علم أصول الفقه وأثره في تشكيل العقل المسلم

علم أصول الفقه من العلوم الرائدة، والفهوم الحضارية الخالدة، والمفاخر المنهجية التالدة، والمباني العلمية البارقة، التي نُباهي بها على تطاول الزمن، وتُعلن عن نفسها بالخيرية والأصالة، قوانين ابتكرها العقل المسلم؛ لتكون قناديل هداية، من خلال الاجتهاد الدقيق المبُدِع المُستنِد إلى أدلة كلية، وكان ثمرة نظر عميق، وفكر سديد، ومعرفة واسعة، وعلم غزير، وإدراك لضرورة الخريطة الذهنية، التي تَعصِم المرء من الزلل أو التِّيه في بيداء المساحات المعرفية؛ ليكون هذا العلم الممثِّل الشرعي لضوابط المعرفة الإسلامية، وإن شئت قلت: هو دستور المنهج البَحثي، الذي يعمل على الضبط والربط، من خلال تداخُل علومه المتشابِكة والمُتعاونة المكمِّلة لبعضها؛ ليصنع التشكيل العلمي بطرائق صحيحة.

 

يقول الدكتور محمد الزحيلي في كتابه "الشافعي واضع علم أصول الفقه" (ص: 6): "إن علم أصول الفقه من أشرف العلوم، وأعظمها قدرًا، وأكثرها نفعًا؛ لأن غايته هي الوصول إلى معرفة الأحكام الشرعية في كل ما يجري في الحياة؛ ليكون المسلم على منهج الله تعالى في حياته، ويصل إلى المكان الذي أمره الله به، ويتجنَّب المعاصي والمحرَّمات والمضارَّ التي ينهى عنها".

 

أول من وضع قواعده في كتاب الإمام الشافعي؛ في كتاب نفيس سماه "الرسالة"، ثم تتابع التأليف فيه ما بين مُطوَّل ووسيط ومُختصَر، وكل عصر له علماؤه الأصوليون الذين تُرجمَت سيَرُهم في طبقات الأصوليين وكتُب الأعلام مع التعريف بكتبِهم وطرائقهم المدرسية في التأليف والأداء، مع ذكر خصائص كل مدرسة، والاستدراكات التي عليها بما يُغني ويُثري، وصارت المكتبة الإسلامية غنية بالمؤلفات والنفائس الأصولية، ومنها "المُستصفى"؛ للغزالي، و"المحصول"؛ للرازي، و"الموافقات"؛ للشاطبي، و"روضة الناظر، وجنة المناظر"؛ للحنبلي، و"المسودة"؛ لآل تيمية، و"رفع الملام عن الأئمة الأعلام"؛ لابن تيمية، و"إرشاد الفحول"؛ للشوكاني، و"أصول السرخسي"، و"الأشباه والنظائر"؛ للسيوطي، و"الفروق"؛ للقرافي، و"الورقات"؛ للجويني وشروحها الكثيرة، وغيرها كثير، وهذا من باب النموذج، وليس الاستقصاء، وهكذا إلى أن نصل إلى حاضرنا المعاصر، لنقف على "علم أصول الفقه"؛ لخلّاف، و"الوجيز في أصول الفقه"؛ لزيدان، و"أصول الفقه"؛ لمحمد أبو زهرة، وغيرها كثير.

 

• • • •

عرَّفه الإمام ابن مفلح، بقوله: "القواعد التي يتوصل بها إلى استنباط الأحكام الشرعية الفرعية".

 

علم نضج على أيدي عباقرة المسلمين، وظهر مؤسَّسًا على قواعده، التي عُرف بها، جملة أو تفصيلاً، إجماعًا أو اختلافًا؛ ليكون تعلُّمه واجبًا من واجبات التوصيف التي ذكرها العلماء، ومنها قاعدة: "ما لا يتمُّ الواجب إلا به، فهو واجب".

 

علم من خلاله نعرف، الراجح من المرجوح، والصحيح من السقيم، والغثَّ من السمين، والمَقبول من المردود، ولعلَّ طيفًا من أطيافه ربط ذلك بالعدل بمفهومه الشامل، العدل الذي هو جماع الحسنات، ونفي الظلم الذي هو جماع السيئات، كما ذكر ذلك الشيخ ابن تيمية في الفتاوى (10/ 256).

 

قال تعالى: ? اللَّهُ الَّذِي أَنْزَلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَالْمِيزَانَ ? [الشورى: 17]، وقال تعالى: ? لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ ? [الحديد: 25]، ذلك أن أكبر مشكلة يواجهها العقل، أن يَمضي من غير هدى ولا طريق واضح، ولا قواعد محكمة تدل على المسير، ولا ميزان، وهنا يكون التخبُّط، ويَكمن الخلل، ويحدث الجدل المقعد، لذا كانت (الخرائط) وهي عمل إبداعي، وكانت (البوصلة) والحاجة أم الاختراع، من أبرز مكتشفات الدلالة، التي حلَّت كثيرًا من المعضلات، فهو قنطرة الوصول إلى الحكم الصائب.

 

وصدق من قال: "أصول الفقه رياضيات أهل الشريعة"، والعلماء في بعض صور التقسيم للعلوم يجعلون علم الأصول من علوم الآلة؛ مثل علم النحو؛ أي: إنه أداة من أدوات الوصول إلى الحقيقة المعرفية بوصفها الذي تستحق.

 

يقول الإمام الغزالي: "ويُعتبر علم أصول الفقه علمًا جامعًا بين المنقول والمعقول، فإنه يأخذ من صفو الشرع والعقل سواء السبيل، فلا هو تصرُّف بمحض العقول؛ بحيثُ لا يتلقاه الشرع بالقبول، ولا هو مبني على محض التقليد الذي لا يشهد له العقل بالتأييد".

 

وكان من مباحثه الرائقة مباحث الأدلة والألفاظ، وغير ذلك من قواعد وضوابط وأصول، لنمرَّ على الظاهر والمؤول، والعام والخاص، والمُجمَل والمبيَّن، والمُطلَق والمقيد، والناسخ والمنسوخ، والتعارض والترجيح، ومباحث الاجتهاد والتقليد، والمفتي والمستفتي، وغير ذلك من قواعد وأصول.

 

ومن يُنعم النظر في هذه القواعد والضوابط، ويغوص في أعماق بحر مفاهيمها، يُدرك تمام الإدراك كيف أن هذا العلم عمل على تشكيل العقل المسلم، وصبَغه بصبغة الحفظ، وصاغه صياغة دقيقة وقتْهُ من موبقات الزلل.

 

وحيث وجد الخلل كان القصور في فهم الأصول؛ فالفهم السليم رأس النجاة، فهو أولاً لو كانوا يعلمون.

 

فالفكرة الناظمة المعرفية دليل استِقصاء، وجهود سَبر، وسهر على ربط المقدمات بالنتائج، والجزئيات بالكليات، والفروع بالأصول؛ تعبيرًا عن حاجة ملحَّة على درب الثقافة والعلوم، وهنا تكمن العبقرية؛ إذ المحفوظات بمجردها يُتقنها كل أحد حسب نسب القدرة التي تَختلف من إنسان إلى آخر، بل ربما بعض الكائنات الأخرى تُجيد الترداد أكثر من الإنسان.

 

ولعلَّ قول بعض العلماء: "مَن حُرم الأصول، حرم الوصول"، فيه دلالة معنى مهمٍّ غاية الأهمية؛ من حيث المراد؛ لأن الذي يَمضي من غير دليل وبرهان، لن يصل إلى نهاية الطريق بأمان وسلام، وربما هذا سرُّ حيرة بعض الفلاسفة واضطرابهم، بل جنون بعضهم أو عزلتهم، ولو عاشوا في المقابر.

 

رغم أنه كُتبت في ذلك مجلدات، وعقدت له مجالس ومناظَرات، وصرفت لأجله جهود مُضنيات، فنتج عن ذلك التعارض والتناقُض، والتصادم والتضارب، والتساقط والتهافت، والتسلسل والدور، والجدل البيزنطي، وظهور جيل الطلاسم واللاأدرية، وليس بعيدًا عن هذا ما حدث من جمود وانغلاق، وكتم للعقول من عملها، وظهور حالة التقليد غير المُبصِر، والتعصُّب المَقيت وما كان له من آثار مدمِّرة، وغير ذلك من صور الانحراف والغلوِّ، كان من أسبابه عدم المضيِّ على هدْي الأصول الضابطة، فحلَّ الهوى وكان الهوج، وسيطرت الفوضى، وغابت معالم الخير عند صنف من الناس.

 

• • • •

ليس عبثًا أن جعل العلماء من شرط العالم - فضلاً عن المُجتهِد - أن يكون عالمًا بأصول الفقه، وإنما كان ذلك حتى يكون من يفكِّر ويَستنبط ويستنتج ويَجتهد ويقود الأمة بعِلمه على دراية بتقدير المسائل، ووضْع الأمور في نصابها الصحيح، دون تخبُّط أو تعثُّر، أو غياب لتأشيرة السير السليم، فالذي لا يعرف العام من الخاص، والمُطلَقَ مِن المقيَّد، والفعل من الاسم، والناسخ من المنسوخ، والفرع من الأصل، والتمييز من الحال، والصحيح من الحسن ومن الضعيف، والمرفوع من الموقوف والمقطوع، والمنطوق من المفهوم.. وهكذا، أنى له أن يكون من أهل الفكر السديد، وأن يتصدَّر السير على جادة الصواب وتكون نواتج فكره على هدى، وصراط مستقيم؟!

 

فتبقى الحاجة مُعلنة عن نفسها بقوة لهذا العلم بالنسبة لطلاب العلم حاجتهم إلى الطعام والشراب، وبدونه أنى لهم أن يصبحوا من العلماء، أو أن يشمُّوا رائحة العلم.

 

ولا تقلُّ حاجة المثقف والسياسي والقانوني والمفكر والباحث إلى العلم عن حاجة العلماء وإن تفاوتَت النِّسَب.

 

• • • •

كما أن بعض الباحثين كتبوا عن أثر هذه القواعد في مجال العبادات وغيرها من المجالات تصحيحًا وضبطًا وفتحًا لآفاق الاجتهاد، فإن العمل الإسلامي ومستلزماته، وفقه الدعوة ونظرياته، بحاجة إلى ترشيد المسير، وتصحيح المسار، والمراجعة المستمرة، بين الفينة والأخرى، والتخطيط الراشد، والنظر الصحيح، والفكر النيِّر؛ من خلال قواعد هذا العلم، الذي - حال استخدامه - يكون الحَصانةَ من الوقوع في الخلل.

 

نحتاج إلى القواعد الأصولية الفقهية وتطبيقاتها على الواقع أكثر من أي زمان مضى؛ نظرًا للتطورات الحياتية في المجالات كافة، والحاجة ماسَّة إلى ضرورة وجود الحلول الناجعة لمُعضِلات المسائل المُتشابكة في الاقتصاد والاجتماع، والسياسة والأحكام السُّلطانية، وفقه الواقع، وفقه النواتج، وفقه الأولويات، وفقه التخطيط.

 

إن أزمة الثقافة تَحدُث - في كثير من الأحيان - عندما تغيب ركائز مكونات العقل المسلم؛ ومنها: "علم أصول الفقه"، وعلم "المقاصد الشرعية"، وفي هذه الحالة يشتغل العقل المسلم في مربعات الخطأ، ودوائر فقدان الصواب، ومن ثَمَّ تكون جهوده في مصبِّ الزراعة الوهمية، فيُصبح كالذي يَبذر في الهواء، أو يكتب على الماء، وهنا تكون الكارثة، ويَكمن المُصاب، ويتحقَّق التراجُع.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين