على هامش التاريخ الإسلامي أين التاريخ الحضاري للأمة؟

 
 
 
 
ماهر سقا أميني
 
عندما يسألك شخص من أنت؟ فإنك تعطيه اسمك وعمرك واسمي أبويك وغيرها من التفاصيل، ولكن عندما يسألك: ممن أنت؟ فإنك عندها تعطيه كل ما يتصل بشعبك وحضارتك بعلمائها وأدبائها وشعرائها وقادتها أي أنك عندها تقدم له كشفا حضارياً لأمتك وشعبك بتاريخهما وحاضرهما .
 
وعندما كتب “وول ديورانت” كتابه الكبير (قصة الحضارة) لم يضع وقته في التاريخ السياسي للشعوب والدول بقدر ما تحدث عن الإنجازات الحضارية والأرصدة التي تركتها هذه الأمم والبصمات التي تركتها الشعوب في رحلة الإنسان كاملة على سطح هذه الأرض .
 
لم يعن المؤرخون المسلمون القدامى ولا المعاصرون بالتاريخ الحضاري للأمة الإسلامية بقدر ما اعتنوا بالتاريخ السياسي وحياة الخلفاء والملوك والأمراء والفتوحات العسكرية والغزوات والاعتداءات على الأمة من قبل أعدائها، حتى جاء المستشرقون المنصفون فكشفوا ماللأمة الإسلامية من إنجازات حضارية، وماتزال كتب التاريخ الإسلامي حتى يومنا الحاضر تلح في ذكر تفاصيل التاريخ السياسي والعسكري بعيداً عن التاريخ الحضاري الذي يمثل بحق هوية الأمة الإسلامية وبصمتها الخالدة .
 
وهذا التأريخ الضيق والفقير للأمة الإسلامية إنما نجم عن اكتفاء العاملين في مجال الخطاب الإسلامي بالأهداف الدعوية، بمعناها الضيق، فما يهم هو الفتوحات وانتشار الإسلام شرقاً وغرباً أما كيف صنع الإسلام حضارة احتلت مكانة مرموقة بين الحضارات ومثلت حلقة مهمة من حلقات التطور البشري فإن هذا مايزال مهملاً ومتجاهلاً مع التأكيد عليه من دون الخوض في تفاصيله .
 
يقال إن “غوته” الكاتب الألماني الشهير كان جالساً في حديقة قرب قصر الملك، فلما مر الملك لم يقف تحية له وعندما سئل عن السبب قال: “في تاريخ البشرية ملوك كثيرون ولكنه لا يوجد إلا “غوته” واحد .
 
هذا المنطق هو الذي دفع الأوروبيين لدراسة التطور الحضاري للأمم والشعوب في حين أننا مازلنا في كتب التاريخ الإسلامي نعد الخلفاء ونساءهم وجواريهم وشعراءهم؟ وندماءهم وفتوحاتهم ومغازيهم ولعمري ماذا يفيد كل هذا التفصيل الممل في حين أننا لا نعرف الكثير عن حياة علماء الأمة وفلاسفتها وأدبائها وشعرائها، وكثير مما نعرفه إنما جاء بجهد المستشرقين الذين بحثوا وحققوا واكتشفوا الكثير من المخطوطات والآثار وأعطونا من العلم بأحوالنا وتاريخنا مالم نكن سنعلمه لولا جهودهم ومشاركاتهم .
 
وإذا سألت عن سبب هذا الداء العضال وهذا التأخر العجيب هالك أنه ضيق نظر من قبل كتبة التاريخ الإسلامي أملاه الهاجس الدعوي والهاجس الأخلاقي الوعظي، فما يهم عندهم من كل التاريخ هو أين انتشر الإسلام؟ والى أين وصل؟ وفي عهد من؟ إضافة إلى القصص التي تفيد في الوعظ والتهذيب، أما التراجم فلا تعنى إلا بعلماء العلوم الشرعية من محدثين وفقهاء وعلماء تفسير ولغة وما إلى ذلك من علوم اعتبرت من قبلهم هي العلوم الشريفة التي يجب أن يترجم لرجالها في حين حوصر الفلاسفة والعلماء والأدباء بكثير من التجاهل مع كثير من التشكيك في عقائدهم وسلوكهم ومراميهم .
 
ثم إن ضيق النظر الناتج عن أولوية الحكم على الناس وفرزهم إلى صالحين وطالحين جعل المؤرخين المسلمين إلى يومنا هذا يتجاهلون التاريخ الحضاري للرجال الذين أنجزوا ما يتفاخرون به من عظمة حضارة الإسلام، ولو أنهم امتلكوا شيئاً من سعة النظر وفهم حركة التاريخ لأرخوا للجميع مع ذكر ملاحظاتهم على عقائدهم، أما التجاهل والانكار فقد أدى إلى كتابة تاريخ للأمة لا يعنى بالحضارة بقدر ما يعنى بتاريخ انتشار الإسلام العسكري، وما قامت حضارة الإسلام بالسيف ولا بالعلوم الشرعية - مع أهميتها - وإنما قامت بجهود الفلاسفة والأطباء والصيادلة وعلماء الفلك والجغرافيا والأدباء والشعراء والصناع وغيرهم، وارجع إن شئت إلى كتب التاريخ التي تدرس في كليات الشريعة ومعاهدها لترى مصداق كلامي فمن يتخرج في هذه المؤسسات لا يعرف شيئاً عن الجاحظ أو ابن خلدون أو ابن سينا أو الفارابي أو الخوارزمي إن لم يجر ذكر أسماء هؤلاء إلى الاستعاذة بالله منهم ومن الشيطان الرجيم والله أعلم .

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين