على هامش التاريخ الإسلامي جاهلية ما بعد الإسلام

 

ماهر سقا أميني

 
 
 

 
ليس القصد من بحثنا حول مفهوم الجاهلية مجرد دفاع عن عرب ما قبل الإسلام الذين تؤكد الدراسات التي تتحرى الحكمة الإلهية في كل شيء أنهم كانوا خير من تنزل عليهم رسالة السماء بالمقارنة مع المجتمعات والحضارات المجاورة التي كانت أيضا ممعنة في (الجاهلية) حسب التوصيف القرآني والنبوي، إنما هي وقفة من أجل دراسة كيف تم (تجييش) هذا المصطلح أو المفهوم التاريخي لأغراض أيديولوجية مما كان سبباً في كوارث أصابت الأمة وعصفت بالأمن الإقليمي والدولي بسبب حالة من اضطراب عقلي أقرب إلى جنون العظمة في صلة بعض المسلمين بتاريخهم .
 
 
ففي البداية لا بد من التأكيد أن هناك مبرراً واضحاً من واقع السنة النبوية الشريفة لنقل مصطلح الجاهلية من زمنه التاريخي إلى كل زمن، نلمسه من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم : “أبغض الناس إلى الله ثلاثة: ملحد في الحرم، ومبتغ في الإسلام سنة الجاهلية،ومطلب دم امرئ بغير حق ليهريق دمه” (رواه مسلم)، وقوله عليه الصلاة والسلام: “من خرج من الطاعة وفارق الجماعة فمات مات ميتة جاهلية، ومن قاتل تحت راية عمية يغضب لعصبة أو يدعو إلى عصبة أو ينصر عصبة فقتل فقتلة جاهلية، ومن خرج على أمتي يضرب برها وفاجرها ولا يتحاشى من مؤمنها ولا يفي لذي عهد عهده فليس مني ولست منه” (رواه مسلم) .
 
 
بل لعل المبرر في إطلاق حكم الجاهلية بعد الإسلام أقوى وأكبر من إطلاقه على من كانوا قبل الإسلام بعد بيان الحق والباطل والخير والشر والحسن والقبيح بنزول القرآن وبتعاليم المصطفى عليه الصلاة والسلام التي هي من وحي الله تعالى .
 
 
من جهة أخرى، يرى الدارسون أن سياقات ورود كلمة الجاهلية في القرآن والسنة كانت بعد الانتقال إلى المدينة المنورة أي بعد البعثة بثلاث عشرة سنة وبعد تأسيس دولة إسلامية ومجتمع إسلامي، ومع نزول التشريعات التي تدار بها أمور الحياة، مما يؤكد أن مصطلح الجاهلية مقصود به فرز العقائد والسلوكات الصحيحة عن الباطلة، والسوية عن المنحرفة، أكثر من إدانة فترة تاريخية كانت قبل الإسلام وانتهت ولم يكن ذووها محاسبين، لاسيما أن ماعاناه الرسول عليه الصلاة والسلام والصحابة الكرام ممن سبقوا إلى الإسلام من تضيق وظلم واضطهاد في مكة كان كفيلاً بإطلاق هذا الحكم عندما كانت المواجهة على أشدها بين الجاهلية والإسلام، لو كان الأمر مجرد إدانة انفعالية أو حتى عقدية لكفار قريش، وهذا يؤكد ما ذهبنا إليه من الدور الوظيفي الذي أريد لمصطلح الجاهلية أن يكون بعد الإسلام التشريعي لا قبله .
 
 
كان أول استخدام لمصطلح الجاهلية في العصر الحديث فيما كتبه أبو الأعلى المودودي عندما صنف الجاهلية في ثلاث: جاهلية الإلحاد المحضة، وجاهلية الشرك، وجاهلية الرهبانية التي تعني الانقطاع عن مشاغل الحياة وتذليل الرغبات واجتناب اللذات .
 
 
ويحسب على المودودي حديثه المبالغ فيه عن وقوع الجاهلية في الإسلام حيث اختار لحظة الانتقال من الخلافة الراشدة إلى الملك العضوض في عهد معاوية رضي الله عنه “كلحظة انكسار تاريخي للأمة الإسلامية وعودة الجاهلية بأشكالها الثلاث بعد أن لبست ثوباً إسلامياً، فالجاهلية المحضة هيمنت على الدولة ولم يبق فيها من الخلافة الا اسمها،ولما كان اعتقاد الألوهية للملوك لم يعد يتجاسر عليه أحد فاحتالوا بأخذهم بالأثر المروي (السلطان ظل الله) وتبوأ الملوك والأمراء بهذه الحيلة منزلة المطاع المطلق، واسترسل الأمراء والحكام والولاة ورجال الجيش والمترفون إلى الجاهلية المحضة في ظل هذه الملكية، وكان من الطبيعي أن يصحب ذلك كله رواج فلسفة الجاهلية وآدابها وفنونها” . انتهى كلام المودودي .
 
 
وأما جاهلية الشرك - حسب المودودي - “فإن المسلمين وإن لم يرجعوا إلى الوثنية الصحيحة إلا أنه لم تبق صورة من صور الشرك لم ترج مجتمعهم رواجاً، في حين أن جاهلية الرهبانية أصابت العلماء والمشايخ وأهل الزهد والورع باثة فيهم الفلسفة الإشراقية ونظام الأخلاق الرهباني مما ضرب العلوم والفنون الإسلامية بالعقم والجمود وضيق النظر” .
 
 
فجاهلية المودودي بدأت منذ القرن الهجري الأول وقد اجتمعت اليها في القرن الحالي جاهلية الغرب مما عصف بالمسلمين عصفاً (موجز تاريخ الدين وإحياؤه للمودودي) .


 

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين