على هامش التاريخ الإسلامي نحو فهم شفاف للسنن الحضارية

 
 
 
ماهر سقا أميني
 
 
يسفه المؤرخون الإسلاميون المعاصرون المناهج الأخرى التي تقدم بها غيرهم في قراءة التاريخ الإسلامي كالقراءة الاقتصادية الاجتماعية والقراءة العروبية والقراءة الشاملة لتطور وتغير الأفكار والقراءات الاستشراقية بحجة أنها قراءات ايديولوجية تقوم على الانتقاء والتفسير الأحادي وتسخير الحدث التاريخي بعد ليه لخدمة أغراض غير موضوعية في الوقت الذي يتعاملون هم أنفسهم مع التاريخ الإسلامي بالطريقة نفسها القائمة على الانتقائية والأحادية في النظر والتأويل وتسخير التاريخ لأهداف الوعظ والاعتزاز بالتاريخ الإسلامي، فما يفعله الآخرون يفعلونه بشكل أكبر من دون أدنى موضوعية يلزمها قراءة تجمع بين كل القراءات السابقة مع القراءة الإسلامية للوصول إلى أكبر قدر من الصدق والشفافية وفهم السنن التاريخية والحضارية .
 
فالقراءة الاقتصادية الاجتماعية من دون مبالغاتها الايديولوجية تفيد في فهم طبيعة المجتمع الجاهلي ماقبل الإسلامي وتراتبية المصالح التي كانت فيها ما جعل الإسلام خطرا كبيرا يهدد كبراء قريش لاسيما بعد أن كانت القبلة الأولى للمسلمين إلى المسجد الأقصى مما يهدد مكانة قريش المعنوية والمادية ومكاسبها من وجود الحرم المكي فيها، وبعد تحرر العبيد والموالي من الخوف والخضوع النفسي لأسيادهم بعد إيمانهم بالله الواحد الأحد الذي لا تجب العبودية لغيره، وبعد تهديد رصيد الأوثان المعبودة في النفوس بما يكمن وراءها من منافع ومن سن قوانين ذات صلة بها تصب في مصالح الكبراء، وبالتالي يمكن القول إن هذه القراءة مفيدة وغير (مضحكة) كما يقول أحد المؤرخين المسلمين المعاصرين بل إنها تكاد تكون ضرورية وملحة لفهم التغيير الذي قام به الإسلام بتشريعاته الجديدة كالإرث والزكاة والصدقات مما عاكس اتجاه تجمع الثروات في يد قلة من الناس وعمل على تفتيتها وإعادتها إلى أكبر قاعدة ممكنة من الناس إرساء لقيم العدالة الاجتماعية في نموذج إسلامي فريد،
 
والقراءة العروبية تفيد في فهم المحيط الذي نزل فيه الإسلام وهو محيط عربي بلغته وقيمه وأحكامه وعاداته وتقاليده، وفي فهم الحضارة التي أسس لها الإسلام وهي حضارة عربية وإسلامية حتى بمشاركات النصارى واليهود فيها، فقد كان نزول القرآن بلغة عربية وكون الوحي الآخر ممثلا بالسنة النبوية الشريفة معبرا عنه بلغة عربية بكل ما تعنيه اللغة من طرائق تفكير وتعبير ومحتويات قيمية توجيها لكل المسار الحضاري الإسلامي ضمن قالب عربي أصيل من دون المبالغات القومية التي وصلت إلى حد اعتبار الإسلام إنجازا بشريا عربيا مما نفر الناس من منهجية هذه القراءة وأساليبها وطرائقها، ومرة أخرى يمكن تأكيد أن القراءة العروبية ليست مضحكة كما يؤكد صاحبنا بل هي على مستوى المنهج قراءة علمية يمكن جمعها مع المناهج الأخرى في فهم السياقات التي كان للإسلام النازل من السماء أدوار في توجيهها وتغييرها، ولا أفهم حتى الآن تشبث معظم الوعاظ بلغة عربية تنتمي إلى عصور سالفة في الوقت الذي ينفون فيه أي صلة للإسلام كدين موحى به بالأوعية الزمانية والمكانية واللغوية العربية التي مارس من خلالها تأثيراته في المجتمعات العربية وغير العربية الإسلامية .
 
والقراءة الشاملة لتاريخ تطور الأفكار لا تعني أن الإسلام فكر بشري جاء في سياق تطور فكري معين كما مارسها بعض الدارسين بقدر ما تؤكد أن الوحي لعب أدوارا جوهرية في تسيير وتغيير وتطوير الفكر البشري في منعطف مهم لانزال نعيش تأثيراته إلى يومنا هذا، فإذا كان القرآن الكريم والسنة الشريفة وحيين نازلين من السماء فإن هذا لا يعني أن المسلمين الأوائل بفكرهم وسياقاته قد نزلوا من السماء مع الوحي أيضا، وقد تعامل الإسلام مع وضع فكري وقيمي معين عند نزوله وأعاد توجيهه باتجاهات أخرى ما كانت لتحدث لولا نزول الإسلام في لحظة زمنية تاريخية فكرية أرضية معينة .
 
أما القراءات الاستشراقية فقد اعتبر المستشرقون في الخطاب الإسلامي التقليدي نوعا من المفسدين في الأرض حتى إن أية شبهة تثار تنسب مباشرة إلى المستشرقين حتى ولو كانوا لا صلة لهم بها، وعلى الرغم من أن جزءا من الجهد الاستشراقي كان منحازا ويصب في خدمة الأغراض الاستعمارية التوسعية أو الأغراض السياسية الاستراتيجية إلا أنه لا يمكن تجاهل المنافع التي جرها البحث الاستشراقي في تحقيق وإبراز جزء مهم من المنجز البشري الإسلامي على اتساع أطيافه واتجاهاته .
 
لقد قرأت مقالا للشيخ راشد الغنوشي يدعو فيه إلى الإفادة من كل مناهج البحث العلمي في العلوم الإنسانية على مستوى المناهج وليس على مستوى نتائجها الموجهة ايديولوجيا وذلك لفهم واقعي وحقيقي لتاريخ الإسلام وحاضره بعيدا عن التحيزات المبالغة في الورع الشال للقدرة على التبصر .

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين