على هامش التاريخ الإسلامي الفرصة الضائعة

 
 
ماهر سقا أميني
 
 
يعتبر ابن خلدون أول ناقد لما قبله من كتب التاريخ الإسلامي التي هي أكثر موضوعية ألف مرة من كتب التاريخ الإسلامي المعاصرة، حتى أكاد أقول إنه يكاد يكون (اللحظة أو الفرصة الضائعة) في تسديد كتابة التاريخ الإسلامي، ولا أعرف حتى الآن سبب تجاهل المؤرخين المسلمين المعاصرين لقامة كقامة ابن خلدون فإنك لن تجد دراسة له ولفكره في أي منهاج تاريخي يدرس في الكليات والمعاهد الشرعية مع أنه من أهل السنة والجماعة وأشعري العقيدة إلا أنه على ما يبدو لم يرق لكثيرين من كتاب التاريخ الإسلامي المعاصر المتأدلجين، كما لم يترك تراثاً فقهياً أو غيره من العلوم الشرعية التقليدية التي يحتفي بها القوم ولا يرون أنها بحاجة إلى علوم أخرى إنسانية أو تقنية تقوم بها حياة الانسان المستخلف على الأرض .
 
وأنقل من مقدمته باختصار رأيه في التاريخ المكتوب قبله فهو يرى أن الكذب يتطرق للخبر (بطبيعته) أولاً ثم إن له أسباباً تقتضيه ومن هذه الأخيرة يذكر:
 
1- التعصبات للآراء والمذاهب حيث تمثل غطاء على عين البصيرة يحول بينها وبين التمحيص .
 
2- الثقة بالناقلين، وتمحيص ذلك يرجع الى التعديل والتجريح .
 
3- الذهول عن المقاصد، فكثير من الناقلين لا يعرف القصد بما عاين أو سمع فينقل الخبر على مافي ظنه وتخمينه فيقع في الكذب .
 
4- توهم الصدق من جهة الثقة بالناقلين .
 
5- الجهل بتطبيق الأحوال على الوقائع لأجل ما يداخلها من التلبيس والتصنع فينقلها المخبر كما رآها وهي بالتصنع على غير الحق في نفسه .
 
6- تقرب الناس في الأكثر لأصحاب التجلة والمراتب بالمدح والثناء وتحسين الأحوال، فالنفوس مولعة بحب الثناء والناس متطلعون إلى الدنيا وأسبابها وليسوا في الأكثر براغبين في الفضائل ولا متنافسين في أهلها .
 
7- الجهل بطبائع الأحوال في العمران ما يساعد على تمحيص الخبر وتمييز الصدق من الكذب .
 
من خلال هذا الطرح يتبين أن ابن خلدون كان أول من أشار إلى أدلجة التاريخ الإسلامي القائمة على الانتماءات السياسية والدينية، وهو يرى ضرورة التمحيص في الأخبار المنقولة بغض النظر عن الثقة بقائلها لا سيما أن من ينقل قد يتصور جانبا من الحدث ويهمل جوانب وهو ما سماه بالذهول عن المقاصد والجهل بتطبيق الأحوال على الوقائع، ويرى أيضا أن من أسباب الكذب تقرب المؤرخين من أصحاب المناصب، وهو- هنا - لا يمارس أستاذية طهرانية مغرورة بقدر ما يشير إلى طبيعة في النفوس الميالة إلى الدنيا وأسبابها تفوق قدرة الكثيرين على الاستجابة للفضائل وترجيحها على المكاسب الدنيوية، كما أنه يشير إلى أولوية العلم بطبائع الأحوال (السنن التاريخية ) وتقديمه على الأخبار مهما ارتقت أسنادها مشيرا إلى أسطرة التاريخ كما في رواية المسعودي عن الاسكندر لما صدته دواب البحر عن بناء الاسكندرية فاتخذ صندوقا من زجاج وغاص فيه إلى قعر البحر حتى صور تلك الدواب الشيطانية التي رآها وعمل تماثيلها من أجساد معدنية ونصبها حذاء البنيان ففرت تلك الدواب حين خرجت وعاينتها وتم بناؤها في حكاية طويلة من أحاديث خرافة مستحيلة .
 
لقد أشار ابن خلدون إلى مبدأ(المطابقة والإمكان وطبيعة الأشياء بذاتها) مقدما لها على إسناد الأخبار التاريخية التي توسع فيها المؤرخون وتساهلوا أكثر مما تم بالنسبة لأسناد الحديث الشريف، وهذا يمثل منعطفاً مهماً لم يحسن الإفادة منه المؤرخون من بعده وحتى يومنا هذا يتمثل في أولوية البرهان العقلي والاختباري على الإسناد مع ضرورة الإفادة من الجرح والتعديل بدرجة الصرامة والدقة نفسها التي طبقت على الحديث النبوي.
 
أما لماذا أطلقنا على ما سبق وصف الفرصة الضائعة فذلك لأن ابن خلدون نفسه لم يلتزم بما دعا إليه في مقدمته في تاريخه الكبير (العبر)، فهو يبقى ابن عصره الذي ورث ثقافة ذات مرجعيات تقليدية، وابن الخبرات السياسية العملية التي تنحو منحى دنيويا نفعيا مرجحة ثقافة الفقيه في عصره حيث تحتاج الدولة إلى شرعية الدين فتنشأ تلك العلاقة الملتبسة بين الفقيه والسلطان وتعود الثقافة الفقهية لتضبط خطى المؤرخ والباحث في تناوله الظواهر الانسانية الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والسياسية .

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين