على هامش التاريخ الإسلامي مفهوم الجاهلية في السنة الشريفة

 
ماهر سقا أميني
 
جاءت أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم لتتفق مع ما ورد في القرآن الكريم في تحديد معاني وأطر الجاهلية، ففي حديث مسلم عن أبي مالك الأشعري أن النبي عليه الصلاة والسلام قال: (أربع في أمتي من أمر الجاهلية لا يتركونهن: الفخر في الأحساب والطعن في الأنساب والاستسقاء بالنجوم والنياحة)، فالفخر والطعن المذكوران يتصلان بالجانب الأخلاقي والعصبي من الجاهلية، والاستسقاء بالنجوم نوع من الشرك والنياحة عدم تسليم بالقدر .
 
وفي حجة الوداع قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ألا كل شيء من أمر الجاهلية تحت قدمي موضوع، ودماء الجاهلية موضوعة . . . وربا الجاهلية موضوع . . .)، وفي حديث أبي هريرة مما رواه الترمذي: (إن الله أذهب عنكم عبية الجاهلية وفخرها بالآباء، مؤمن تقي وفاجر شقي، أنتم بنو آدم، وآدم من تراب، ليدعن رجال فخرهم بأقوام إنما هم فحم من فحم جهنم، أو ليكونن أهون على الله من الجعلان التي تدفع بأنفها النتن) .
 
ومنه أيضاً مخاطبته صلى الله عليه وسلم لأبي الدرداء رضي الله عنه: (إنك امرؤ فيك جاهلية) لأنه عير بلالاً رضي الله عنه-في زلة لسان- بأمه .
 
والذي يقرأ من أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم اتفاقها مع ماورد في القرآن الكريم حول الجاهليات الأربعة: جاهلية العقيدة والإيمان القلبي، وجاهلية تحكيم غير شرع الله عز وجل وجل ما ينطوي على ظلم كبير (كالربا والدماء)، والجاهلية الأخلاقية، وجاهلية العصبية والحمية ومنها عصبية الأنساب .
 
لقد جاء الإسلام إذن ليصحح اعتقاد الناس من حيث وجود خالق عظيم لهذا الكون لا عبودية لغيره (وفي هذا تحرير لمطلق الإنسان من أية عبوديات يمكن أن تستغله حتى ما يظن أنه مما يتشفع أو يستسقى به كالنجوم وغيرها، كما جاء ليرسي قيم المساواة بين البشر والعدالة الاجتماعية فلا فضل لأحد على أحد إلا بالتقوى، وجاء داعياً إلى الأخلاق الحميدة منقياً أجواء المجتمع البشري من أي انحراف تفسد آثاره الصحة النفسية والاجتماعية، وجاء بتشريع يلغي كل القوانين التي استغلت أو يمكن أن تستغل الرأسمال الديني أوالمادي لايقاع ظلم بين الناس، وأخيراً جاء لمحاربة العصبيات بكل أنواعها سواء أكانت لنسب أو لانتماء وفي ذلك إرساء لقيم العدل وإيقاظ للعقل من سبات الحميات الجاهلة .
 
والذي يفهم أيضاً من سياقات ورود لفظ الجاهلية في القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة إنه لفظ من مبتكرات الإسلام، وأنه ينسحب على الكفر كما ينسحب على المعاصي التي لا تخرج الإنسان عن الدين، وأنه لا يختص بحال العرب قبل الإسلام وإنما هو مفهوم شامل يقابل كل خروج عن العقيدة الصحيحة التي هي أصل كل عقل وعلم سليم، وعن الاحتكام إلى غير دين الله عز وجل ما يكون سبباً في ضياع الحقوق، وعن الأخلاق التي دعا إليها الإسلام وأكد عليها، فضلاً عن الحمية أو العصبية التي تكون لنسب أو انتماء مهما كان، دون العصبية للحق مع الايمان الواعي به .
 
ومن كل هذا نصل إلى أن مفهوم الجاهلية كمصطلح لا يعني ما وظف به - من معاني السفه وخفة العقل والجهل المطلق وانعدام المروءة والنبل وكل خلق كريم والانجرار الأعمى وراء كل شهوة- وألحق بحال العرب قبل الإسلام، إنما هو تأطير لكل ما خالف الإسلام بعد نزوله، وتصنيف لكل خروج عن العقيدة الصحيحة بعد بيانها، والاحتكام لغير الشريعة بعد نزولها وبيان أحكامها، والانسياق وراء العصبيات العرقية أو القبلية أو غيرها مما قد يوجد كل يوم مما يحول دون النظر السليم والعدالة القويمة .
 
ليس هذا دفاعاً أو تجاهلاً لممارسات جاهلية في فترة ما قبل الإسلام مما فنده القرآن الكريم وظهر أمره في السنة الشريفة بقدر ما هو توقف حذر من إطلاق وصف أو إدانة كلية عامة وشاملة- غير موضوعية - لمجتمع كان قبل الإسلام انطلاقاً من معايير لم تكن يومها موجودة ولم تكن قد أطرت في دين سماوي هو من عطاءات الله تعالى .

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين