علو الهمة

الشيخ مجد مكي

حث الإسلام على علو الهمة، وحرص على تربية المسلمين على هذا الخلق الكريم، ومن ظواهر خلق علو الهمة، الترفع عن محقرات الأمور وصغائرها، ونشدان معالي الأمور وكمالاتها، ومن تدبر حقائق الأمور، وجد الحياة الدنيا وما فيها من زينة ومتاع أموراً صغيرة قليلة القيمة لا تستحق الحرص عليها، وإيثارها على ما عند الله من أجر عظيم في جنات النعيم، إذ أن أعظم ما في الحياة الدنيا من نعيم لا يعادل قطراتٍ من بحر نعيم الآخرة، وإن أعظم ما في الدنيا من مصائب وشدائد يهون أمام نعيم دار الآخرة، ولا يعادل مقدار شرارة صغيرة من عذاب جهنم.
فمن عرف هذه الحقائق وآمن بها فلابد أن يزهد بعرض الحياة الدنيا، ويقطع علائق قلبه منها ترفعاً إلى ما هو أجل وأعظم، وأبقى وأكرم.
وقد عمل الإسلام على تربية المسلمين على الزهد في الدنيا والتطلع إلى الآخرة ومنازلها العالية، فاتخذ الإسلام لذلك وسيلة الاقناع بحقيقة ما في الدار الآخرة من نعيم مقيم، والاقناع بحقيقة الحياة الدنيا، وأن مدتها قليلة ضئيلة بالنسبة إلى الخلود في الآخرة، وأن كل نعيم فيها مهما عظم فهو قليل ضئيل سريع الزوال مغموس بالأكداء والمنغصات...
ولذلك جاء وصف الآخرة بأنها دار القرار، ودار الخلود، وبأنها لهي الحيوان، وبأنها دار المقامة. قال الله تعالى حكاية لقول موسى عليه السلام لقومه:[يَا قَوْمِ إِنَّمَا هَذِهِ الحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ وَإِنَّ الآَخِرَةَ هِيَ دَارُ القَرَارِ] {غافر:39}.أي دار الاستقرار والثبات.
وقال الله تعالى:[وَمَا هَذِهِ الحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الآَخِرَةَ لَهِيَ الحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ] {العنكبوت:64}.أي: لهي الحياة الباقية الخالدة لا فناء فيها ولا زوال. وقال تعالى حكاية لما سيقوله أصحاب الجنة وهم فيها ينعمون: [وَقَالُوا الحَمْدُ للهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الحَزَنَ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ الَّذِي أَحَلَّنَا دَارَ المُقَامَةِ مِنْ فَضْلِهِ لَا يَمَسُّنَا فِيهَا نَصَبٌ وَلَا يَمَسُّنَا فِيهَا لُغُوبٌ] {فاطر:35}. أي: لا يمسنا فيها تعب ولا يمسنا فيها إعياء بل قوة دائمة على التلذذ بما فيها من نعيم مقيم.
وحث الإسلام على طلب ما في الآخرة من نعيم وخلود: وزهد في الحياة الدنيا وزينتها وزخرفها، وبين العارف الكبير بين ما في الدنيا، وما في الآخرة يقول الله تعالى: [وَفَرِحُوا بِالحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَا الحَيَاةُ الدُّنْيَا فِي الآَخِرَةِ إِلَّا مَتَاعٌ] {الرعد:26}.
وقال تعالى:[ فَمَا مَتَاعُ الحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الآَخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ] {التوبة:38}. وقال تعالى:[وَلَوْلَا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَجَعَلْنَا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفًا مِنْ فَضَّةٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْوَابًا وَسُرُرًا عَلَيْهَا يَتَّكِئُونَوَزُخْرُفًا وَإِنْ كُلُّ ذَلِكَ لَمَّا مَتَاعُ الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالآَخِرَةُ عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ] {الزُّخرف:35}.
أي: لولا أن يكفر الناس جميعاً بسبب تفضيل الكافرين بمتاع الحياة الدنيا لفضلهم الله في الدنيا على المؤمنين بهذا المتاع الفاني احتقاراً له، وامتحاناً للمؤمنين.
فالبيوت الفارهة ذات السقف المصنوعة من الفضة، وذات المعارج والمصاعد المريحة، وذات الأبواب العظيمة و السرر النفيسة، والمزخرفة بالذهب، قد وصفها الله بأنها متاع الحياة الدنيا، ثم وجه الله المؤمنين إلى الآخرة، وما فيها من نعيم مقيم.
وقال تعالى:[فَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتَاعُ الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَا عِنْدَ اللهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى لِلَّذِينَ آَمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ] {الشُّورى:36}.
روى مسلم عن المستورد بن شداد رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ما الدنيا في الآخرة إلا مثل ما يجعل أحدكم أصبعه في اليمّ فلينظر بم يرجع).
وروى مسلم عن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( يؤتى بأنعم أهل الدنيا من أهل النار يوم القيامة، فيصبغ في النار صبغة ثم يقال: يا ابن آدم هل رأيت خيراً قط، هل مرَّ بك نعيم قط؟ فيقول: لا والله يا رب، ويؤتى بأشدّ الناس بؤساً في الدنيا من أهل الجنة، فيُصبغ صَبغةً في الجنة، فيقال له: يا ابن آدم هل رأيت بؤساً قط؟ هل مربك شدة قط؟ فيقول: لا والله ما مرَّ بي بؤسٌ قط، ولا رأيت شدة قط).
ودعا الله تعالى عباده إلى الجنة، وبيَّن لهم عظم قدرها وعلو شأنها، و رفعة مكانتها، قال تعالى:[وَاللهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلَامِ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ] {يونس:25}. وأمرهم بالمسارعة إليها فقال سبحانه:[وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ] {آل عمران:133} .
وأمرهم سبحانه بالمسابقة إليها والمسابقة الجهد بزيادة السرعة:[سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آَمَنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ ذَلِكَ فَضْلُ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللهُ ذُو الفَضْلِ العَظِيمِ] {الحديد:21} .
وأمرهم بالمنافسة في الوصول إليها، فقال سبحانه:[كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الأَبْرَارِ لَفِي عِلِّيِّينَ(18) وَمَا أَدْرَاكَ مَا عِلِّيُّونَ(19) كِتَابٌ مَرْقُومٌ(20) يَشْهَدُهُ المُقَرَّبُونَ(21) إِنَّ الأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ(22) عَلَى الأَرَائِكِ يَنْظُرُونَ(23) تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ(24) يُسْقَوْنَ مِنْ رَحِيقٍ مَخْتُومٍ(25) خِتَامُهُ مِسْكٌ وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ المُتَنَافِسُونَ(26) ]. {المطَّففين}..أي: الراغبون إلى رضوان الله وجنته والمتسابقون في تحصيل الخير الدائم والنعيم المقيم عند مليك مقتدر.
وتقديم: وفي ذلك، على فعل: فليتنافس المتنافسون، دليل على الحصر، والمعنى: فليرغب الراغبون، وليبادر المبادرون إلى الخير والنعيم الدائم في ذلك، لا في الدنيا وأموالها، ولا زخارفها، ولا مظاهرها، ولا وجاهاتها، ولا في أنواع ملاذها ونعيمها، فإنها زائلة فانية على أن نعيم الدنيا غير خالص، مشوب بالكدر مصحوب بالهم والحزن، والمخاوف والمتالف، والأسقام والآلام والموت الذي لابد منه.
روى البخاري ومسلم عن عقبة بن عامر رضي الله عنه قال: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم يومأً فصلى على أهل أحد صلاته على الميت ثم صعد المنبر فقال: (إني فَرَط لكم ـ أي: سابقكم أنتظركم على الحوض ـ وأنا شهيد عليكم، وإني والله لأنظر إلى حوضي الآن، وإني أعطيت مفاتيح خزائن الأرض، وإني والله ما أخاف عليكم أن تشركوا بعدي، ولكن أخاف عليكم أن تنافسوا فيها) أي الدنيا.
لما سمع الصحابة رضي الله عنهم قول الله عزَّ وجل: [فَاسْتَبِقُوا الخَيْرَاتِ] {البقرة:148}.[سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ] {الحديد:21}.فهموا أن المراد أن يجتهد كلُّ واحد منهم في أن يكون هو السابق لغيره إلى هذه الكرامة، والمسارع إلى بلوغ هذه الدرجة العالية، فكان أحدهم إذا رأى من يعمل عملاً يعجز عنه خشي أن يكون صاحبُ ذلك العمل هو السابق له، فيحزن لفوات سبقه، فكان تنافسهم في درجات الآخرة واستباقهم إليها، كما قال تعالى:[ َفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ المُتَنَافِسُونَ] {المطَّففين:26}. ثم جاء من بعدهم فعكس الأمر فصار تنافسهم في الدنيا الدنية وحظوظها الفانية.
قال الحسن: إذا رأيت الرجل ينافسك في الدنيا فنافسه في الآخرة.
وقال مهيب بن الورد: إن استطعت ألا يسبقك إلى الله أحد فافعل.
وقال غيره: لو أن رجلاً سمع برجلٍ أطوع لله منه كان ينبغي أن يحزنه ذلك.
قال عمر بن عبد العزيز في حجة حجها عند دفع الناس من عرفة: ليس السابق اليوم من سبق به بعيره إنما السابق من غفر له.
صاحب الهمة العالية والنفس التواقة لا يرضى بالأشياء الدنية الفانية وإنما همته المسابقة إلى الدرجات الباقية الزاكية ولو يرجع عن مطلوبه ولو تلفت نفسه في طلبه، ومن كان في الله تلفه كان على الله خلفُه.
قيل لبعض المجتهدين في الطاعات: لم تعذِّب هذا الجسد ؟ قال:كرامتَهُ أريد. 
وإذا كانت النفوس كباراً          تعبت في مرادها الأجسام
قال عمر بن عبد العزيز: إن لي نفساً توّاقة، ما نالت شيئاً إلا تاقت إلى ما هو أفضلُ منه، وإنها لما نالت هذه المنزلة ـ الخلافة ـ وليس في الدنيا أعلى منها تاقت إلى ما هو أعلى من الدنيا.
على قدر أهل العزم تأتي العزائم           وتأتي على قدر الكرام الكرائم.
قيمة كل إنسان ما يطلب، فمن كان يطلب الدنيا فلا أدنى منه، فإن الدنيا دنية، وأدنى منها من يطلبها، وهي خسيسة وأخسُّ منها من يخطبها.
قال بعضهم: القلوب جوَّالة فقلب يجول حول العرش، وقلب يجول حول الحش ـ موضع قضاء الحاجة ـ والدنيا كلها حش، وما فيها من مطعم ومشرب يورد إلى الحش. وما فيها من أجسام ولباس يصير تراباً، وكل الذي فوق التراب تراب.
وأما من كان يطلب الآخرة فقدره خطير، ومن كان يطلب الله فهو أكبر الناس همة ومطلوبه أكبر من كل شيء.
لما تنافس المتنافسون في نيل الدرجات، غبط بعضهم بعضاً بالأعمال الصالحات (لا حسد إلا في اثنتين: رجلٌ آتاه الله مالاً فهو ينفق في سبيل الله آناء الليل... ورجل آتاه الله القرآن فهو يقوم به....).
وفي الترمذي: (إنما الدنيا لأربعة نفر: رجل آتاه الله مالاً وعلماً، فهو يعمل بعلمه في ماله ينفقه في حقه، ورجل آتاه الله علماً... لو كان لي مثل هذا لعملت بمثل عمله، فهما في الأجر سواء، ورجل آتاه الله مالاً ولم يؤته علماً، فهو يخبط في ماله ينفقه في غير حقه، ورجل لم يؤته الله مالاً ولا علماً، فهو يقول: لو كان لي مال هذا لعملت مثل عمله... فهما في الوزر سواء).
وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين