على هامش مقال الشيخ اليعقوبي : مستقبل الشرق الأوسط

 

1 – هذا المقال مثير للجدل، ولكنه نتاج أناة وتفكير. تحرك فيه كاتبه في مساحة زمنية واسعة، تعود إلى ما قبل مائة عام وحتى اللحظة الحاضرة، التي لم يشأ أن يتوقف عندها، وإنما عبرها باتجاه المستقبل ، ليتوقع أشياء، بناها على أسس من الواقع الذي شهدته  وما زالت تشهده المنطقة، ممثلة بأحداث متلاحقة، لا يكاد المرء يقف على واحد منها ، حتى يفاجأ بجديد .

2 - بيد أن المقال يرسم صورة، هي غاية في السوداوية والتشاؤم ، ويبشر بقادم أسوأ من الحاضر الذي تقطع فيه رؤوس الرجال، وتبقر فيه بطون النساء، ويذبح فيه الأطفال الأبرياء . وكل هذا الذي يحدث ، ما هو في نظر الكاتب سوى مقدمة بسيطة لقادم أسوأ وأبشع ..

3 – يبشر الشيخ بتقسيم المقسم، وتجزئة المجزأ، وتحول خارطة الشرق الأوسط إلى كيانات صغيرة متناحرة على أساس طائفي ، وعرقي معا . ليتسنى لإسرائيل أن تنتقل من مرحلة " تأمين الحدود " إلى مرحلة التمدد والتوسع خارج الحدود، وفرض هيمنتها على منطقة الشرق الأوسط بكاملها .

4 – يرى الكاتب أن الغرب يخطط لما يرسمه للمنطقة، عن طريق صراع شيعي سني، يعتمد على التطرف من الجانبين . حتى إذا تفانى الطرفان، واكتوت الشعوب بنار التطرف الديني، ولم يعد أمامها منقذ سوى إسرائيل، التي سوف تتدخل آنذاك بتفويض من الشعوب نفسها ، وبدعم من المجتمع الدولي ، فتضرب ما تبقى من قوىً شيعية وسنية ، لتبدأ مرحلة جديدة ، لا هَمَّ للشعوب فيها سوى الحصول على الطعام والماء والأمان . وإسرائيل سيكون لديها ذلك كله ..

5 – وخلص الكاتب إلى عرض حلٍّ، يرى أنه يؤمن الخلاص من كل هذه الويلات ، فدعا إلى نبذ ما يسمّى بالإسلام السياسي، والجماعات المتطرفة ، ويطالبنا بالسير في ركاب العلماء والأمراء ، ويحث على التعامل مع الخصوم من منطلق ( اذهبوا فأنتم الطلقاء ) ..

وهنا بداية الخبط والعشوائية في التفكير .. كيف يضعنا الكاتب المحترم أمام كل هذه المخاطر، ثم يدعونا إلى وسيلة إنقاذ ثبت فشلها في الماضي ، فهو يدعونا إلى السير في ركاب الأمراء والعلماء .. وأكثر هؤلاء لم يقدموا للأمة على مدى مائة عام خيرا قط .. وما زالت الأمة تراوح في المكان مرة، وترجع إلى الوراء مرات .

وقد ركز الشيخ على ضرورة الالتفاف حول مشايخ الطرق، والاكتفاء في مقاومة الطغاة بالأوراد والأذكار والدعاء . بل إنه عمد إلى تزوير التاريخ لتمرير هذه الفكرة الخاطئة ، فزعم أن فتح القسطنطينية إنما كان بالحكمة والرحمة والذكر والسلوك .. فهل فتحت القسطنطينية بتلاوة البخاري على نيَّة الفتح ، أم أنها فتحت بدعوة شيخ أشعث أغبر ذي طمرين مدفوع بالأبواب ، لو أقسم على الله لأبرَّه ..

نحن لا ننكر الدعاء كسبب في إحراز النصر على الأعداء، وإنما ننكر أن نركن إلى الدعاء ونحن نعصي من ندعوه، ونخالف أمره بإهمالنا في إعداد القوة، وإعراضنا عن توحيد الصف، وقعودنا عن إيجاف الخيل والركاب لإرهاب عدوِّ الله وعدونا ..

6 – إن دعوة الشيخ الفاضل إلى المقاومة بالذكر والسلوك والمراقبة ، والتماوت بين أيدي مشايخ الطرق، لن يجلب نصرا للأمة، وإن الدعوة إلى مقابلة الإساءة إلى الدين والنفي والعرض والمال .. بقول : " اذهبوا فأنتم الطلقاء " هي دعوة في غير محلها، لأن النبي أذن لهم بالقتال، فقاتل .. وخاض معركة بدر وأحد والأحزاب ومعركة الفتح ، التي مكنه الله فيها من رقاب أعدائه ، فجلسوا بين يديه ضعفاء أذلاء .. قال لهم وهو في موقف القوة: " اذهبوا فأنتم الطلقاء " أما أن يقول الضعفاء للأقوياء مثل هذا، فهو حجة لا يرتضيها كرام الناس . ولا الشاعر المتنبي، الذي استشهد الشيخ بأحد أبياته، ونستأذنه بالاستشهاد ببيت آخر لهذا الذي يقول :

كل حلم أتى بغير اقتدار :  حجة لاجئ إليها اللئامُ

وأما ما يدعونا إليه الشيخ من القعود عن الجهاد في سبيل الله ، وتعطيل هذه الشعيرة الإسلامية، التي تمثل ذروة سنام الإسلام ، وصرف وجوه المسلمين عنها، إلى جهاد النفس، وممارسة السلوك  الصوفي، فتلك دعوة تذكرني بدعوة غاندي صاحب نظرية المقاومة عن طريق ( اللاعنف )، ولعل الشيخ - حفظه الله- يجهل أن غاندي هو صنيعة بريطانيا، وأنها هي التي أعدته وهيأته ليقود الحراك الهندي بهذه الطريقة السلمية، لأن المسلمين كانوا يعدون العدة لمقاومة المستعمر البريطاني وطرده من الهند .. لذلك ما كان من بريطانيا إلا أن قامت بالقبض على زعماء المقاومة الإسلامية، وجاءت بغاندي الذي كان تربى في أحضانها تسع سنوات، فجعلت منه بطلا قوميا ،  وسلمت الهند للهندوس، وانتزعتها من أيدي المسلمين، تماماً كما فعلت بفلسطين، حين خرجت بريطانيا منها، وسلمتها لليهود،  الذين أخرجوا المسلمين من ديارهم ..

لهذا نقول لفضيلة الشيخ : ألم يقرأ قوله تعالى : ( أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ * الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلاَّ أَن يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ* ) ..؟؟ وقوله تعالى :
( وَلَوْلاَ دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَّفَسَدَتِ الأَرْضُ ) .؟؟ ولو جلس النبي مدى حياته ولم يجرد سيفا، لما انتشرت دعوته في الجزيرة العربية، ولما قدر لها البقاء، حتى قهرت أكبر إمبراطوريتين كانت على ظهر الأرض ، روما وفارس . 

7 – نعود إلى كلامه عن دعوة الإخوان المسلمين، واتهامها بعدة أمور هي منها براء .. فقد زعم سامحه الله :

1 – بأن جماعة الإخوان المسلمين، هي عميلة للغرب، وأداة في يده لتنفيذ مخططات إسرائيل في التوسع . لذلك هللت إسرائيل لفوز مرسي برئاسة مصر .. لأن فوزه سيكون تمهيدا لخراب مصر .

2 – وزعم أن جماعة الإخوان المسلمين هي سبب خراب سوريا من خلال المعارضة التي قادتها ، وفشلت في قيادتها . حتى بات قيام حكم ديمقراطي في سوريا حلما ، تبخر وضاع أدراج الرياح .

3 – وقام الكاتب بنظم الإخوان والقاعدة في سلك واحد .

4 – وزعم أن الإخوان أسوأ من السيسي، بل أشاد بوطنية السيسي ، وزعم أن وجوده قد يفشل المخطط الغربي، وينقذ بلاده من براثن الإخوان المسلمين (كذا) ..

وقاتل الله التعصب كم يحمل صاحبه على ظلم الآخرين .. ولئلا يتهمني أحد بأنني من الإخوان، وأدافع عنهم، فتكون شهادتي مجروحة ، أطمئن القارئ إلى أنه لم يُقدَّر لي شرف الانتماء إلى هذه الجماعة الإسلامية، وإن كنتُ لا أنكر أنني قرأت كافة كتبهم، وتربيت على موائد فكرهم، وأحببت رجالاتهم الأفذاذ من أمثال : حسن البنا، وسيد قطب، ومحمد قطب ، والشيخ محمد الغزالي .. وكان وما زال لتفسير سيد قطب " في ظلال القرآن " مكانة في نفسي لا يدانيها كتاب إسلامي آخر . ولا زلت أحنُّ لقراءة شبهات حول الإسلام لمحمد قطب والتطور والثبات ، وجاهلية القرن العشرين ... وكان لكتابات الشيخ الغزالي أعظم الأثر في تكوينيَ الفكري .. وما لمست ولا شعرت ولا أحسست بأن هذه الجماعة عميلة لشرق ولا لغرب، وإنما هي متهمة بالإرهاب، ومطاردة من دول الشرق والغرب منذ قيامها وحتى الآن .

قد يكون الإخوان أخطؤوا في الترشح لمنصب الرئاسة، لأنهم ورثوا بذلك دولة منهارة، مثقلة بالديون، قد تغلغل الفساد في كل ذرة منها ، واستلام الحكم فيها بعد مبارك، كان مغامرة ما كان ينبغي ركوبها .. ولكنهم اجتهدوا ولم يحالفهم الحظ بالنجاح، ولم يجدوا عونا من الآخرين، وإنما وقفت الدنيا كلها ضدهم. ولو كان نجاح مرسي مؤيدا من قبل إسرائيل وأمريكا لما سقط البتة ..

ونعود إلى سوريا، ولست أدري كيف جاز اتهام الإخوان المسلمين بخراب سوريا .. فهم ليسوا سوى جزء من المعارضة، وليسوا جزءا مسيطراً، وحتى اليساريون من أمثال اللبواني وميشيل كيلو لم يتهموا الإخوان بالاستئثار بقرارات المعارضة .. فكيف جاز للشيخ اليعقوبي أن يتهم الإخوان بما يبرئهم منه خصومهم الألداء ..

وأما جعل الإخوان والقاعدة شيئا واحدا، فهذا من غرائب الأحكام .. فالإخوان في سوريا، باتوا يمثلون ما يسمى بـ " الإسلامي السياسي المعتدل " والقاعدة تمثل غاية التطرف في نظر العالم، ولا تؤمن إلا بالعنف مع كافة الأنظمة القائمة ..

وأخيرا فمن عجائب الدنيا، أن يعتبر مرسي مفسدا في الأرض ، والسيسي مصلحا. وهنا لا يسعني إلا أن أختم كلمتي بقوله صلى الله عليه وسلم : يَا ابْنَ مَسْعُودٍ إِنَّ مِنْ أَعْلامِ السَّاعَةِ وَأَشْرَاطِهَا أَنْ يُصَدَّقَ الْكَاذِبُ، وَأَنْ يُكَذَّبَ الصَّادِقُ، يَا ابْنَ مَسْعُودٍ، إِنَّ مِنْ أَعْلامِ السَّاعَةِ وَأَشْرَاطِهَا أَنْ يُؤْتَمَنَ الْخَائِنُ، وَأَنْ يُخَوَّنَ الأَمِينُ .. ) رواه الطبراني في المعجم الكبير .

 

 

 

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين