على هامش التاريخ الإسلامي التاريخ يكتبه المنتصرون

ماهر سقا أميني
 
 (التاريخ يكتبه المنتصرون) عبارة يرددها الكثيرون ولا يقدرون أبعادها وآفاقها وخطورتها، فإلى أي حد تنطبق هذه المقولة على المنجز من التاريخ الإسلامي؟ يميل المنتصر عادة إلى إلغاء التاريخ من قبله أو تسفيه ما لا يستطيع الغاءه قدر الإمكان، ويعتبر أن تاريخه يمثل جزيرة منفصلة عن مسيرة الزمن حيث ينكر أية صلة بما كان قبله، قافزاً فوق مسلمة بديهية هي أنه لا يوجد يوم واحد تولد فيه كل الفضائل من لا شيء .
 
 من يشاهد الأفلام العربية القديمة التي أنتجت قبل ثورة يوليو يرى كيف أن هناك بقعة سوداء تهتز خلف الأبطال في كثير من المشاهد، فقد صدرت الأوامر بمحو صورة الملك فاروق من على جدران الأفلام وليس جدران الواقع، كأنه لم يكن هناك ملك قبل الثورة، كما سلط عدد كبير من الكتاب ليكتبوا عن الملك المراهق ونسائه وسهراته وتبذيره، حيث لم تذكر حسنة واحدة له، ثم ظهر بعد ذلك من أنصف الرجل فذكر ما له وما عليه، بعيداً عن الشيطنة التي أرادت أجهزة ما بعد الثورة أن تمارسها عليه، وهذا مثل قريب أضربه ليتبين كيف يتم الغاء التاريخ فيما قبل ظهور المنتصر على عدوه، وكيف يتم تحت ضغط (الإخلاص!) الكثير من الكذب الأيديولوجي لتلميع صورة المنتصر وإقصاء وتبخيس كل من سواه .
 
ليس المقصود من هذا الكلام أن الإسلام هو نتاج بشري جاء في سياق تاريخي معين، فنحن نؤمن أنه رسالة السماء التي أوحى بها الله عز وجل على نبيه محمد بن عبدالله عليه الصلاة والسلام، ولكننا لا يمكن أن نفهم مثلاً كيف يولد مجتمع فاضل فجأة - كمجتمع الصحابة الكرام رضوان الله عليهم - يمثل أعلى مستويات الأخلاق والتضحية والإيثار من وسط جاهلية ليست دينية فقط بل وأخلاقية بكل ما تعنيه كلمة الأخلاق من مثل وقيم شخصية واجتماعية، صحيح أن الإيمان قد لعب دوراً في بناء هذا المجتمع المثالي والذي سيبقى منارة للهداية عبر الأجيال وإلى أن تقوم القيامة، ولكننا هنا لا نتحدث عن بضعة رجال بل عشرات بل مئات، ولا بد من تربة صالحة تتفاعل مع الوحي بأعلى مستويات التفاعل والأداء للوصول إلى مجتمع كهذا، فإن قلت: إن وجود جيل الصحابة حال خاص بطل مبرر كونهم أسوة حسنة، لأن الأسوة لا تكون إلا بين الأمثال، لقد جاء لفظ الجاهلية في القرآن الكريم ليصف جاهلية دينية انحرف فيها الناس عن التوحيد النقي الصافي وتم فيها توظيف الرأسمال الديني لتشريعات ظالمة لا تخدم إلا الزعماء وأسياد القبائل، إلا أن أكثر كتبة التاريخ الإسلامي لم يتركوا رذيلة من الرذائل إلا وألحقوها بمجتمع ما قبل الإسلام في نفس تمجيدي وتبجيلي متطرف، والغريب في الأمر أنك عندما تقرأ في نسب الرسول عليه الصلاة والسلام تجد نسباً شريفاً عبقاً بالفضائل والمثل العليا - ونحن نقره - في الوقت الذي يؤكد فيه من كتب في هذا النسب أنه جزيرة منفصلة في وسط بحر من الرذائل والفواحش والظلم والإجرام .
 
ليس هذا كلاماً ناجماً عن اتجاه عروبي قومي حاول بعض رجاله في فترة من الفترات - بنفس تبجيلي متطرف أيضاً - أن يصوروا العروبة أصلاً والإسلام فرعاً لهذا الأصل، ولكنه دعوة إلى النظر الموضوعي في تاريخ الأمة لفهم حقيقة الدور الذي لعبه الإسلام في التعامل مع وضع عربي كان قائماً، وبالنسبة لي أستطيع أن أقول وأنا مرتاح تماماً: إن الإسلام - كرسالة سماوية - أكبر من أن يحصد رصيده على حساب نواقص من قبله، فالوحي ظاهرة فوق بشرية تتصف بصفات الكمال والجلال ولا تحتاج إلى تلميع بتسويد صفحات كل من جاء قبله أو عاداه .

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين