علَّة تحريم الربا

 

 

أكتبُ إليكم لا بمجرَّد خاطر دار بخَلَدي، ولا بمجرد هاجس قذفت به النفس، أكتبُ عن أمر أكثر الناس فيه مُنغمسون، وهم ما بين مُستقبح له ومُستحسن.

إنَّ ما أخذتموه على عَاتقكم من نشر المعارف الدينيَّة والأحكام الإسلاميَّة، وتنازلكم لإجابة أمثالي، شجَّعني أن أكتب إليكم مُستفتياً، راجياً التفضُّل بالإجابة في أول عدد يصدر بمجلَّتكم الغرَّاء.

سؤال:

ما الحكمة في تحريم الربا؟ هل حَرَّمت الشريعة عُقود الربا لمعنى في اسم الربا فقط، فلا يجوز لمسلم الإقدام على عقد يَتناوله اسم الربا لغة وشرعاً واستنباطاً؟ أم حَرَّمت الشريعة تلك العقود لما فيها من الضرر اللاحق بالمدين وأخذ ماله بالباطل بتخيُّل منفعة وهميَّة ظنَّها الذين يتخبَّطهم الشيطان من المسِّ منفعة حقيقية فقالوا: إنَّما البيع مثل الربا، فكأنَّ المدين يزيد في المال والدائن يزيد في الأجل مُعتقداً أنَّ زيادة المال المتحقِّقة المنفعة توازي الزيادة في الزمن التي لا قيمةَ لها ثابتة يستحق بها سلبَ مال أخيه ظلماً وعدواناً؟

فإن كانت هذه هي علَّة تحريم الربا فلمَ أباح الفقهاء جميعاً بيع الشيء بأكثر من ثمنه وقت البيع من أجل الدَّين؟ أليست تلك الزيادة على ثمن المبيع كانت في مُقابل الزمن المحض، وإنظار المشتري في الثمن؟ أليست علَّة الربا في مثل هذا ظاهرة؟ أليس بإمكان المشتري لو كان معه مال أن يشتريه بقيمته الحقيقيَّة حين العقد؟ أيحقُّ لنا أن نستقبح صنع من يتخذ من ظاهر بعض الأحكام مِعْولاً يهدم به الدين باسم الدين، يحرِّمُ عليهم حقاً واجباً ويحل حراماً، غير ناظر لأسرار الشريعة وما تَرمي إليه؟ 

أليس هذا باباً عظيماً يوصل إلى تهمة الربا، ويوصد من ورائه باب الرأفة والشفقة وبرة الافتراض؟ أليس حديث: "من باع بيعتين في بيعة فله أوكسهما أو الربا" [رواه أبو داود والحاكم وصحَّحه، وقال: على شرط مسلم، ووافقه الذهبي]، وحديث نهيه صلى الله عليه وسلم عن بيعتين في بيعة [أخرجه أحمد والترمذي وغيرهما]، وحديث: "لا يحل سلف وبيع وشرطان في بيع" [أخرجه أحمد، وأبو داود، والترمذي، وابن ماجه]، ونحوها بمجموع رواياتها صالحة لحظر مثل هذا العقد؟ وإن لم تكن صالحة للحظر، فهل مثل هذا الكسب يُعدُّ كسباً طيباً يُقدم عليه من طلب البراءةَ لدينه؟.

الجواب:

إنَّ أحكام المعاملات في الدين الحنيف جاءت مُتضمِّنة لمصلحة المجموع الإنساني على وجه العدالة والإنصاف، بحيث تكفل دوام التساند والتعاون بين الأفراد والطوائف بعضهم مع بعض. ومعلوم أنَّ الفرد الواحد لا يستطيع أن يقوم بتحصيل جميع ما يحتاجه بنفسه بلا معونة من أخيه الإنسان، بينما يستطيع أن ينتج من بعض الشؤون ما يربو على حاجته وحاجات كثير من أبناء نوعه، فالزارعُ ينتج من محاصيل النبات ما يفي بطعامه وطعام الكثير، بينما هو عاجزٌ عن حياكة ملابسه وخياطتها، وبناء داره وأمثال ذلك، بل هو يقوم بإنتاج بعض المزروعات كالطعوم أو نباتات النسيج، بينما يعجز عن نبات الفاكهة مثلاً، والصانع مثله: يَحيك النَّسَّاج أكثر مما يلزم لملابسه، بينما هو عاجز عن إنتاج ما يطعمه، وهلمَّ جرا، فكان لابد للإنسان من التعاون بأخيه الإنسان.. 

وكثيراً ما يقضي النظام أن تكون كل طائفة مُنحازة إلى ناحية، مُتفرِّغة لإنتاج ما نِيط بها من مَرَافق الحياة، تنتج لغيرها شيئاً، وينتج لها غيرها أشياء، فمن يوصل تلك المنتجات للمحتاجين إليها؟. 

تلك هي فئة التجَّار يجلبون من هنا إلى هناك، ويوصلون لكل قوم ما يسدُّ حاجاتِهم، فالتجارة عمل ضروري من أعمال التساند الإنساني، وإنها مُعرَّضة أكثر من غيرها للفشل، كما أنها قد تؤدي بأسرع ما يمكن إلى الثروة الطائلة، ولعله كلما اتسعت ثروة التاجر اتسعَ نطاق تجارته، وتمكَّن من تعميم نفعها لبني نوعه.. 

وإنَّ فشل التجارة ونجاحها مَنوطٌ بالإقبال على معاملته والإعراض عنها، والإقبالُ عليه وليد الحاجة إلى ما لديه، فأول واجبات التاجر أن يتعرَّف مواقع حاجات الناس فيجلب لهم ما يروج عندهم، ويتحاشى مالا حاجةَ لهم به، ومن للتاجر بأن يُوفَّق دائماً إلى اختيار ما يُصادف إقبال المشترين؟ إنَّ التجربة دلَّت على أنَّه مهما أوتي من الحذق لابد أن يخونه الحظُّ ويخطئه التوفيق في بعض الحالات، فتبور عليه تجارة ربما صرف في سبيل تحصيلها أعز ما لديه، فهو محتاجٌ دائماً إلى أن يَستعيض ما خَسِرَه في هذه بربح في تلك، ربح ينقذه من كبوته، ويعوِّض عليه بعض خسارته.

هذا قانون محتوم لا يكادُ يسلمُ التاجر من سَرَيان حُكمه، فما من تاجر إلا وهو عُرْضَة للخَسَارة والربح، وللإفلاس والنجح، وللارتفاع والانحطاط، وللرواج والكساد، ولولا أن يفتح أمامه تعويض صفقة بأخرى، وإنهاض من كبوة بحظ يؤاتي، لقضي عليه لسنة أو لسنوات، فلهذا أباح الشارع في الاتجار الربحَ المبنيَّ على اتجاه الرغبات متى خلا من الغَرَر والغشِّ والتدليس. 

أباح أن يشتريَ التاجرُ شيئاً بعشرة فيبيعه للراغب فيه بمائة أو بألف، ذاك لأنَّه عُرضة لأن يشتري بألف فينزل سعر ما اشتراه، أو لا يجد له راغباً حتى يفسد عليه ويذهب هباء، أو تجتاحه آفة سماوية في نقله أو ادِّخَاره، وهلمَّ جرا، فلابد في قانون الإنصاف العام من أن تُراعَى هذه الاعتبارات التي تتعرَّض لها التجارة في كل الأوقات.

كل هذا في الشيء تتَّجه إليه حاجة قوم وتنصرف عنه رغبة آخرين، وتتعلَّق به النفوس في وقت وتنصرف عنه في وقت آخر، ويَنفرد بأداء مَنفعة في حين ويطرأ ما يسدُّ مَسَدَّه في حين غيره، وذاك في العروض التي ينتفع بها عينها.

أما الأثمان التي خُصِّصت لجلب أنواع الحاجات، الأثمان التي قصدت لتحصل غيرها من المنافع لا لينتفع بها هي، الأثمان التي لا تتعرَّض لانصراف الرغبات أو اتجاهها أو ارتفاع قيمتها أو انحطاطها، الأثمان التي يتساوى جميع الناس في جميع الأوقات في الاحتياج إليها، الأثمان التي تشابه في عمومها عموم الحاجة المطلقة، وما من امرئ إلا وله حاجة، وإن تنوَّعت الحاجات بتنوُّع المحتاجين.. 

نقول: أمَّا الأثمان التي هي بالصفة التي شرحناها فليست عرضة لهذه التقلُّبات، وليس جلبها من مكان إلى مكان بمسهل للمنافع والأغراض، فهي في كل وقت وفي كل مكان ولدى كل فئة قيمتها هي هي: لا ارتفاع ولا انخفاض، ولا اتجاه ولا انصراف، بل هي الميزان الذي يُبيِّن قيمة الشيء ارتفاعاً وانخفاضاً.

دعنا مما نسمعه الآن من مثل كلمات ارتفاع قيمة الجنيه أو المارك وانحطاطها، فليس هذا من ارتفاع قيمة الأثمان أي: النقدين، وإنَّما هو من باب التعامل، أصبح بأوراق مَالية إذا تأمَّلتها وجدتها وثائق بدين على جهة مُعيَّنة، فكلما كانت الثقة بالمدين كاملة كانت قيمة الوثيقة محفوظة؛ فإنَّ المدين المليء المستعد للدفع متى طلبت منه يتساوى في نظرك ما هو عليه لك وما هو معك في يدك، وبخاصة إذا كان الوثوق به مُشتركاً بينك وبين كل من تعامله.

وإذا كانت الأثمان ليست عُرضة لاتجاه الرغبات حيناً وانصرافها أحياناً، وليست حاجة فريق إليها بأشدَّ من حاجة فريق آخر، وليست مما يقصد للانتفاع به عينه، بل ليتوسَّل به إلى تحصيل المنافع بالذات، لم يجعلها الشارع متجراً قابلاً للمرابحة، بل أوجب أن تكون المبادلة فيها مَبنيَّة على التساوي، فلا يبدل شيء منها بجنسه إلا مُتماثلاً، وإذا احتاج بعض الناس إليها لتحصيل مَنافعه، وكان لدى بعض آخر ما يفضُل عن حاجته منها فقد رغَّبَ الشارع في المعونة بين الناس بالقرض البريء من الربا، فمن استخدم فيه الزيادة فقد طَغَا على القانون الذي رَضِيَه الحق جلَّ وعلا لتسهيل مَنَافع الناس، فاستحقَّ أن يُؤذَنَ بحربٍ من الله ورسوله.

إذا تدبَّرت هذا تجلَّت لك الحكمة الإلهيَّة في حَظْر الشارع المفاضلة في مُبادلة النقدين قرضاً، وإباحته الربح في مُبادلة العروض التجاريَّة غير مُقيَّد بحد.

بقي الكلام في إباحة أن يختلف سعرُ الأشياء باختلاف حلول الثمن وتأجيله، والأمر فيها ظاهرٌ جَليٌّ؛ فإنَّ التاجر يبيع بثمن مقبوض يتمكَّن من تقليب تجارته بجلبِ بعض أصناف قد تدرُّ عليه ربحاً يَنفعه أو يعوِّضه بعض خسارته، أما الذي يَبيع بثمنٍ مُؤجَّل فقد فات عليه هذا الغرض كما خرج من يده الصنف الذي كان يَنتظر منه الربح، وربما لو بقي لوجد من يَشتريه بأكثر مما يَبيع به، فلذا أباح الشارع أن يكون لتأجيل الثمن حصَّة من الزيادة فيه، وهذا بخلاف القرض؛ فإنه جُعل باباً للتراحم والتعاطف بين الناس، وإدخالُ الربا فيه مقطعة لصلاتهم، ومُوهنة لروابطهم، وإنَّك لتجد من غضاضة من يدفع الربا وتقزز نفسه ما لا تجد شيئاً منه لدى مشتري صفقة بثمن غالٍ ما لم يكن البائع قد غَرَّر به وخدعه وغَشَّه، فهذا باب فساد آخر حرَّمه الشارع. أما من اشترى بثمنٍ غالٍ وهو عارف بغلوه فلا يَعْتريه ذلك الذي شرحنا حاله في الربا.

هذا هو القانون العامُّ، والتشريع في المعاملات: يُناط بما عليه الناس غالباً، ولا يَعتمد ما يتحايل به بعضهم في شُذوذ، فيصرفون الأحكام العامَّة على وفق حالة خاصَّة كالصورة المسؤول عنها، فلو كان هذا مما يمنع أصل الحكم لكانت المفاسد التي تطرأ على كل المعاملات شذوذاً مانعة من إباحتها، فكان البيع يبطل؛ لأنَّه قد يقصد به صرف الثمن في بعض الأغراض السافلة أو الشهوات الدنيئة. والإجارة تبطل لأنَّها قد يُراد منها وجود جارٍ مُضارٍّ لمن يجاور الدار أو الحقل، وهلمَّ جرا. فما من مُعاملة إلا وهي عُرضة قصد غير مشروعة، وذاك لا يُؤثِّر في مَشْروعيتها في نفسها.

نعم تلك المقاصد في ذاتها ممقوتة في نظر الشارع يجازي عليها الشارع الحكيم كما يجازي على كل سيئة وعلى كل حسنة، ولكن هذا لا يقدح في مشروعيتها، فحكمة حل البيع بإطلاق صون باب عظيم من مَرَافق الحياة من أن يتدهور بالطوارئ والمفاجآت، وذلك الباب هو التجارة الضروريَّة للعمران، وقد قال الله تعالى: [لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ] {البقرة:198}. قال ابن عباس رضي الله عنهما: هو البيع.

وحكمة تحريم الربا ما شرحناه هنا، وأما الأحاديث المشار إليها في السؤال كحديث: بيعتين في بيعة أو بيع وسلف، فليست مما نحن فيه، فهذا بيع فحسب، إلا أنَّه مع تأجيل الثمن، أما إذا حلَّ الأجل فاتَّفق المتبايعان على مدَّة لأجل آخر في نظير ربح، فهو قرضٌ جَرَّ نَفعاً، وكل قرض جرَّ نفعاً فهو ربا.

وخلاصة الجواب: أنَّ هذه المعاملة المسؤول عنها صحيحة في نظر الشارع، وإن كان استغلالُ حاجة المحتاجين، وابتزاز أموالهم، مع العلم بحاجتهم وأمانتهم، وأنَّهم أهلُ وفاء غالباً لما كان في ذمتهم أمراً لا يتفق هو ومحاسن الشريعة، ولا يرضاه الرحمن الرحيم، وقد قال صلى الله عليه وسلم: "الراحمون يرحمهم الرحمن، ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء" [أخرجه أحمد وأبو داود والترمذي، من حديث عبد الله بن عمرو مرفوعاً]، والله أعلم.

وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم.

المصدر: (مجلة نور الإسلام، العدد: 26 جمادى الآخرة 1351هـ).

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين