على طريق النهضة

لا يخلو طريقٌ من عقباتٍ تورث العِثار، ومشقَّاتٍ تعرقل المسار، يتخطَّاها ذو الهمة، مستعينًا بالله، مصابرًا لكل مدلهِمَّة، متوكلًا على مولاه، وتستوي في ذلك مسارب الأفراد، ومسالك الأمم، ودروب الدنيا، وسبل الآخرة، وقد حُفَّتِ الجنة بالمكاره، وحُفَّتِ النار بالشهوات.

ونهضة الأمَّة المسلمة من كَبَواتِها، وصحوتُها من سَكَراتِها، مرتهن بإزالة العوائق، وتذليل الصعاب، واقتحام كل عقبة تحول دون بعث الأمة وإحيائها، لتقوم بمهام الريادة والقيادة، فتذودَ أبناءها والأممَ من ورائها عن بؤس الدنيا وهلاك الآخرة، وتهديَهم سعادة الدارين على منهج رشيد، يحبه الله ورسوله.

وإن أَوَلى العقباتِ بالإزالة مشايخُ السوء، قُطَّاعُ الطرق إلى الله، المشوِّهون لدين الله، الصَّادُّون عبادَه عن حقِّه وهُدَاه، أولئك حجر العَثْرة الأكبر، يُضِلُّون الخلقَ بأقوالهم إذ يبدِّلون الدين، ويَصُدُّونهم بأفعالهم عن شريعة رب العالمين، وكم من امرِئٍ من أهل الإسلام انتكس لِما رأى وسمع من مساوئ مشايخ السوء! فنكص على عقبيه، افتتانًا بشرِّهم، وكُرهًا لسبيلهم، وبُغضًا لمنهجهم!

ويتعاظم سوء مشايخ السوء عندما يدَّعون السلفية؛ وهم على منهج أهوائهم يسيرون، لا منهجَ السَّلفِ الصالح يتَّبعون، يتكلمون باسم خير القرون، وليست كلماتُهم إلا كبرقِ الخُلَّب، تبهَر الأبصار، ثم لا تُغيث ولا تَروي، بل تُظمئ وتُردي وتُشقي.

إنَّ السلفية التي يرفع شعارَها بعضُ مشايخِ السوءِ؛ علميةً كانت أم حَرَكيَّةً، لهي حُجةٌ عليهم؛ تَزيدُهم مؤاخذةً، وتُضاعفُ عليهم التثريب.

وكلما تناقضت دعواهم مع أقوالِهم وأفعالِهم؛ اشتدَّت فتنتُهم، وعصفَت بقلوب المسلمين وغير المسلمين.

فيا شرَّ فتنةٍ تمشي على الأرض، تتكلم بلسان المنهج العتيق، وتَضطرُّ المسلمين بشرِّها إلى أضيق طريق، هلَّا انكفأتم على أنفسكم، وكفيتم المسلمين نَصبَكم ووَصَبَكم، وخلَّيتم بين الناس ودين الحق، وأخليتم ميدان العمل والدعوة للربَّانيين أهلِ الصدق، ممَّن عرفوا الله حق المعرفة، وجاهدوا في سبيله حق المجاهدة، مستمسكين بالأمر الأول، عاضِّين بالنواجذ على الهدي الأمثل، العلمُ والعملُ لديهم صنوانٌ لا يفترقان، يصدِّقُ أحدُهما الآخر فلا يختلفان، إنكم والله بنقع فتنتكم المُثار، تُعمُون الأبصار، وتحجبون النور عن النُّظَّار، وتخفون صوى طريق النهضة، وتذرون الناس في شكٍّ وحيرة، وما من تأخُّرٍ أو تأخيرٍ لذلك؛ إلا ولكم منه كِفل، وعليكم فيه وِزر.

إن السلفيةَ اعتقادٌ كاعتقاد الجيل الأول، {فَإِنۡ ءَامَنُوا۟ بِمِثۡلِ مَاۤ ءَامَنتُم بِهِۦ فَقَدِ ٱهۡتَدَوا} [البَقَرَةِ: ١٣٧]، واتِّباعٌ لسبيلهم الأكمل، {وَٱلَّذِینَ ٱتَّبَعُوهُم بِإِحۡسَـٰنࣲ} [التَّوۡبَةِ: ١٠٠]، في العلم والعمل، والتربية والتزكية، والدعوة والجهاد.

السلفية منهج حياة لعمارة الأرض بالسنن الكونية والشرعية، لإخراج الناس من الظلمات إلى النور.

السلفية صدق في النيَّة، وإخلاص لرب البريَّة، واستقامة في الحال، وحرص على سلامة المآل.

السلفية انتساب إلى السلف الصالح؛ باكتساب أحوالهم، والتأسي بأفعالهم، والتخلُّق بأخلاقهم، والسير على نهجهم في النصح لله، ولرسوله، ولدينه، ولأئمة المسلمين، وعامتهم.

فمن اتخذ السلفية عناوينَ منبتَّةً عن الأصول العلمية السديدة، والسنن العملية الرشيدة، يلبِّس على الناس دينَهم، ويخلط حقًّا بباطل، وصوابًا بخطأ، ومأثورًا صحيحًا برأي منحرفٍ سقيمٍ، وغاياتٍ أخرويةً بحظوظٍ دنيويةٍ، فإنما عليه ما حُمِّلَ من إثم نفسِه، وإثم من تبعَه في دربِه، وإثم من انصرف عن الحق من جرَّاءِ فتنتِه وشرِّه.

وصدق الرافعي إذ قال: (شرُّ الناس هم العلماء والمعلمين إذا لم تكن أخلاقُهم دروسًا أخرى تعمل عملًا آخر غير الكلام؛ فإن أحدَهم ليجلسُ مجلسَ المعلم، ثم تكون حولَه رذائلُه تُعَلِّم تعليمًا آخر من حيث يدري ولا يدري).

وقال لله دره من صاحب حكمة: (ولو نافق العالم الديني لكان كلُّ منافقٍ أشرفَ منه؛ فلَطخةٌ في الثوب الأبيض ليست كلَطخةٍ في الثوب الأسود، والمنافقُ رجلٌ مغطًّى في حياته، ولكن عالمَ الدينِ رجلٌ مكشوفٌ في حياته لا مغطًّى؛ فهو للهداية لا للتلبيس، وفيه معاني النور لا معاني الظلمة؛ وذاك يتصل بالدين من ناحية العمل، فإذا نافق فقد كذب؛ والعالم يتصل بالدين من ناحية العمل وناحية التبيين، فإذا نافق فقد كذب وغشَّ وخان.

وما معنى العلماء بالشرع إلا أنهم امتدادٌ لعمل النبوة في الناس دهرًا بعد دهر، ينطقون بكلمتها، ويقومون بحجَّتها، ويأخذون من أخلاقها كما تأخذ المرآةُ النورَ، تحويه في نفسها وتلقيه على غيرها، فهي أداةٌ لإظهاره وإظهار جماله معًا.

أتدري يا ولدي ما الفرق بين علماء الحق وعلماء السوء وكلهم آخذٌ من نورٍ واحدٍ لا يختلف؟ إن أولئك في أخلاقهم كاللوح من البِلَّور؛ يُظهرُ النورُ نفسَه فيه ويُظهرُ حقيقته البِلَّورية؛ وهؤلاء بأخلاقهم كاللوح من الخشب يُظهرُ النورُ حقيقتَه الخشبية لا غير!

وعالم السوء يفكِّر في كتب الشريعة وحدِها؛ فيسهل عليه أن يتأوَّلَ ويحتالَ ويغيِّرَ ويبدِّلَ ويُظهِرَ ويُخفي؛ ولكن العالمَ الحقَّ يفكِّرُ مع كتب الشريعة في صاحب الشريعة، فهو معه في كل حالة يسأله ماذا تفعل وماذا تقول؟

والرجل الديني لا تتحوَّل أخلاقُه ولا تتفاوت ولا يجيء كلَّ يوم من حوادث اليوم، فهو بأخلاقه كلها، لا يكون مرة ببعضها ومرة ببعضها، ولن تراه مع ذوي السلطان وأهل الحُكم والنِّعمة كعالم السوء هذا الذي لو نطقَتْ أفعالُه لقالت لله بلسانه: هم يعطوني الدراهم والدنانير فأين دراهمك أنت ودنانيرك؟

إن الدينار يا ولدي إذا كان صحيحًا في أحد وجهيه دون الآخر، أو في بعضه دون بعضه، فهو زائف كله).

اللهم لا تجعلنا من الزُّيُوف، واصرف عنا وعن أمَّة الإسلام شرَّ الزُّيُوف.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين