علاقة حية مع هلال الشهر المبارك

 

ينظر المسلمون إلى الأفق ثم يناجون ربهم بهذا الدعاء (اللهم أهله علينا باليمن والإيمان والسلامة والإسلام، هلال يمن وبركة إن شاء الله)، وجاء في الحديث أن الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم كان يشير إلى الهلال ويقول: (ربي وربك الله).. كأنه يشرح قوله تعالى: [قُلْ أَغَيْرَ اللهِ أَبْغِي رَبًّا وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ وَلَا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلَّا عَلَيْهَا] {الأنعام:164}.

 

إن الذي زحم الأرض بالبشر زحم السماء بالكواكب ـ ومن بينهما الشمس والقمر يديرها في أفلاكها كيف شاء فهي تعنو لمجده وتسبح بحمده سبحانه وعلى أبناء آدم أن يقدروا الله حق قدره، وأن يصلوا مع حركات الشمس وأن يصوموا مع حركات القمر، ونحن المسلمين نؤدي برضا وسرور الفريضة التي كتبها الله علينا عالمين أننا ننفرد دون الناس كلهم بهذه العبادة، فغيرنا يترك بعض الأطعمة ويتناول أخرى، أما نحن فنغلق الأفواه عن كل طعام ونكبت الشهوة الجنسية ونعلن سيطرة الروح على الجسد ونصوغ سلوكنا في قالب من السكينة والأدب فلا لغو ولا رفث ولا غيبة ولا عدوان..!

 

عندما كان أبونا (آدم) في الجنة كان عنده ضمان ضد الجوع والعري، والكدح والعرق المتصبب [إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيهَا وَلَا تَعْرَى * وَأَنَّكَ لَا تَظْمَأُ فِيهَا وَلَا تَضْحَى] {طه:118-119}. لكنه ضعف وخضع لشهوته فكلفنا نحن أن نربي أنفسنا على قوة الإرادة والسيطرة على الأهواء حتى نكون أهلاً للخلود في دار النعيم.

 

والواقع أن الحضارة الحديثة بقدر ما أحرزت من تقدم علمي خضعت لمختلف الشهوات فشرعت تنحدر وتناوشها العلل والأسقام ولن تنقه حتى تخضع لأمر الله تعالى وتحسن الصلاة والصيام، وتستعد للقاء الخالق الكبير.

 

قال سلمان الفارسي رضي الله عنه: خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في أخر يوم من شعبان فقال: (يا أيها الناس قد أظلكم شهر عظيم مبارك، شهر فيه ليلة خير من ألف شهر، شهر جعل الله صيامه فريضة وقيام ليله تطوعاً، من تقرب فيه بخصلة كان كمن أدىَّ فريضة فيما سواه، ومن أدىَّ فريضة فيه كان كمن أدىَّ سبعين فريضة فيما سواه، وهو شهر الصبر، والصبر ثوابه الجنة، وشهر المواساة، وشهر يزاد فيه رزق المؤمن، من فطر فيه صائماً كان مغفرة لذنوبه وعتقاً لرقبته من النار وكان له مثل أجره من غير أن ينقص من أجره شيء! قالوا: يا رسول الله ليس كلنا يجد ما يفطِّر به الصائم!. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : يعطي الله هذا الثواب من فطر صائماً على تمرة أو شربة ماء أو مذقة لبن، وهو شهر أوله رحمة وأوسطه مغفرة وأخره عتق من النار، من خفف عن مملوكه ـ خادمه ـ فيه غفر الله له..).

 

إنَّ شهر رمضان موسم قربات وموعد سباق كبير إلى الرضوان والخلود ينتظره الأتقياء كما ينتظر الأغنياء الذهاب إلى المصايف لتمتيع أنفسهم، لكن المتعة هنا علاقة حيَّة بالله تعالى وظفر بروحانية عالية ونعيم مقيم .

 

مع الله تعالى في حديث لرسول الله صلى الله عليه وسلم :

(الصيام والقرآن يشفعان للعبد يوم القيامة، يقول الصيام: أي رب منعته الطعام والشهوة فشفعني فيه، ويقول القرآن: منعته النوم بالليل فشفعني فيه. قال: فيشفعان).

 

 العبادات لابدَّ منها لنجاة الإنسان وصقل روحه وزكاة نفسه، وهي تذكِّر بالله سبحانه ونعمه وحقوقه، ويستحيل التفريق بينها، بل تؤدى كلها مجتمعة؛ فلا صلاة بدون صيام ولا صيام بدون صلاة،وكلتا العبادتين أساس للتسامي وباعث على القبول الإلهي.

 

كنت أتابع يوماً درسا في عالم الأفلاك حيث تسبق الأعداد شطحات الخيال وتقاس المسافات بأرقام هائلة، وتضاءلت في نفسي ثم عدت إلى مواقع الأقدام من أرضي ونظرت إلى ما تحت الثرى وعلمت أني لا أدري ولا أرى!

 

قلت: تُرى ما هناك في أعماق هذه الكرة حتى النقطة المكشوفة من سطحها في الجانب الآخر المقابل لي؟ أشياء كثيرة نجهلها كل الجهل، قلت: لكن الله وصف نفسه فقال: [الرَّحْمَنُ عَلَى العَرْشِ اسْتَوَى(5) لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَمَا تَحْتَ الثَّرَى(6) وَإِنْ تَجْهَرْ بِالقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى(7) اللهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الأَسْمَاءُ الحُسْنَى(8) ]. {طه}..

 

إن اللمعة المضيئة عند سدرة المنتهى كالحبة المستخفية في ظلمات التربة سواء في علمه، تبارك اسمه وهو علم مسطور في سجل دقيق منذ الأزل. وملأت أقطار نفسي عاطفة إعجاب بهذا الخالق الأعلى سبحانه وتعالى، بيد أن الكلمات المعبرة تقاصرت ثم احتبست وشاء ربي أن يلهمني كلمات تنفس عما بي، فإذا الكلمات المعبرة في حديث رواه علي بن أبى طالب يصف صلاة النبي عليه الصلاة والسلام جاء فيه: (.. وإذا ركع يقول في ركوعه: اللهم لك ركعت وبك آمنت ولك أسلمت. خشع لك سمعي وبصري ومخي وعظمي وعصبي. وإذا رفع رأسه من الركوع قال: سمع الله لمن حمده، ربنا ولك الحمد ملء السماوات وملء الأرض وملء ما بينهما وملء ما شئت من شيء بعد. وإذا سجد يقول في سجوده: اللهم لك سجدت وبك آمنت ولك أسلمت. سجد وجهي للذي خلقه وصوره وشقَّ فيه سمعه وبصره تبارك الله أحسن الخالقين).

 

في هذه المناجاة ترى الألوهية الكاملة والعبودية الكاملة، بين يدي بديع السماوات والأرض سبحانه يجثو عابد ملهم فيهمس في ركوعه وسجوده بكلمات تصور ما ينبغي أن ينطق به كل فم تحية لذي الأسماء الحسنى.. ذاك في الصلاة. أما في الصيام فنحن عند تناول الفطور نعوض ما فاتنا من طعام الغداء، وقد نتوسع في ذلك إلى حد الإسراف، لكن محمداً صلى الله عليه وسلم انفرد بعبادة لا يقوم بها غيره! إنه لا يفطر مع الناس أحياناً إنه يواصل الصيام يوماً آخر أو يومين!

 

يقول صلى الله عليه وسلم للناس: (إنكم لستم كهيئتي، إنني أبيت عند ربي يطعمني ويسقين) وهذه عبارة تصور قدراته الروحية الفائقة، فإذا كان بعض الناس عبيد بطونهم فهو فوق هذا المستوى المادي وأرفع قدراً .

 

يستعد المؤمن لرمضان قبل مقدمه: كيف يحسن صيامه وقيامه؟ كيف يخرج منه مغفور الذنب مضاعف الأجر؟

 

فإن الشهر الكريم تدريب على الطاعة وترشيح للتقوى كما قال تعالى: [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ] {البقرة:183} ومن الخطأ تصور الاستعداد بأنه تدبير النفقات وتجهيز الولائم للأضياف. إن هذا الشهر شرع للإقبال على الله تعالى والاجتهاد في مرضاته وتدبر القرآن وجعل تلاوته معراج ارتقاء وتزكية، إنه سباق في الخيرات يظفر فيه من ينشط ويتحمس!

 

عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : (أعطيت أمتي في شهر رمضان خمساً لم يعطهن نبي قبلي...

 

أما الأولى: فإنه إذا كان أول ليلة من شهر رمضان ينظر الله عز وجل إليهم. ومن نظر الله إليه لم يعذبه أبدا - يعنى يختار الله الأكثر إقبالاً ونشاطاً وحماساً فيخصه بنظرة رضا لا يشقى أبداً بعدها –

 

وأما الثانية: فإنَّ خلوف أفواههم حين يمسون أطيب عند الله من ريح المسك.

 

وأما الثالثة: فإنَّ الملائكة تستغفر لهم في كل يوم وليلة - مصداق قوله تعالى: [تَكَادُ السَّمَوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْ فَوْقِهِنَّ وَالمَلَائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الأَرْضِ أَلَا إِنَّ اللهَ هُوَ الغَفُورُ الرَّحِيمُ] {الشُّورى:5}

 

وأما الرابعة: فإنَّ الله عز وجل يأمر جنته فيقول لها: استعدي وتزيني لعبادي! أوشك أن يستريحوا من تعب الدنيا إلى داري وكرامتي.

 

وأما الخامسة: فإنَّه إذا كان آخر ليلة غفر الله تعالى لهم جميعاً، فقال رجل من القوم: أهي ليلة القدر؟ فقال : لا ألم تر إلى العمال يعملون، فإذا فرغوا من أعمالهم وفوا أجورهم؟ )

 

والمهم في الصيام والقيام أن يصحبهما اليقين وتحمل التعب لوجه الله تعالى. ولذلك صرَّحت الأحاديث بأن استحقاق الأجر لا يكون إلا مع شرطين، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (من صام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه)

 

وقال صلى الله عليه وسلم : (من قام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه)، وإذا استحق مؤمن المغفرة بأحد العملين فإن العمل الثاني تضاعف به حسناته وينضاف إلى رصيد الخير عنده.

 

وحفزاً للهمم على الاشتراك في هذا السباق جاء في الحديث: (إذا جاء رمضان فتحت أبواب الجنة وغلقت أبواب النار ـ وينادى مناد من قبل الحق ـ يا باغي الخير أقبل ويا باغي الشر أقصر!)

 

 أحيانا يدخل المرء سوقاً تباع فيها السلع الغالية بثمن زهيد، هكذا رمضان، فرصة للتزود بالخير الكثير، وذاك سر النداء يا باغي الخير: هلم..! ليست حملة على الطعام قال الرسول الكريم لأمته: (إنما أخشى عليكم شهوات الغي في بطونكم وفروجكم ومضلات الهوى).

 

والغرائز الدنيا في الناس إذا جمحت وأفلت قيادها هوت بالحضارات وملأت المستقبل بالرجوم، ولابد في ضبطها من الصيام الحكيم والحرمان الواعي المهذب وهذا ما يفعله الصيام الذي عرَّفه الفقهاء بأنه الإمساك عن شهوتي البطن والفرج من الفجر إلى الغروب.

 

ولاشك أن صيام المسلمين يحتاج إلى تأمل وتعقيب في هذه الأيام فإن هذا الشهر يمكن أن يسمى شهر الطعام، وسهر الليل في التلاوة حل محله سمر هزيل المعنى تافه الأثر حتى أن الشاعر القروي قال من قصيدة له:

 

لقد صام هندي فدوخ دولة=فهل ضار علجاً صوم مليون مسلم؟

 

يشير الشاعر إلى حرب المقاطعة الاقتصادية التي أعلنها (غاندى) على الاستعمار الإنجليزي، لقد ألزم قومه أن يتركوا كل ما تنتج المصانع الإنجليزية ولو لبسوا الخيش بدل الصوف الفاخر، وبدأ بنفسه فلف جسمه بخرق متواضعة، ولم تمض شهور حتى توقفت المصانع الإنجليزية، فرحل الإنجليز عن الهند واعترفوا باستقلالها!! هل لدى العرب هذه القدرة النفسية؟ هل يملكون هذه الإرادة الحديدية؟ هل يحكمون شهواتهم أم تحكمهم شهواتهم؟ إن الصوم ليس جوعاً طويلا تمهيداً لأكل كثير، وليس حرماناً موقوتاً يتبعه انطلاق فوضوي!!

 

ثم إنه ليس تحريماً لبعض المأكولات المباحة وتركاً للفم يلغو ويستهل الغيبة واللغو والإسفاف، هذا النوع من العبادات لا خير فيه. وفى الحديث الشريف (رب صائم حظه من صيامه الجوع والعطش، ورب قائم حظه من قيامه السهر).

 

وعن أبى هريرة رضي الله عنه قال رسول الله صلي الله عليه وسلم : (من لم يدع قول الزور والعمل به فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه).

 

وقال الرسول صلى الله عليه وسلم أيضاً: (الصوم جُنة ـ أي وقاية ـ ما لم يخرقها، قيل وبماذا يخرقها؟ قال : بكذب أو غيبة! ).

 

إن العبادات بذور جيدة في الحياة الاجتماعية ولعل أقرب ثمارها ظهوراً حسن الخلق وأدب النفس وكبح الطباع الرديئة. إنه ليسوءني أن يكون السائحون المسلمون في أقطار العالم أول الناس بحثاً عن الشهوات واستجابة للإغراء، كما يسوءني أن ننفق في بلادنا المال الكثير على الكماليات والمرفهات حتى أننا أحيينا صناعات الترف في دول تخاصمنا وتنال منا.

وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم.

المرجع كتاب الحق المر -5- ص 22

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين