على طريق الخلود

خُلقت يا أيها الإنسان مفتَّنًا، تعترضك على طريق الآخرة المحن والمصائب، وتتناوشك الابتلاءات والشدائد؛

يبتليك الله بالكاذب فتعلم فضل الصدق والصادقين،

ويبتليك بالخائن فتعلم فضل الأمانة والأمناء،

ويبتليك بالغادر فتعلم فضل الوفاء والأوفياء،

ويبتليك بالنذل فتعلم فضل الشرف والشرفاء،

ويبتليك بالفاسد فتعلم فضل النزاهة والنزهاء،

ويبتليك بذي الوجهين المتلوِّن فتعلم فضل الصراحة والوضوح والصرحاء والواضحين،

ويبتليك بذي التصرُّفات الصبيانية فتعلم فضل الرجولة والرجال،

ويبتليك بالنصَّاب المتستِّر بالدين فتعلم فضل الاستقامة والمستقيمين،

ففي كل محنة منحة، ومع كل موقف درس وعبرة، ومن أنموذج الشر يُستفاد البِر، والضد يُظهر حسنَه الضد، وخير ما يحصده المرء من التجارب؛ خبرة لدنياه، وأجر ورفعة لأخراه.

وتلك سهام طائشة تخدش ولا تُعجِز، وتزعج ولا تقعد، وخير ما يفعله المرء ألا يبالي بها ولا بناضليها ورماتها.

رماني الدهرُ بالأرزاء حتى = فؤادي في غشاءٍ من نِبالِ

فصرتُ إذا أصابتني سهامٌ = تكسرت النِّصال على النِّصالِ

وهان فما أبالي بالرَّزايا = لأني ما انتفعت بأن أبالي

ويقدَّر عليك في سيرك نحو الخلود أن تُرمى بالرُّمح النافذ، وتتلقى الطعنة النجلاء، فتبتلى بالكاذب الخائن الغادر المتلوِّن ذي التصرُّفات الصبيانية النصَّاب المتستِّر بالدين فتزداد إيمانًا ويقينًا بحكمة الحكيم إذ خلق جهنم.

ويثمر إيمانك ويقينك سلوكًا عمليًّا فتصبر على الأذى، وتثبت على الإحسان، وتترفع عن الدنيِّات، وتبذل النصح، وتلاين بالوعظ، وتشتد بالإنكار، وتمهِل وتُنظِر امتثالًا لقول إمام المرسلين عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم: (لا يكن أحدكم إمَّعة إن أحسن الناس أحسن وإن أساؤوا أساء).

مستمدًا القوة على إكمال الطريق لإحقاق الحق ورفع الظلم من قول خير الخلق صلى الله عليه وسلم: (إن لصاحب الحق مقالًا).

ومسترشدًا بحكمته بأبي هو وأمي في جعل إنكار المنكر وقطع دابر الظلم مسؤولية اجتماعية جماعية للأخذ على يد كل من لم ينفع معه الصبر والستر، فأصر مستكبرًا على العدوان، يخبط في ظلمه وظلامه خبط عشواء.

جاءَ رجلٌ إلى النَّبيِّ صلَّى الله عليهِ وسلَّمَ يَشكو جارَهُ، فقالَ: اذهَب فاصبِر فأتاهُ مرَّتينِ أو ثلاثًا، فقالَ: اذهَب فاطرَحْ متاعَكَ في الطَّريقِ. فطرحَ متاعَهُ في الطَّريقِ، فجعلَ النَّاسُ يَسألونَهُ فيُخبِرُهُم خبرَهُ، فجَعلَ النَّاسُ يلعنونَهُ: فعلَ الله بِهِ، وفَعلَ، فجاءَ إليهِ جارُهُ فقالَ لَهُ: ارجِع لا تَرى منِّي شيئًا تَكْرَهُهُ.

ومهما تكن عاقبة الدنيا صلاحًا واهتداءً أم فجورًا وتأبيًا فما على المسلم إلا بذل الأسباب، والله يتولى أمر العواقب، وأعظم ما يورث الاطمئنان أن رحلة الدنيا توشك أن تنتهي، وأن العدل المطلق في يوم الجزاء لا يدع صغيرة ولا كبيرة من أكلة فما فوقها.

(مَنْ أَكَلَ بِرَجُلٍ مُسْلِمٍ أَكْلَةً فَإِنَّ اللهَ يُطْعِمُهُ مِثْلَهَا مِنْ جَهَنَّمَ، وَمَنْ كُسِيَ ثَوْبًا بِرَجُلٍ مُسْلِمٍ فَإِنَّ اللهَ يَكْسُوهُ مِثْلَهُ مِنْ جَهَنَّمَ، وَمَنْ قَامَ بِرَجُلٍ مَقَامَ سُمْعَةٍ وَرِيَاءٍ، فَإِنَّ اللهَ يَقُومُ بِهِ مَقَامَ سُمْعَةٍ وَرِيَاءٍ يَوْمَ الْقِيَامَةِ).

السير في هذه الحياة الدنيا سيستمر على طرائق مقدَّرة معلومة في أم الكتاب مرقومة، ففريق يحط رحله في الجنان، وفريق يهوي في النيران، والله حكم عدل، يقيم الحجة، ويبين المحجة، يمهل ولا يعاجل بالعقوبة، ويحلم ولا يأخذ بالذنب الأول، ويستر ولا يفضح باللَّمم، ولكن يأبى قوم إلا تقحُّم النار، فاللهم لا تجعلنا منهم، ولا تجمعنا بهم يا جبَّار.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين