على هامش التاريخ الإسلامي في معنى الجاهلية

 
 
 
ماهر سقا أميني
 
 
قد يسأل سائل عن الحكمة وراء بيان ما فعله أكثر المؤرخين المسلمين من تشويه وتسويد مبالغ فيه لصفحة مجتمع ما قبل الاسلام مادام الإسلام قد جاء ليؤسس لمنظومة أخلاقية وحياتية فردية وجماعية كاملة وصالحة إلى يوم القيامة، أقول أولا إن ما فعله المؤرخون هو سنة اجتماعية عامة، فكل منتصر بارز يحاول أن يلغي كل ما قبله ويبخس ويشوه فيما لا يستطيع إلغاءه، وقد وصل هذا التزوير إلى الكذب على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم أكثر من مرة، كان آخرها في بدايات العصر العباسي عندما وضعت أحاديث بالجملة تطعن في معاوية رضي الله عنه وذويه وتشيد بالعباس رضي الله عنه وبنيه وذراريه، وثانياً أن أسوأ ما في كتابة التاريخ هو أدلجته، أي: كتابته بشكل غير موضوعي وانتقائي انطلاقا من رغبة في توظيفه لأغراض أخرى حتى وإن كانت سامية، ذلك أن المزور مزور، والغاية لا تبرر الوسيلة، وقد تكون النتيجة كارثية كما حصل في مصطلح (الجاهلية) الذي تم استحضاره في القرن العشرين ليوظف سياسيا أسوأ وأخطر توظيف عصف بالأمة كاملة كما سنبين في هذه السطور وفي مقالات أخرى .
 
وحتى نضع تعريفاً جامعاً ومانعاً لمصطلح الجاهلية نقف أولاً على معانيه في القرآن الكريم حيث ورد في أربع آيات مدنية، ثم نقف على ماورد في الحديث النبوي الشريف بشأنه، والقرآن الكريم والسنة المطهرة خير بيان لأبعاد الجاهلية المرفوضة والتي جاء الاسلام لمعالجة أمراضها ومعافاة المجتمعات البشرية منها .
 
يقول الله تعالى في سورة آل عمران: (وطائفة قد أهمتهم أنفسهم يظنون بالله غير الحق ظن الجاهلية يقولون هل لنا من الأمر من شيء قل إن الأمر كله لله) والمقصود في هذه الآية الكريمة التكذيب بالقدر كما في تفسير القرطبي ذلك أن المنافقين في غزوة أحد تكلموا في القدر ولم يحسنوا الظن بالله والثقة به وهذا يتصل بالجانب المعرفي والإيماني القلبي لمصطلح الجاهلية .
 
وفي سورة المائدة قوله تعالى: (أفحكم الجاهلية يبغون ومن أحسن من الله حكماً لقوم يؤمنون) ذلك أن أهل الجاهلية كانوا - مع اليهود - يقيمون الحدود على الفقراء والضعفاء ولا يقيمونها على الأغنياء والأقوياء، وهذا يتصل بالعدالة الاجتماعية التي لا تتحقق إلا بتحكيم شريعة الله عز وجل، ذلك أن أهواء الناس لا يمكن أن تؤدي في حال من الأحوال إلا إلى الظلم ومحاباة أناس على حساب أناس .
 
وفي سورة الأحزاب قوله تعالى: (وقرن في بيوتكن ولا تبرجن تبرج الجاهلية الأولى) مخاطبا نساء النبي عليه الصلاة والسلام، وفي تفسير الطبري: “وجائز أن يكون ذلك ما بين آدم وعيسى فيكون معنى ذلك: ولا تبرجن تبرج الجاهلية الأولى التي قبل الاسلام وهو يتصل بالجانب الأخلاقي العاصم للمجتمع من العلل والأمراض والانحرافات” .
 
وفي سورة الفتح قوله تعالى: [إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الجَاهِلِيَّةِ فَأَنْزَلَ اللهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى المُؤْمِنِينَ وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى وَكَانُوا أَحَقَّ بِهَا وَأَهْلَهَا وَكَانَ اللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا] {الفتح:26}  والمقصود هنا الحمية أو العصبية العمياء التي لا تراعي الحق وهي نوع من الاستكبار لا موجب له كما يقول ابن عاشور في تفسيره .
 
فنحن أمام أربعة معان تؤطر لنا مصطلح الجاهلية في القرآن الكريم، وسيساندها حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم كما سنرى في مقالات قادمة: الانحراف في العقيدة بجانبها المعرفي والقلبي وهو أمر واضح في كل وثنية، والظلم والمحاباة وهو ما ذكرناه من أمر توظيف حتى (الأوثان المعبودة) لمصلحة أناس على حساب غيرهم، والجانب الأخلاقي الذي يهتم بسلامة المرء والمجتمع نفسياً وصحياً والذي يحشد الجهود والطاقات للبناء والعطاء، والجانب العصبي الأعمى الذي ينطلق عن هوى واستكبار

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين