على طريق السكن : إدخال من لا يحبب
 

د. مبروك عطية

 

في خطبة الوداع حيث لخصت كلمة النبي - صلَّى الله عليه وسَلَّم - الدين، حيث أوصى بعبادة الله - عز وجل - وبيَّن حرمة الدماء والأموال والأعراض، ونَهى عن رجوعنا بعده كُفَّارًا يضرب بعضنا رقابَ بعض، ووصى - صلَّى الله عليه وسَلَّم - بالنساء حيث قال بأنَّهن عوان عندنا، وبيَّن أنَّ من حقِّ الرجل على المرأة:
 
♦ ألا تُوطئ فُرُشه أحدًا هو له كاره؛ ومعناه: ألا يدخل الرجل، فيكتشف وجودَ جارة ثرثارة، أو جملة من الجارات، اتَّخَذْن بيته مستراحًا ومرتعًا ومجلسًا.
 
♦ أو أحدًا من أقاربه أو أقاربها؛ فإنَّ ذلك يجعل صاحبَ البيت غير مستريح في بيته.
 
والأصلُ أن يجد ربُّ البيت راحته الكاملة في بيته، وكيف يجد الراحة وهو كاظم غيظه، يقوم على مَضَض، ويرحب على غير رغبته؟!
وقد تكون درجة بغضه ببُغض مَن يكره وجودَه في بيته، كما أشرت بأن يكون ثرثارًا، أو يكون قد اتَّخذ بيته مستراحًا وفندقًا.
 
وما زلنا نعاني هذا السلوكَ من كثير من الناس الذين نراهم؛ بُيوتهم على أرقى مستوى من المحافظة على الهدوء والنظام، فإذا زاروك في بيتك، وجدتهم كأنَّهم أناس آخرون، لا يعرفون هدوءًا، ولا يبقون على نظام، يفرقعون الضَّحِكات، فيزعجون الجيران، وكأنَّهم يجلسون في مقهى شعبي، يصيحون كلما دخلت الكرة في الشبكة قائلين: "جون، هيه، جون".
 
فضلاً عن الخبط و(الرَّزع) لا الزَّرع، وضرب قطع "الضُّمَنة" والشطرنج بعنف، ضحكات بلا داعٍ، وتعليقات سخيفة، ونكت قديمة، وأشياء مزعجة مزعجة.
 
والزوجة تعلل ذلك بأنَّ القادم إما قدِم على غير مَوعد واتِّصال، فماذا كان بوسعها أن تفعل وهم وقوف على الباب؟ إنَّهم أحرجوها، والزوج يعلم أنَّهم قد اتصلوا، وهي رحَّبت بهم واستقبلتهم، والدليل على ذلك: أنَّها كانت في قمة الانسجام معهم، تضحك وتنير فيهم الضَّحِك، فإن كانت صادقة، لَمَا كانت معهم على تلك الحالة من السعادة والتبسُّط، هذا زعم الزوج، وهو صادق فيما يزعمه؛ لأنَّ للمضطر علامته، ولمن كان في سَعَة علامته كذلك، وليس من علاقة اضطرارها إلى استقبالهم أن تكون أكرم مَن تكون جِهَتهم، فإنْ قالت: إن الذَّوق يقتضي ذلك، أتريدني أن أكون مثل حجر في زاوية، ومن جاء بيتك فقد جعل الحقَّ عليك، فليس حق عليه سوى أن يحسن استقبال مَن جاءه بأنْ يقدم إليه وَشِيكَ القِرى، وأن ينظر في حاجته إنْ كانت له حاجة ثم ينصرف، لكنَّ الذي يَحدث مع هؤلاء أنهم يُوجدون بالبيت إزعاجًا شديدًا وضوضاء.
 
وقد شكا أحد الأزواج، فقال: أتيت إلى بيتي، فإذا بي أشعرُ أنَّ هذا بيتٌ غريبٌ، غير بيتي الذي بنيتُه بيدي، كلُّ شيء فيه مقلوب، والأواني والأدوات كلُّها مقلوبة، وبعد أن انصرف الضيوف الكِرام - الذين هم بالطبع غير كرام - طلبت منِّي زوجتي أن أساعدها في إعادة ترتيب البيت فقلت: "على جُثَّتي"، فأخذت تُعيد كُلَّ شيء في مكانه، وترتب البيت وهي مُجْهَدَة، ثم نامت آخر الأمر كالخِرْقة البالية، أخذت أسأل نفسي: ما هذا؟ وأين زوجتي؟ وكيف أقضي ليلتي؟ ومع مَن؟ إنَّ الضرب في الميت حرام، وهي إلى جواري ميتة، فماذا أفعل؟! وبرغم ما كان من صنوف الطَّعام والشراب، إلا أنَّني بِتُّ ليلتي جائعًا على ظمأ، صحيح أنَّني تناولت معهم بعضَ اللُّقَيْمات، ولكنَّهم حين انصرفوا شعرت بجوع غريب، كأنَّني لم آكل لُقمة واحدة منذ أيام، كأنَّهم أخذوا معهم ما وضعته في بطني، وشعرت بأنني لم أكفَّ عن تناول الطعام معهم؛ لأنني شبعت، ولكنني كَفَفْت عن تناوُل الطعام؛ لأنَّني انتفخت، وهناك فرق بين الامتلاء بسبب الشبع، وبين الانتفاخ بسبب الغَيْظ، قمت أتحسس من شيء في بقاياهم، لكن عفَّت نفسي عن ذلك، فلجأت إلى الله ربِّي أن يرحمني بنومٍ أنسى فيه الذي حدث.
 
أنا رجلٌ لست بخيلاً، وإنَّما أحب النظام والهدوء أريد بيتي ملكِيَّة خاصة، وأريد زائري أن يكون مُؤدبًا مثلما أكون أنا مؤدبًا إن زرته في بيته، وألا يطيل بقاءه عندي؛ ساعات الإقامة في البيت معدودة، وهي قصيرة، فأنا أعودُ لأتناول غدائي، ثم أنام قليلاً، ثم أصحو فأصلي، وأشرب شايًا أو قهوة، ثم أقوم ببعض الأعمال الخاصة التي أزيد بها من دَخلي، ثم أنام بعد عشاء خفيف، وأي خلل في هذا النِّظام يُؤرقني، ويتعب أعصابي، ويجلبُ إلَيَّ الهم والكدر، فلا أرى أين أنا الساعة؟ وما الذي عملت؟ وما الذي لم أعمل؟ وكيف أعوض هذا الوقت الذي ضاع؟ لست أدري؟ هل أنام ومضى وقت النوم؟ وهل أعمل ما اعتدت عمله؟ وكيف أعمل وأنا موصول الجهد، لم أنل قسطًا من الراحة؟ كل شيء أصبح مضطربًا، وأنا لا أطلب المستحيل من زوجتي، إنَّما أطلب منها أن تُفهِّم الأحبة أن لقاءنا يكون يوم إجازتي، لكن كيف تلبي وهي تريد يوم الإجازة يوم نزهة وزيارة لأهلها؟! فهل من أجل ذلك ترحب بهم في الأيَّام العاديَّة التي تعلم أنَّني لا أجد فيها فُرصه لاستقبال أحد، خصوصًا مَن كان على هذه الشاكلة المؤرقة؟ فأين السكن؟!

 

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين