على هامش التاريخ الإسلامي بين الوثنية والإسلام

 
ماهر سقا أميني
 
ليست الوثنية الجاهلية أكثر من ظاهرة دينية منحرفة بمعنى أنها ليست إلحادا بالمعنى المادي الذي عرفه العالم في القرون الأخيرة، وليس هذا دفاعا عن الوثنية إنما هو قراءة علمية تاريخية للحظة التي جاء بها الاسلام لنفهم دوره في معالجة العقلية العربية ومن ثم ليكون رسالة للعالم أجمع تطارد (الوثنيات) المختلفة التي كانت موجودة والتي ستوجد إلى يوم القيامة .
 
فالأوثان هي تحيزات مادية محسوسة لفكر غيبي وديني وصفي، وهذه التحيزات يمليها توق الإنسان إلى المطلق ومحاولة استحضاره من اللازمان واللامكان المرهقين للنقس البشرية وتجسيده في الواقع في لحظة زمنية معينة، ومن هنا يمكن وصف مجتمع ما قبل الإسلام في الجزيرة العربية بأنه مجتمع متدين وليس مجتمعاً ملحداً لا يؤمن بكل الماوراء الغيبي .
 
وهذا النوسان بين التوحيد والوثنية عرفته البشرية كثيراً عبر تاريخها الطويل، ففي كل مرة كان يأتي فيها نبي أو رسول ليؤسس للتوحيد كانت الشعوب بعدها تميل- من واقع توق روحي متجذر في النفوس وصعوبة البقاء على المنزه والمجرد - إلى إيجاد وسائط بين الانسان والمطلق عبر وثنيات أخذت أحيانا شكل البشر (كالإله بعل عند الفينيقيين)، وحتى بعد الإسلام فإننا لا نعدم ظلالاً لهذه الوثنية عن طريق رفع بعض الأشخاص فوق مستوى البشر وجعلهم ملمين بالغيب مع الايمان بأنهم قادرون على قضاء الحوائج .
 
يعد مفهوم (الأيقنة) مفهوما كاشفا لمعنى (الوثنية)، فالأيقونة هي اللوحة التي تصور الشخص المرسوم كائنا موجوداً في عالم غيبي أي أن اللوحة لا تصور شخصاً غير موجود مع الاعتراف بوفاته، وهنا تكتسب الأيقونة تقديساً ليس بمجرد اعتبارها رمزاً للشخص المفارق للحس وإنما لكونها نافذة على الغيب يتقرب إلى المعبود عن طريق مسحها باليد أو الأخذ من زيتها، أو القيام بطقوس أمامها، ومن ثم يتضح لنا كيف أن (الوثنية) هي ظاهرة دينية ممعنة في التوق إلى الغيب مع انحراف في الجهة والمقصد .
 
وبعودتنا الى وثنية ماقبل الاسلام وعبر دراسة لمعاجم الآلهة والأوثان عند العرب سنجد أن الأوثان التي كانت منتشرة في الجزيرة العربية كانت تؤدي هذه الوظائف من حيث معرفة أصول الأشياء أسطورياً ومن حيث كونها نوافذ على المطلق تلبي الحاجات الروحية للناس، إلا أن هذه الأوثان كان وراءها توظيف لمصلحة زعماء القبائل وأسيادها ليس فقط في النذور والقرابين وأجور السدنة والخدمة وإنما أيضاً عن طريق سن قوانين تأخذ الصفة الدينية وتصب في مصلحة الأسياد، ولهذا عندما جاء الاسلام مصححا لاتجاه التدين باتجاه الإله المنزه الذي لا يقبل التحيز المادي ولا يستولى عليه من قبل المزورين من صناع الأوثان والقرارات التي تصب في مصلحة الكبراء شعر هؤلاء الأخيرون بخطر الدين الجديد وقاوموه بكل ما يملكون وبإصرار شديد خوفا على مصالحهم ومراكزهم وجاههم وسلطانهم .
 
هذا التأصيل سيكون ضرورياً جداً فيما بعد لفهم حركة انتشار الإسلام والمقاومات التي واجهها في الشرق والغرب، إذ إنه لا يعقل أن تجيش الجيوش وتدار المعارك الطاحنة لمجرد دعوة تستبدل إلها بإله، بل إن منطق الجيوش الفاتحة لم يكن فيه أي ارغام على التدين بالدين الجديد، إنما كانت الغاية حسب الشروط التي كان يمليها الفاتحون (وهي الاسلام أو قبول دفع الجزية أو القتال) هي نسف الرأسمال الرمزي الذي كان ممثلاً بالأوثان على اختلاف أشكالها مما كان يدار لمصلحة قلة من الناس على حساب الأكثرية، فللبلاد المفتوحة أن تدفع الجزية (مقابل عدم الدخول في الجندية الاسلامية وحماية أمن الأفراد فيها) و تقبل بالدخول في حكم الإسلام كقوانين وشريعة لا تصب في مصلحة أحد مع الإبقاء على شرائع الغير فيما يخص الأحوال الشخصية ولا يضطر أحد لتغيير دينه، وهذا يؤكد ماذهبنا إليه من خطأ تسطيح التاريخ الإسلامي المنجز لغاية اليوم عندما يعد أن المعارك التي كان المسلمون طرفاً فيها كانت مجرد معارك بين الحق والباطل والتوحيد والشرك والله أعلم .

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين