على هامش التاريخ الإسلامي النموذج القدوة

 ماهر سقا أميني

 

لكي نفهم جناية معظم المؤرخين المسلمين المعاصرين لا بد من الوقوف قليلاً عند بعض المفاهيم في تشكيل الذات الإسلامية المعاصرة وانجراحاتها ونزوعاتها نحو تأكيد وجودها وصراعاتها مع الآخر الغربي أو الشرقي أو الديني المذهبي، وهي أمور أسهم في تشكيلها وتوجيهها الخطاب الإسلامي الراهن بما فيه من تأريخ منحاز وانتقائي واختزالي، والقصد من وراء كل هذا فهم حقيقة الأدواء التي تعاني منها المجتمعات الإسلامية بقصد التشافي والعودة إلى الريادة الحضارية التي تليق بأصحاب الوحي الأخير .

 

تحتاج أي ذات إلى انتماء يحميها ويمعنن وجودها يجعل له معنى ويجعل لها مكاناً على خريطة التاريخ والواقع،وهذا الانتماء يعتمد في كثير منه على محاكاة ما تمكن تسميته بالنموذج (القدوة ) الذي تشكله بصورة تراكمية مفاهيم نظرية وتاريخية وصراعات تترك آثارها واضحة كما أولت من قبل كتبة التاريخ، حيث إن كل كتابة للتاريخ تنطوي على عملية تأويل يتفق مع الأطر النظرية والدوافع الايديولوجية والتراكمات النفسية الجمعية، وهذا قانون مطلق لا يخص كتابة التاريخ الإسلامي فقط .ويكتسب أي فرد شرعية وجوده وتحقيق حاجاته الأساسية وتأكيد ذاته بمقدار ما يستطيع محاكاة هذا النموذج الوسيط وبمقدار انمحاء كل صفة لا تتفق مع إكراهات هذا النموذج، وهذا أيضاً قانون اجتماعي لا يخص المسلمين فقط بل ينطبق على كل جماعة بشرية على سطح الأرض، وتقوم المجتمعات البشرية على قاعدة تأميم العنف أي جعله بيد سلطة واحدة تمثل الجماعة ثم تقنينه وجعله واضح المعالم والاتجاهات والأسباب والنتائج، وعندما يجتمع كل ماسبق فإننا نصل إلى الرغبة في محاكاة النموذج كمجموع كلي تندمج فيه بصورة لا واعية كل الحاجات الأساسية من حاجة إلى الطعام أوالشراب أوغيرهما، وحاجة إلى الانتماء أو الاحترام أوالأمن أوالنجاة من العقوبة بمعنى أننا نصل إلى مايشبه الحمية أو العصبية للنموذج، وما يمثله ليس فقط لمجرد الاقتناع به وبطروحاته، وإنما أيضاً لما يمثله من شرط وجودي لا بد من توفره لكي لا يعيش الإنسان خارج الأرض، فللاجتماع البشري جغرافية تفرض شروطها على من يعيش فيها من دون أي استثناء .

 

من دون هذه المحاكاة يصعب على الإنسان أن يعيش في وسط حضاري وثقافي وهي محاكاة لا تعتمد التقليد للتقليد وإنما للاندماج في مجتمع يزعم أنه يستحوذ على (الحق) من خلال تمثيله عبر النموذج الوسيط، وهنا لا بد من الإشارة إلى أن هذا النموذج يلعب في ترسيمه التاريخ دوراً كما يلعب الخيال والنظام الرمزي الاشاري والدلالي السائد في المجتمع دورا آخر فيه، إضافة إلى ضرورة مناوأة النماذج الأخرى عن طريق عدم محاكاتها وتأكيد ذلك بإصرار، من هنا نجد أن محاكاة النموذج الوسيط والتأكيد المفرط على عدم محاكاة النماذج الأخرى المكروهة هما وجهان لعملية نفسية واجتماعية واحدة يعبران عن إحساس بالتفرد والكبرياء ويقولبان رغبات الأفراد المنتمين إلى الجماعة البشرية بحيث لا يعود الفرد قادراً على ممارسة رغباته الحرة بقدر ما يحدد النموذج الوسيط هذه الرغبات ويمليها على كل المنتمين إليه كثمن للانتماء وتلبية كل الحاجات وكثيرا ما يتم ذلك بصورة لا شعورية لا يعيها معظم أفراد الجماعة .

 

يقول مالك بن نبي في كتابه وجهة العالم الإسلامي: . . هناك سبب آخر لانعدام الفاعلية التي وصمت بها نزعة المديح العمل الفكري ؛ فحين اتجهت الثقافة إلى امتداح الماضي أصبحت ثقافة أثرية، لا يتجه العمل الفكري فيها إلى أمام، بل ينتكس إلى وراء . وكان هذا الاتجاه الناكص المسرف سببا في انطباع التعليم كله بطابع دارس لا يتفق ومقتضيات الحاضر والمستقبل، وبذلك أصيبت الأفكار بظاهرة التشبث بالماضي، كأنما قد أصبحت متنفساً له .

 

ذلك أن النموذج الوسيط أو القدوة التي تضبط مسارات العالم الإسلامي اليوم هو نموذج ينتمي إلى التاريخ أكثر من انتمائه إلى الحاضر، وذلك بعدم التمييز بين الثوابت في الإسلام العابرة لكل الأزمان باعتبارها من منتجات الوحي غير التاريخي والطبقات الأخرى التاريخية التي لا بد من تجاوزها للوصول إلى مجتمعات إسلامية معاصرة فاعلة ومبادرة وقادرة على الفعل والريادة، وهنا نجد أن ثقل التاريخ يتمثل في أنه يصبح مقصداً بدلاً من أن يكون منطلقاً بكل تجلياته ليست القيمية والشرعية فقط، بل حتى بطرائق التفكير والتعبير والتعليم والتعامل مع الآخر، وللحديث تفصيل قادم إن شاء الله .

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين