على هامش التاريخ الإسلامي اشتعال فتيل الفتنة

 
 
 
ماهر سقا أميني
 
 
يقول النبي عليه الصلاة والسلام: (تكون النبوة فيكم ما شاء الله أن تكون، ثم يرفعها إذا شاء أن يرفعها، ثم تكون خلافة على منهاج النبوة، فتكون ماشاء الله أن تكون ثم يرفعها إذا شاء أن يرفعها، ثم تكون ملكاً عاضاً فيكون ما شاء الله أن يكون، ثم يرفعها إذا شاء الله أن يرفعها، ثم تكون ملكاً جبرياً فتكون ما شاء الله أن تكون، ثم يرفعها إذا شاء أن يرفعها، ثم تكون خلافة على منهاج النبوة، ثم سكت) (رواه الإمام أحمد)، ومنه أنه عليه الصلاة والسلام لم يطلق حكماً بالجهل والجاهلية على مرحلة من هذه المراحل .
 
ثم إن مصطلح الجاهلية غاب لفترة طويلة عبر التاريخ الإسلامي، إلا ما كان من أمر وروده على لسان ابن تيمية رحمه الله عندما تحدث عن جاهلية عامة أو مطلقة وهي ما يكون في بلاد الكفر أو في شخص معين لم يسلم، وجاهلية مقيدة وهي في كثير من المسلمين، وما كان قد صنفه الشيخ محمد بن عبد الوهاب من رسالة صغيرة جمع فيها ما سماه بمسائل الجاهلية وهي أمور يغلب عليها الهاجس العقدي، وقد نشر هذه الرسالة محب الدين الخطيب وقال في مقدمتها: (هذه أمراض رآها مؤلف أصل هذا الكتاب موجودة في قومه وفي بلاده ورأى السنة المحمدية تدور حول تطهير الانسانية من هذه الشوائب فقال في نفسه: إذن نحن في مثل ما كانت عليه الجاهلية حينئذ عاهد ربه أن يعلن الحرب على هذه الأمراض وأن يداويها بالطب النبوي من كتاب الله ورسوله) .
 
إلى أن ظهر مصطلح الجاهلية في حوالي الخمسينيات من القرن العشرين بعد انهيار الدولة العثمانية التي اعتبرها كثيرون خلافة جامعة للمسلمين، وبعد الاحتكاك بالغرب للمرة الأولى بعد عزلة طويلة عن طريق الاستعمار والبعثات العلمية، وبعد إنشاء التعليم المدني إلى جانب التعليم الأزهري مما أحيط بتوجس كبير وسوء ظن واتهام غير موضوعيين .
 
يبدو أن هذه الظروف قد أدت إلى جرح كبير في الذات الإسلامية، فقد أفلت شمس آخر دولة كانت تجمع كل المسلمين في الأرض وتنطق باسمهم، بغض النظر عن المفاسد الكثيرة فيها، وجاء الاستعمار ليهين هذه الذات بعد طول ظهور، وشعر المسلمون بتأخرهم عن الغرب كمن استيقظ من نوم طويل ليرى العالم قد سبقه بمسافات، وبدأ التعليم المدني يخرج أناساً لهم وجهات نظر متباينة منها العلمي الموضوعي ومنها غير ذلك، وراح العرب يتخففون من أعباء اللغة الجزلة الفخمة المثقلة بالبيان والفصاحة والمحسنات البديعية لحاجتهم إلى لغة تفيد في العلم أكثر من الأدب، وفي فنون الرواية والمسرح والقصة أكثر من الشعر، مما اعتبر انحداراً في الذائقة العربية عن مستوى لغة القرآن الكريم، مع أن من اتخذ هذا الموقف كان واستمر في استخدام لغة ليس فيها يسر القرآن الكريم ولا وضوحه، وقامت معارك بين هؤلاء وهؤلاء تبادل فيها الفريقان سوء الظن والاتهام، وبدأت التيارات اليسارية بالوصول إلى المنطقة عبر حكم العسكر، وغالى بعض القوميين عندما اعتبروا العروبة أصلا والإسلام فرعاً، حتى تحول الإسلام على أيدي البعض منهم إلى إبداع عربي، لا تنزيلاً سماوياً، وراحت بعض الحكومات التي قامت بعد التحرير من الاستعمار أو بعد انقلابات عسكرية تسوس الناس بالحديد والنار وتصفع المسلمين ومشاعرهم بكل صفاقة، كل ذلك اجتمع ليشعل فتيل الفتنة وليعود مفهوم الجاهلية هنا ليأخذ شكل الحكم الحاد الذي يسحب أي اعتراف بشرعية وجود كل هذه القوى المناوئة .
 
لقد تم استحضار مفهوم الجاهلية - الذي رأينا من خلال سياقات وروده في القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة أنه يسم الكفر كما يسم أقل انحراف عن القيم الإسلامية كما في قوله عليه الصلاة والسلام لأبي الدرداء: إنك امرؤ فيك جاهلية - في أكثر صوره اتهامية ليسم كل حضارة الغرب وكل وافد منها، وكل خروج عن التراث الإسلامي المدرسي المنجز والمغلق، وليطلق على مجتمعات عربية وإسلامية بالجملة وصولاً إلى التكفير و الإقصاء والمواجهة التي بدأت ولم تنته حتى اليوم .

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين