عقلية الإقصاء والإلغاء

1

من أسوأ الآفات التي عرفتها الشرية منذ فجر التاريخ إلغاء الآخر أو إقصاءه

فهذه الأرض كانت لآدم وحده وأولاده

رحبة فسيحة لا منازع ولا شريك

ولأمر ما

يهدد أحد أولاده الآخر بقوله: لأقتلنك

وكانت الجريمة الأولى

وصدق الشاعر:

لعمرك ماضاقت بلاد بأهلها

ولكن أخلاق الرجال تضيق

 

2

وانطلق مسلسل الجرائم

ليطال كل مخالف بالرأي أو العقيدة أو الهوى السياسي أو الاجتماعي..

وامتد ليشمل كل من يتعارض مع المصلحة: شخصية  كانت أو عامة!

لو شاء الله تعالى لجعل الناس أمة واحدة

كافرة أو مسلمة

ولكنه أراد التنوع والاختلاف

فقال تعالى: (ولا يزالون مختلفين ولذلك خلقهم)

وجعل عباده ثلاثة أقسام وهي:

أصحاب الصراط المستقيم وهم الذين عرفوا الحق واتبعوه

والمغضوب عليهم: وهم الذين عرفوا الحق ولم يتبعوه

والضالون: وهم الذين لم يعرفوا الحق ولم يتبعوه

وهذه المعاني نكررها مع تلاوة سورة الفاتحة عند كل صلاة!

وجعل الحساب في الآخرة (مالك يوم الدين)

وترك الحرية لعباده في الدنيا (فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر)

وعليه فلا وصاية لأحد على أحد

(لست عليهم بمسيطر)

(وما أنت عليهم بجبار)

(ذرهم يأكلوا ويتمتعوا ويلههم الأمل فسوف يعلمون)

الكل أحرار فيما يعتقدون!

والكل مسئولون أمام الله وحده يوم الدين

(وكلهم آتيه يوم القيامة فردا)

 

3

الإنسان ابن الخطيئة

حتى أولاد الأنبياء ليسوا بمعصومين

إخوة يوسف ضاقوا ذرعا بأخيهم فأطلقموا حملة (اقتلوا يوسف أو اطرحوه أرضا)

ولكن واحدا منهم كان في قلبه ذرة رحمة قال: (لا تقتلوا يوسف وألقوه في غيابة الجب)

وبين القتل والسجن والنفي توزعت حياة المصلحين عبر التاريخ

وعلينا أن نتعظ من تجارب السابقين

وأن نجعل الحياة كما أرادها الله تعالى

مجتمعا إنسانياً بكل الأطياف والألوان

تنوع .. تعدد .. لا إقصاء .. ولا إلغاء

 

4

نحن اليوم في أعتاب القرن الحادي والعشرين

هل استطاعت البشرية أن تتحرر من أغلال فكرة نفي الآخر وسحقه وتدميره؟

إلى حد كبير استطاعت مجتمعات (المغضوب عليهم) و (الضالين) أن تتعايش فيما بينها!

هنالك قانون يحكم الناس بالسوية

وهنالك عدالة اجتماعية وتكافؤ في الفرص

 

5

أما في مجتمعات أهل (الصراط المستقيم)..

فقد انكسفت شمس حضارتنا بعد تربعها في كبد السماء

وثمة انحراف في العصر الأخير

فهناك فوضى وحروب وفتن داخلية تكاد تكون بلا نهاية لها

لخصها الشاعر الراحل نزار قباني قوله في قصيدة بلقيس:

أيَّةُ أُمَّةٍ عربيةٍ .. 

تلكَ التي 

تغتالُ أصواتَ البلابِلْ ؟ 

أين السَّمَوْأَلُ ؟ 

والمُهَلْهَلُ ؟ 

والغطاريفُ الأوائِلْ ؟ 

فقبائلٌ أَكَلَتْ قبائلْ .. 

وثعالبٌ قَتَـلَتْ ثعالبْ .. 

وعناكبٌ قتلتْ عناكبْ .. 

قَسَمَاً بعينيكِ اللتينِ إليهما .. 

تأوي ملايينُ الكواكبْ .. 

سأقُولُ ، يا قَمَرِي ، عن العَرَبِ العجائبْ 

فهل البطولةُ كِذْبَةٌ عربيةٌ ؟

أم مثلنا التاريخُ كاذب؟! 

 

6

في تاريخنا العظيم .. مآس عظيمة

حين يكون السيف مشرعا للدفاع عن الأمة فمرحبا به

وهنا يصدق أو تمام: السيف أصدق إنباء من الكتب...

وأما حين يكون أداة لحل مشكلاتنا الداخلية فتبا له

وهنا يصدق قول قول أحد الصحابة فيما رواه عن الرسول الكريم عليه السلام:

أوصاني خليلي أبو القاسمِ صلَّى اللَّهُ عليهِ وعلى آلِهِ وسلَّمَ: (إن أدرَكتَ شيئًا من هذِه الفتَن فاعمد إلى أحدٍ فاكسِر بهِ حدَّ سيفِك ثمَّ اقعد في بيتِكَ قال فإن دخلَ عليكَ أحدٌ إلى البيتِ فقم إلى المخدَعِ فإن دخلَ عليكَ المخدعَ فاجثُ على رُكبتيكَ وقل بُؤ بإثمي وإثمِكَ فتَكونَ من أصحابِ النَّارِ وذلِكَ جزاءُ الظَّالمينَ). فقد كسرتُ حدَّ سيفي وقعدتُ في بيتي!

 دلائل النبوة - الصفحة أو الرقم: 557

 

 

في تاريخنا تنوع ثقافي ومذاهب فكرية مختلفة!

ولم يكن فيه معارضة سلمية حقيقية برلمانية ..

بل معارضة تريد حقها في الحكم بحد السيف!، وسلطة تريد الاستمرار وسحق الآخر بالسيف أيضا !

يتحاربون فيما بينهم

ثم يبكي بعضهم بعضا

فهم كما قال الشاعر:

إذا احتربت يوماً فسالت دماؤها

تذكرت القربى ففاضت دموعها !

وربما صلى القاتل على المقتول!

وربما وقع القصاص من القاتل ولو بعد حين!

تقول العرب: (بشر القاتل بالقتل ولو بعد حين)

وورد في تاريخ ابن عساكر (كما في موقع المكتبة الشاملة): عن عبد الملك بن عمير ـ أنه قال:  (رأيت عجبا رأيت رأس الحسين [رضي الله عنه] أتي به حتى وضع بين يدي عبيد الله بن زياد،  ثم رأيت رأس عبيد الله أتي به حتى وضع بين يدي المختار، ثم رأيت رأس المختار أتي به حتى وضع بين يدي مصعب بن الزبير، ثم أتي برأس مصعب حتى وضع بين يدي الحجاج قال ابن عساكر:  كذا قال والصواب بين يدي عبد الملك أخبرنا أبو المظفر بن القشيري أنا أبو سعد الجنزرودي أنا أبو عمرو بن حمدان أنا أبو يعلى نا محمد بن عقبة السدوسي نا علي أبو محمد القرشي نا ابن عبد الرحمن الغنوي عن عبد الملك بن عمير قال رأيت رأس الحسين بن علي أتي به عبيد الله بن زياد ورأيت رأس عبيد الله بن زياد أتي به المختار بن أبي عبيد ورأيت رأس المختار أتي به مصعب بن الزبير ورأيت رأس مصعب أتي به عبد الملك بن مروان قال أبو يعلى ما كان لهؤلاء عمل إلا الرؤوس أخبرنا أبو القاسم بن السمرقندي أنا أبو الحسين بن النقور نا عيسى بن علي إملاء نا أبو عبد الله محمد بن مخلد العطار سنة سبع عشرة وثلاثمئة نا أبو حاتم محمد بن إدريس الرازي نا يحيى بن مصعب الكلبي نا أبو بكر بن عياش عن عبد الملك بن عمير قال : دخلت القصر بالكوفة فإذا رأس الحسين على ترس بين يدي عبيد الله بن زياد وعبيد الله على السرير ، ثم دخلت القصر بعد ذلك بحين فرأيت رأس عبيد الله بن زياد على ترس بين يدي المختار والمختار على السرير ثم دخلت القصر بعد ذلك بحين فرأيت رأس المختار بين يدي مصعب ومصعب على السرير ثم دخلت بعد ذلك بحين فرأيت رأس مصعب بن الزبير بين يدي عبد الملك وعبد الملك على السرير ).

وهذا شاعر اسمه سديف يقول مخاطبا السفاح:

يا ابن عم النبـيّ أنـت ضـياء استبنا بك الـيقـين الـجـلـيا

قد أتتك الوُفود من عبد شَمْـس مستعدين يُوجعون الـمِـطـيا

عَنوِة أيها الـخـلـيفة لا عَـن طاعةٍ بل تَخوَفوا المَشـرفـيّا 

لا يغرنك ما ترى من خضـوع إن تحت الـضـلـوع داء دويا

بطن البغض في القديم فأضحى ثابتاً في قلـوبـهـم مـطـويا

فضع السيف وارفع السوط حتى لا ترى فوق طهرهـا أمـويا

مآس ما كان أغنانا عنها.. 

لو كانت الكلمة للعقل والبيان وليست للسيف والسنان!

ولنتذكر قول زهير داعية السلام يخاطب الرئيسين: هرم بن سنان والحارث بن عوف:

وما الحربُ إلا ما علمتم وذقتموا

وما هو عنها بالحديث المرجـــم

متى تبعثوها تبعثوها ذميمــــــة

وتضرى إذا ضريتمـوها فتضرم

فتعرككم عرك الرحا بثفالهــــــــا

وتلقح كشــــــــافاً ثم تنتج فتتئم

....

ولكن أين لنا بمثل زهير اليوم!؟

فالذين يدقون طبول الفتنة ..

أكثر من الذين يغنون للسلم الأهلي

واعجب لشاعر يريد أن يمحو بلدا عربيا من الخريطة!

ماذا بقي من الشعر إذا تحول الشاعر إلى نيرون الذي أحرق روما ؟!

وأي لغة شعرية سامية يحملها من ينفث دخان الفتنة ورائحة الموت!

 

8

كنا نتمنى أن لو احتكمت أمة يقوم دينها على الحق والبرهان إلى العقل والحوار

حتى في الجاهلية كانوا يحلون مشكلاتهم في (دار الندوة) وهي برلمان قريش!

نتمنى أن نرى الحاكم والمحكوم يتحاوران .. ولا يقتتلان

فالحاكم ظل الله في الأرض، يأوي إليه كل مظلوم من عباده

فينبغي أن يكون ظلا ظليلا، لا ظلا (ذي ثلاث شعب!، لا ظليل ولا يغني من اللهب)

والشعب ينبغي أن يكون حضاريا في معارضته

لا مجموعة حرافيش تنتشر في الميادين كيأجوج ومأجوج

نتمنى أن يكون هنالك حلول واتحاد بين الحاكم والمحكوم

حتى يقول كل واحد منهما بحق صاحبه: أنا من أهوى ومن أهوى أنا

ولعمري هذا هو الحلول الحلال! وليس حلول زنادقة المتصوفة!

 

9

التغيير يبدأ من الفكر والقلب أولاً

(إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم)

السيف ليس حلا حقيقيا للمشكلات !

والهروب إليه

هو فزع من استحقاقات الحجة والمنطق والعقل والحوار

والأمم المتقدمة اليوم

تحل مشكلاتها تحت قبة البرلمان

وهنالك شبه انصهار واتحاد تام بين السلطة والشعب

وأما في بلاد (ظلامستان)...

حيث ينخر فيها الحرب و الجوع والفقر و الموت و التخلف...

فالحل دوما في الشارع والميدان!

ولا صوت يعلو فوق صوت المعركة!

 

10

لماذا نحن أمة استثناء؟

نتحاور مع غيرنا ونتقاتل فيما بيننا!

ألا تسري علينا قوانين الاجتماع وحركة التاريخ كغيرنا؟

فرقة ... واختلاف ... ومحاور ... وأحلاف!

لكل جماعة منهم إمامٌ

ولكنَّ الجميع بلا إمام!

حياة عناء وموت عنا كما قال شيخ المعرة أبو العلاء...

ومع هذا نتحدث عن الإنجازات والميزات...

يا أمة ضحكت من جهلها الأمم!

 

11

لم يكن الدين الحنيف يحبذ القتل

وكانت رسالته الأولى أن يقود الناس إلى الله

والحروب في مسيرة الإسلام استثناء وليست قاعدة

وهو يلجأ إليها اضطرارا لا اختيارا

فهي في أساسها دفاع عن مظلوم سواء كان أرض الإسلام أم خارجا

فالنبي عليه السلام جاء ليساعد الناس حيث كانوا

وليقيم قانون العدالة والمحبة بين الشعوب

وليعلي ذكر الله ومحبته ويقدمه على كل الأعمال الصالحة

عن أبي الدرداء رضي الله عنه قال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ألا أنبئكم بخير أعمالكم، وأزكاها عند مليككم، وأرفعها في درجاتكم، وخير من إنفاق الذهب والورق، وخير لكم من أن تلقوا عدوكم فتضربوا أعناقهم ويضربوا أعناقكم، قالوا: بلى، قال: ذكر الله(؛ "قال معاذ بن جبل: ما شيء أنجى من عذاب الله من ذكر الله"‏ [رواه أحمد بإسناد حسن وابن أبي الدنيا والترمذي وابن ماجه والحاكم والبيهقي وقال الحاكم صحيح وصححه الألباني: المشكاة2269

 

12

ومما قاله عليه السلام يوم الحديبية:

(..أما والله لا يدعوني اليوم إلى خطة يعظمون فيها حرمة ولا يدعوني فيها إلى صلة إلا أجبتهم إليها)

فلم يرد القطيعة مع قومه بأي وسيلة كانت !

أليس هو القائل فداه أبي وأمي بحق قريش: (غير أن لهم رحماً سأبلها ببلالها)

 

13

نتمنى أن نرى هذه الأمة كباقي الأمم

تعيش في سلام

انظروا إلى أصدقائنا الهنود

كم ملة وكم دين في الهند!

كلهم متعايشون

والبلد تتقدم !

انظروا إلى الغرب.. إلى الشرق.. إلى الأفارقة ..

العالم كله دخل مرحلة التعايش والتنافس الاقتصادي والعلمي...

أما في بلاد المسلمين!

فكل يوم تتوسع دائرة الدخان ورائحة الدم!

فلنتساءل مع إقبال الذي حدت له أم كلثوم:

ألم يبعث لأمتــــــــــــكم نبي

يوحدها على نهـــــج الوئام

ومصحفكم وقبلتكم جميعـــا

منار للأخوة والســـــــــلام

فما لنهـــــــــار إلفتكم تولى

وأصبحتم حيارى في الظلام

 

14

العقلاء هم من يقبلون التعايش فيما بينهم

وذلك أفضل من أن تهاجر الطيور من أوطانها

بحثا عن الأمان في البلاد الخضراء

وأن تفوح في ساحات أوطانهم رائحة الدم..

وتنتشر أشلاء الضحايا !!

وسيارات الإسعاف!

 

15

أبناء آدم في التعايش راحــــــــة

فتآلفوا .. كي تطلقوا الأنفاســــــا

ولى زمان القتـــــــــل غير مودعٍ

فلتحملوا الأقلام والقرطاســـــــــا

النصر نصر للعلـــــــــوم وللنهى

والعلم أضحى للورى نبراســــــــا

ما عاد بالســـــــيف انقيادٌ للورى

فأقم بعلمك للورى أعراســـــــــــا

عصر الحضارة والتمدن ضَمَّـــــنا

فافهمه تحيا .. واطرد الوسواســا

 

16

آخر الكلام: 

(فمن تبعني فإنه مني ومن عصاني فإنك غفور رحيم) كما قال أبو الأنبياء إبراهيم عليه السلام!

 (أحبوا أعداءكم) كما قال السيد المسيح!

(أعط من حرمك، وصل من قطعك، واعف عمن ظلمك) كما جاء في الحديث الشريف!

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين