على هامش التاريخ الإسلامي الجاهلية الطاغوتية

 
 
 
ماهر سقا أميني
 
 
من سمات التاريخ الإسلامي المنجز أنه يختزل كل حركة التاريخ والعوامل الفاعلة فيه على تشابكها وتعقيد تأثيراتها في صراع واحد هو بين الحق والباطل، أو بين الجاهلية والإسلام .
 
فقد ظهر في حوالي منتصف القرن الماضي من يعلن أن العالم يعيش اليوم كله في جاهلية تقوم على أساس الاعتداء على سلطان الله في الأرض وعلى أخص خصائص الألوهية وهي الحاكمية، داعياً إلى عزلة كاملة- يراها مثالية- للمسلم في صلاته بالمجتمع الجاهلي من حوله وروابطه الاجتماعية .
 
ويؤكد صاحب هذا المقال الذي أسس للفتنة - بشكل اختزالي مفرط - أننا نعيش اليوم في جاهلية كالجاهلية التي عاصرها الإسلام أو أظلم، كل ما حولنا جاهلية، تصورات الناس وعقائدهم، عاداتهم وتقاليدهم، موارد ثقافتهم، فنونهم وآدابهم، شرائعهم وقوانينهم، حتى الكثير مما نحسبه ثقافة إسلامية ومراجع إسلامية وفلسفة إسلامية وتفكيراً إسلامياً هو كذلك من صنع الجاهلية كما يزعم .
 
ويقول: “ليست مهمتنا أن نصطلح مع واقع هذا المجتمع الجاهلي فهو بهذه الصفة غير قابل لأن نصطلح معه، بل لا بد أن نستعلي على هذا المجتمع وقيمه وتصوراته” .
 
وكما خرج جيل الصحابة رضوان الله عليهم عن الجاهلية بالعزلة عن مجتمعهم وبالاستعلاء عليه والصدام معه يكرس صاحبنا حالا- يراه هو الواجب- الجيل يفترض أنه هو من يعيد للإسلام مكانته على سطح الأرض في معركته الدائمة والمستمرة مع الجاهلية الطاغوتية .
 
وحكم الجاهلية في نظر صاحبنا ينطبق على كل تلك المجتمعات الإسلامية التي تزعم لنفسها أنها مسلمة، لا لأنها تعتقد بألوهية أحد غير الله ولا لأنها تقدم الشعائر التعبدية لغير الله، ولكنها تدخل في هذا الإطار لأنها لا تدين بالعبودية لله وحده في نظام حياتها .
 
ومن أخطر ما يقول صاحبنا توضيحاً لمعنى العزلة المطلوبة تعليقه على قوله تعالى (واجعلوا بيوتكم قبلة ): “إن الله يرشد الى اعتزال الجاهلية بنتنها وفسادها وشرها وتجمع العصبة المؤمنة الخيرة النظيفة على نفسها لتطهرها وتزكيها وتدربها وتنظمها حتى يأتي وعد الله لها، واعتزال معابد الجاهلية واتخاذ بيوت العصبة المسلمة مساجد تحس فيها بالانعزال عن المجتمع الجاهلي وتزاول فيها عبادتها لربها على نهج صحيح وتزاول بالعبادة نفسها نوعاً من التنظيم في جو العبادة الطهور” .
 
لقد رمز مفهوم العزلة التي لجأ إليها صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم في مكة إلى العبادة بعيداً عن بطش كبرائها، ورمز موضوع الهجرة التي قام بها الصحابة ومن بعدهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ليتحولا إلى عزلة يجب أن يلجأ اليها جيل الدعوة حتى عن المساجد وصولا إلى اليوم الذي يفتح فيه على هذه (العصبة المؤمنة) فتدك معابد الجاهلية وأوثانها وتعيد للإسلام مكانته في الاحتكام إليه .
 
ومن المعين نفسه خرج علينا رجل آخر طوى التاريخ الإنساني كله من الحضارة اليونانية إلى يومنا هذا مرورا بكل العصور وأشكال الحكم والثقافات والفلسفات والعلوم ليجعله تاريخاً للجاهلية، ثم عزا كل ذلك إلى الشيطان فقال إنها حضارات الشيطان لا حضارات الرحمن .
 
في هذا الوقت كانت العلوم الإنسانية تتقدم بشكل مقبول وتغني دراسة العلوم الإنسانية وغيرها من علوم التاريخ والسياسة وتكشف عن تعقد الظاهرة الإنسانية وتشابك العوامل الفاعلة فيها ما جعل الطرح السابق وهو طرح تكفيري إقصائي إنعزالي لا يرى ولا يسمع مفرطاً في التسطيح والتبسيط، إلا أن أصحابه كانوا قادرين ببيان أقرب إلى السحر وفي ظروف الهزائم والنكسات على أن يلهبوا مشاعر الشباب مكونين زمراً تتقمص أدوار جيل الصحابة رضوان الله عليهم- من دون تقدير للفوارق النوعية بين ظروف الجيلين - وتعتزل الناس والعلم والفكر الإنساني مما شكل طلائع الخوارج في العصر الحديث .
 
إن من أخطر ما اتسم به هذا الطرح هو طريقة في العرض استخدمت البيان والبلاغة مع أنها لم تطرح مفهوما من مفاهيم التكفير والإقصاء والعزلة على محمل المجاز، فالكفر كفر محض، والعزلة عزلة للمجتمع والناس، والمساجد معابد للجاهلية، والاستعلاء استعلاء من دون أدنى مقومات، إلا ماكان من قبيل الانتساب إلى الوحي من دون أن يرافق ذلك أداء معاصر على مستوى الفعل الحضاري يليق بحملة الوحي .

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين