقول شاعرهم : 

وقال رسول الله والحق قوله=لمن قال منا مَن تُسمون سيدا

فقالوا له جَدُّ بن قيس على التي=نبخله فيها وإن كان أسودا

فتى ما تخطّى خطوة لدنية=ولا مَدَّ في يوم إلى سوءة يدا

فسوَّد عمرو بن الجموح لجودهِ=وحُقَّ لعمرو بالندى أن يُسَوَدا

إذا جاءه السؤال أذهب ماله=وقال خذوه إنه عائد غدا

إنه نعم السيد ونعم الجواد ، رجل سَوَّده رسول الله صلى لله عليه وسلم ، وشهد له بذلك سيد الخلق الخبير بالرجال ، من جاء بالشريعة السمحة ليتمم مكارم الأخلاق.

جهاده واستشهاده

قال أصحاب السير : لما ندب رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس إلى بدر ، عزم عمرو رضي الله عنه على الخروج معهم ، فمنعه بنوه ، بأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم لشدة عرجه ، فبقي بالمدينة على مضض وضيق وحرج شديد أن يرى نفسه مع القاعدين من النساء ، والولدان والشيوخ ، فلما كان يوم أحد وجحافل المشركين من قريش تحث الخطى إلى المدينة المنورة ، لتثأر لقتلاها وكرامتها وكبريائها التي أذلت ، بل ديست يوم بدر ، وبينما كان رسول الله يشحذ الهمم ، ويعد العدة ويجمع الصحابة لصد العدوان ، ورد الغزاة ، كان عمرو بن الجموح يدير حواراً ماتعاً وشديداً مع أبنائه الذين أرادوا حبسه عن الجهاد في هذا اليوم كما منعوه يوم بدر ، وبالحجة نفسها ، فقال لهم : لقد منعتموني الخروج إلى بدر ، فلا تمنعوني الخروج إلى أحد ، فقالوا : إن الله قد عذرك ، ولا يصلح أمثالك للكر والفر .

فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : إن بَنِيّ يريدون أن يحبسوني عن هذا الوجه ، والخروج معك فيه ، فوالله إني لأرجو أن أطأ بعرجتي هذه في الجنة ، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( أمّا أنت فقد عذرك الله تعالى ، فلا جهاد عليك).

ولكن لما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم رغبة عارمة في نفس عمرو لخوض المعركة ، ونيل الشهادة ، قال : ( والله لكأني أنظر إليك تمشي برجلك في الجنة وهي صحيحة ) ثم التفت إلى بنيه وقال : ( ماعليكم ألا تمنعوه لعل الله أن يرزقه الشهادة) . فلما سمع عمرو ذلك من رسول الله صلى الله عليه وسلم، خرج رضي الله عنه فرحاً مسروراً مستقبل القبلة يقول : ( اللهم لا تردني إلى أهلي خائبا)

وأخرج الإمام أحمد في مسنده : ( الحديث رقم 299 \ ج 5 ) 

أتى عمرو بن الجموح رضي الله عنه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: 

يارسول الله أرأيت إن قاتلت في سبيل الله حتى أقتل ، أمشي برجلي هذه صحيحة إلى الجنة ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : نعم . فقتلوه يوم أحد هو وابن أخيه ومولى لهم . فمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بهم وهو يتفقد القتلى ، فأمر أن يجعلوا في قبر واحد .

يقول ابن القيم رحمه الله تعالى في كتابه زاد المعاد : في هذا الخبر دليل على أن من عذره الله في التخلف عن الجهاد لمرض أو عرج ، يجوز له الخروج إليه ، وإن لم يجب عليه ، كما خرج عمرو بن الجموح رضي الله عنه وهو أعرج .

وهذا مما يدخل في باب الأخذ بالعزيمة مع وجود الرخصة . ولله دره رضي الله عنه من صاحب عزيمة ، ورب شجاعة ، سارت به إلى جنة عرضها السماوات والأرض. كما فيه دليل على رغبته بالشهادة ، وصدقه في طلبها ، وقد أكرمه الله بذلك ، وهذا مصداق قول رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( من طلب الشهادة بصدق بلغه الله منازل الشهداء ، ولو مات على فراشه ) . فما بالك بمن سعى إليها سعيها ، واقتحم معامعها ، وخاض غمارها ، حتى أثخنته الجراح ، ونزفت منه الدماء ، وتناثرت الأشلاء، وبعد استشهاده رضي الله عنه ، حضرت أرض المعركة زوجه هند بنت عمرو ، وعمة جابر بن عبد الله ، فحملته ، وحملت أخاها عبد الله بن عمرو بن حرام تريد المدينة ، ولكن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن ذلك وأمر برد القتلى إلى أرض المعركة ، فدفنا في قبر واحد ، وقال: والذي نفسي بيده لقد رأيته يطأ في الجنة بعرجته – يعني صحيحة سليمة - . 

وكان رضي الله عنه ممن حمل على المشركين هو وابنه خلاد ، حين كان ما كان من التفاف خالد بن الوليد وهو يومئذٍ على الشرك مع كتيبة من الفرسان من خلف جبل الرماة فانكشف جيش المسلمين ، وتَضَعضَعت صفوفهم ، فكان عمرو رضي الله عنه ممن ثبت حول رسول الله صلى الله عليه وسلم مدافعاً شديداً ثابتاً حتى استشهد هو وابنه رضي الله عنهما ، وهكذا استجاب الله دعاءه فلم يعد إلى أهله من أُحُدٍ خائباً ولا خاسراً ، وإنما عاد وكما أراد واشتهى وتمنى سعيداً فرحاً بما آتاه الله من فضله ، مصداقاً لقوله تعالى: ( ولاتحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتاً بل أحياء عند ربهم يرزقون ، فرحين بما آتاهم الله من فضله ... )

ونختم الحديث بذكر كرامة عظيمة جميلة له رضي الله عنه ، فعن عبد الرحمن بن أبي صعصعة ، أنه بلغه أن عمرو بن الجموح وعبد الله بن عمرو الأنصاريين ثم السلميين ، كانا قد حفر السيل قبرهما، وكان قبرهما مما يلي السيل ، وكان قبرهما واحدا ، وهما ممن استشهد يوم أحد ، فحفر عنهما ليغيرا من مكانهما ، فوجدا لم يتغيرا ، كأنهما ماتا بالأمس ، وكان أحدهما قد جرح فوضع يده على جرحه ، فدفن وهو كذلك ، فأميطت يده عن جرحه ثم أرسلت ، فرجعت كما كانت .

وكان بين أحد وبين يوم حُفِر عنهما ست وأربعون سنة .

رحم الله شهداء أمة الإسلام ، وجعلهم مصابيح هدى ، ومنائر هداية ، على طريق العزة والكرامة للأمة.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين