علو الهمة في العبادة

أطفالنا والعبادة (18)

علوّ الهمّة في العبادة

د. عبد المجيد أسعد البيانوني

 

الإسلام يربّي المسلم على علوّ الهمّة في كلّ شيء من أمر الدين أو الدنيا، وعُلوّ الهمّة يقتضي أن يحرصَ المؤمن على حسن العمل وكماله، والرغبة بفعله في أوّل وقته، والاجتهاد في تجويده وإتقانِه، كما يحرص على الاستزادة منه، فيما يقبلُ الاستزادة، ويأخذ بالعزيمة في أغلب أحواله.

ومن أهمّ ميادين ذلك: العبادة بمفهومها الخاصّ والعامّ، وحياة المؤمن وعمره كلّ ميدان رحب للعبادة.. والمسلم الفاقه بدينه يوازن دائماً بين الفضائل، ويختار أرجحها في ميزان الله، وأحبّها إليه سبحانه.

وعلوّ الهمّة في العبادة لا يخرج المسلم عن التوازن والاعتدال، وتقديم الأهمّ على المهمّ، وترجيح المصالح العليا على ما دونها.. كمَا أنّ الاجتهاد في العبادة لا يعني الغلوّ في الدين، وفرق بين المفهومين بعيد.

ومنْ يطالع حياة الصحابة والتابعين، ومن تبعهم بإحسان يجد نمَاذج لا تحصى كثرة وعدّاً من شغفهم بالعبادة، واجتهادهم فيها، وعلوّ هممهم في الأخذ من كلّ غنيمة من أبواب العبادات بسهم، فمن نماذج ذلك ما روي عن الحارث بن مالك الأنصاريّ رضي الله عنه أنّه مرّ بالنبيّ  صلى الله عليه وسلَّم فقال له: كيف أصبحت يا حارثة ؟ قال: أصبحت مؤمناً حقّاً، قال: انظر ما تقول، فإنّ لكلّ قول حقيقة، فما حقيقة إيمانك.؟ قال: عزفت نفسي عن الدنيا، فأسهرت ليلي، وأظمأت نهاري، وكأنّي أنظر عرش ربي بارزاً، وكأنّي أنظر إلى أهل الجنة، يتزاوَرُون فيها، وكأنّي أنظر إلى أهل النار يتضاغون فيها، قال: يا حارثة ! عرفت فالزم) رواه الطبراني في الكبير، وفيه ابن لهيعة.

وعن أنسٍ رضي الله عنه أنّ النبيَّ صلى الله عليه وسلَّم لقيَ رجلاً يقال له: حارثةُ، في بعضِ سِككِ المدينةِ، فقالَ: كيفَ أصبحتَ يا حارثةُ ؟ قال: أصبحتُ مؤمناً حقّاً، قالَ: إنّ لِكلِّ إيمانٍ حقيقةً، فما حقيقةُ إيمانِكَ ؟ قالَ: عزفَتْ نفسِي عن الدنيا، فأظمأتُ نَهارِي، وأسهرتُ ليلي، وَكأنّي بعَرشِ رَبّي بارزاً، وكأنّي بأهلِ الجنّةِ في الجنّةِ، يَتنَعّمُونَ فيها، وكأنّي بأهلِ النارِ في النارِ، يُعذّبُون، فقال النبي صلى الله عليه وسلَّم: أصبتَ فالزم، مُؤمنٌ نَوّرَ اللهُ قلبَه) رواه البزار وفيه يوسف بن عطية لا يحتج به، كما قال الحافظ الهيثمي في مجمع الزوائد 1/57. 

وعنْ أنسٍ رضي الله عنه قال: أُصِيبَ حَارِثَةُ يَوْمَ بَدْرٍ، وَهُوَ غُلامٌ، فَجَاءَتْ أُمُّهُ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلَّم، فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللهِ، قَدْ عَرَفْتَ مَنْزِلَةَ حَارِثَةَ مِنِّي، فَإِنْ يَكُنْ فِي الجَنَّةِ أَصْبِرْ وَأَحْتَسِبْ، وَإِنْ تَكُ الأُخْرَى تَرَى مَا أَصْنَعُ. فَقَالَ: وَيْحَكِ أَوَهَبِلْتِ ! أَوَجَنَّةٌ وَاحِدَةٌ هِيَ ! إِنَّهَا جِنَانٌ كَثِيرَةٌ، وَإِنَّهُ فِي جَنَّةِ الْفِرْدَوْسِ) رواه البخاري في كتاب المغازي برقم /3683/.

ومن توازن المسلم وعلوّ همّته في العبادة أن يحسن الجمع بين نوافل العبادات بمفهومها الخاصّ، وبين الواجبات الاجتماعِيّة، وهي من شعب العبادات بمفهومها العامّ..

إذ كثير من الناس عندما يولع بنوع من العبادة بمفهومها الخاصّ يهمل أنواعاً أخرى من العبادات بمفهومها العامّ، وقد تكون في حكم الواجبات الكفائيّة، فهي أرجح منزلة ممّا يولع به من نوافل الأعمال.

ومن أروع النماذج في حياة الصحابة عن ذلك ما جاء في الحديث الصحيح عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلَّم: (مَنْ أَصْبَحَ مِنْكُمُ اليَوْمَ صَائِماً ؟ قَالَ أَبُو بَكْرٍ رضي الله عنه: أَنَا. قَالَ: فَمَنْ تَبِعَ مِنْكُمُ الْيَوْمَ جَنَازَةً ؟ قَالَ أَبُو بَكْرٍ رضي الله عنه: أَنَا. قَالَ: فَمَنْ أَطْعَمَ مِنْكُمُ الْيَوْمَ مِسْكِيناً ؟ قَالَ أَبُو بَكْرٍ رضي الله عنه: أَنَا. قَالَ: فَمَنْ عَادَ مِنْكُمُ الْيَوْمَ مَرِيضاً ؟ قَالَ أَبُو بَكْرٍ رضي الله عنه: أَنَا فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلَّم: (مَا اجْتَمَعْنَ فِي امْرِئٍ إِلا دَخَلَ الجَنَّةَ) رواه مسلم في كتاب الزكاة 1707.

فانظر إلى علوِّ همّة أبي بَكر رضي الله عنه كَيف جمع فِي يوم واحد بين هذه الفَضائل والأعمال الصالِحة، ولم تَمنعه فضيلة عن أخرى، كما لم يحرص على باب من أبواب الخير، ويزهد في غيره، كما يفعل بعض الناس.

لقد كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلَّم رهباناً بالليل، فرساناً في النهار، أصحاب همم رفيعة في عبادة الله، والتقرّب إليه بما يحبّ سبحانه، ولم يفهموا العبادة على نوع وَاحد من أنواعها أو مجالاتها، وإنّما ضربوا في غنيمة كلّ بسهم، وكان لهم في كلّ باب سبق، فكانوا خيرَ هذه الأمّة بعد نبيّها صلى الله عليه وسلَّم، وأسوة حسنة للناس منْ بعدهم.

فعلى الوالدين والمربّين أن يحبّبوا الأطفال بالعبادة، ويغرسوا فيهمْ علوّ الهمّة فيها، والحرْص على أن تؤدّى على أحسن وجوهها، وألاّ يَقْتصرَ اجتهادهم على نوْع واحد منها، ليكونوا من العابدين الذين ينالُهم مدح الله تعالى وثناؤه في محْكمِ كتابه، ولير منهم الطفْل في ذلك كلّه الأسوة الحسنة له، التي تؤثّر في عقله وقلبه وسلوكه ما لا تؤثّره الكلمات وأبلَغُ المواعظ..

 

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين