عقبة بن نافع‏ البطل الشهيد

الشيخ : محمد رجب البيومي

حين انتصرت الجيوش الإسلامية على الدولة الرومانية لأول مرة في مشارف الشام،  ذعر الروم ذعراً شديداً، وأيقنوا بالخطر الداهم يفاجئهم من حيث لا يتوقعون، بينهما ارتفعت‏ الروح المعنوية للجيوش الظافرة، فاتجهت إلى مصر، وتقدم الجيش العربي إلى وادي النيل‏ فأنقذه مما يتخبط فيه من عسف الرومان وجبروتهم، وانتشر لواء العدالة بقيام النظام‏ الإسلامي في مصر، وفاض نور الإسلام على وادي النيل، فأصبحت هذه البقعة من شمال‏ إفريقية إحدى معاقله الحصينة، وتشرب أبناؤها روح الدين الجديد فاعتصموا بجبله، وحفظوا قرآنه، وتحدثوا بلغته، ولم يكن بد من التطلع إلى إفريقية لننضم برجالها وحصونها إلى الدولة الإسلامية الناشئة، فاتجهت همة القائد الفاتح الحكيم عمر وبن العاص رضي الله عنه إليها فسار غرباً إلى برقة وطرابلس فافتتحهما وترك بهما حامية عربية، وفي خلافة أمير المؤمنين عثمان‏ ابن عفان رضي الله عنه توجه عامله وأخوه في الرضاع عبد الله بن أبي سرح إلى إفريقية على رأس جيش عربي يبلغ عشر بن ألف مقاتل، وقد انضم إليه عقبة بن نافع قائد حامية برقة،  وخرج البربر والروم للقائهم في جيش كثيف يزيد عن جيش الإسلام بما يقدر بمائة ألف‏ مقاتل، ودارت معارك رهيبة صمد لها المسلمون رغم ضآلة العدد والعدد صموداً رهيباً،  فدارت الدائرة على أعدائهم وأبلى عقبة في هذه الملاحم بلاءً حميداً، فتألق نجمه، وعدَّ من‏ قادة الإسلام البواسل، وحماته الميامين.
 
كان عقبة بن نافع شجاعاً مقداماً، وهو من كرام التابعين الذين أدركوا فضلاء الصحابة وأخذوا عنهم الورع والشجاعة والإيمان. وقد امتلأت جوانجه حمية وبسالة، وسحره‏ يا أبداه أبطال الإسلام من فتوة وتضحية، فأعجب بعلي وخالد وأبي عبيدة وسعد رضي الله عنهم، وآلى على نفسه أن يقوم بمثل ما قام به هؤلاء الأبطال ليعلي كلمة الله في بلاد تكتنفها الغياهب ويلفها الظلام.  
 
سار عقبة إلى برقة وأبلي أحسن البلاء في جيش ابن أبي سرح، وأخذ يتحرق شوقا إلى لقاء الأعداء في معارك حاسمة، غير أن أمير المؤمنين عثمان كان يستشهد في داره، وتقع‏ الفتنة بين المسلمين، وتقوم الحروب الداخلية فيما بينهم، ويتوقف طوفان الفتح ريثما تنجلي‏ الغمة وتتحد الكلمة، وعقبة في حاميتة كالأسد السجين، فهو ببرقة يتوق إلى الحرية في ميدان‏ موقعة الكفاح حيث تصل السيوف وتموج الدماء.
 
وفي عهد معاوية رضي الله عنه تحقق ما يبتغيه، فقد ولَّاه الخليفة القيادة وبعث إليه بعشرة آلاف‏ مقاتل ليواصل الفتح، فاندفع القائد الباسل بجنوده ونفث فيهم من روحه. وتقدمهم في كل‏ موقعة، وكان موضع الأسوة بمهارته العجيبة ونضاله المرير.
 
كان عقبة يقف بجيشه أمام الرومان والبربر معاً، والروم قوم متضلعون بفنون‏ الحرب، يعملون الحيلة ويرسمون الخطة، والبرابرة معشر كفاح وجلاد، فقد صهرتهم شمس‏ الصحراء وتسلقوا الجبال واختبروا الآكام والصخور، ونازلوا الوحوش في أرباض ملتوية وأدغال كثيفة، فهم أشبه بالعرب حماسة وقوة، لولا أن إيمان المسلمين يدفعهم إلى المهالك‏ ويحب لهم الاستشهاد، أضف إلى ذلك أن البرابرة أصحاب الصحراء يعلمون مخابئها ودروبها،  ويعتصمون بقللها وآكامها، والعرب غرباء نازحون يجهلون ما يجهل الغريب في أماكن‏ لم تطأها قدمه أو يأته عنها حديث.
 
كانت الصعاب تكتنف الجيش الإسلامي من كل ناحية، ولكن عقبة يستهين بما يعترضه منها، فعليه أن يتغلب عليها باذلاً جهده وفكره وحيله، ومن ثم فقد استبسل‏ وجالد ومضي يشق البيد ويطوي المراحل وينكل بأعدائه الأشاوس حتى خاف محاربوه،  وذاق حلاوة النصر في مطالع كفاحه فوثق به جنده، وسيطر علىهم سيطرة الحازم البصير،  وعالج بالقوة ما يحدث من شقاق، فأخد الخونة بالجزاء الصارم ليكونوا عبرة بالغة لمن‏ يظهرون الإخلاص في الوجوه، ويبطنون البغضاء في القلوب.
 
تقدم عقبة بأبطاله فأحرز النصر والنجاح، ثم عمد إلى أجمة عظيمة تسكنها السباع‏ والأفاعي، ويرهب البربر وحوشها الكاسرة وهوامها المؤذية، فأزال أحراشها وأعمل الرماح‏ والسيوف في حيواناتها ففرت هائمة تتلمس النجاة، ثم ابتني فوقها مدينة القيروان ورأى البربر كتائب الوحوش تفر هاربة من الغزاة الظافرين، فزادت رهبتهم وعدّوا ذلك انتصاراً حاسماً للإسلام تؤيده السماء، فأذعن الكثيرون لدين الله، وهبّوا يساعدون في بناء القيروان،  فشيدوا داراً للإمارة ومسجداً للصلاة وبيتاً للناس. وفي مدة يسيرة أصبحت حاضرة العرب‏ في إفريقية تتجاوب آفاقها بالأذان وترتل في جوانبها آيات القرآن الحكيم.
 
واصل القائد المغوار زحفه وفتوحه، ولكن النبأ يأتي بعزله رغم انتصاره الساحق‏ ومجده العظيم، فاكتأب البطل أسفا وحسرة إذ حيل بينه وبين أمانيه، وضاعف شجونه أن‏ القائد الجديد أبا المهاجر لم يرع له مكانته، فلم يطق صبراً على ما يرى ويسمع، وسار إلى دمشق فأبلغ معاوية رضي الله عنه ما لحقه من تنقص واستخفاف. ومكث في عاصمة الخلافة ينتظر عودته‏ إلى القيادة وفي قلبه أمل بارق، يود أن يتحقق عن قريب.
 
كان أبو المهاجر ينتهج سياسة المسالمة والأمان، ورأي الملاينة سبيلاً ناجحة إلى تجمع‏ القلوب وتآلف النفوس، فصانع البربر، حتى أمنوا جانبه. واعتنق رئيسهم(كسيلة بن لمزم) الإسلام فجامله أبو المهاجر وشفّعه واجتباه، ثم تقدم قليلا إلى الغرب دون أن يحرز فتحاً مييناً، والجيوش الإسلامية لهيفة تتطلع إلى قائد مغامر يطير بها من نصر إلى نصر، ويعيد إليها أمجاد عقبة وفتوحه الخالدات.
 
ولم ترض الأقدار للبطل الأعزل أن ينأي عن مسارح كفاحه وميادين فتوحه. فمات‏ معاوية وأعاده يزيد إلى مكانه من القيادة، فاستقبله الجنود استقبالاً رائعاً، ورجع البطل إلى مضماره الفسيح، والأمل يفسح له الرغائب وينير في عينه الحياة. ولم ينس ما فعله به‏ أبو المهاجر فكال له صاعاً بصاع وأوثقه في الأغلال وحمله مكبلاً مع جيشه الفاتح ليرى‏ بعينه انتصاراته الباسلة. فيتحرق في قيده لهفة وخذلاناً. وليت عقبة قد قابل السيئة بالحسنة،  فيسجل له الدهر مكرمة جديدة إلى مكارمه الرائعات!!
 
وقد استخلف زهير بن قيس على القيروان، وتقدم بجنوده وأبطاله يخوض المعارك‏ الدامية ويقتحم الحصون والآكام.
وكان حر الهجير يحرق الجلود ويرمض الأحشاء وعوائق الطبيعة من جبال ورياح‏ ومضايق تجثم بأهوالها في الطريق، والأعداء يتجمعون وراء الكثبان والهضاب، والوحوش‏ المتنمرة تتربص مع البربر، هول ورهبة في كل مكان! وموت يفغرفاه في كل منعطف وواد! ولكن البطل يستهزئ بالخطوب ويرسم للفتح خططاً محكمة، فيهجم على«باغاية»ويمزق‏ ما بها من البربر والروم، ثم يطير إلى بلاد«الزاب» فتسقط «إربة» منكسرة خاشعة تحت أقدامه، ويفر جنودها إلى الهضاب والتلال بعد تلاحم رهيب، وتأخذ عقبة النشوة فيندفع إلى (طنجة) ويستقبله قائدها مصالحاً مسالماً بعد أن أفزعه الرعب وتحقق الكارثة الدامية لمن همّ بمكابرة وعصيان، ويتقدم الجيش ليرى في بلاد(السوس) برابرة كالوحوش‏ الضاربة حفاة عراة يرسلون الضفائر ويتسربلون بالجلود ويرسلون الصرخات المنكرة في‏ آذان لم تسمع من قبل زمجرة الوحوش من أفواه الآدميين، وتدور المعارك فيتساقط الصرعي‏ من الجانبين، ويتلاحق الطوفان البربري من كل صوب، ولكن القائد يتقدم ويرمي بنفسه‏ تحت الظبا والأسنة المشرعة، والنبال المنهمرة كالسيل، وجنوده من ورائه لا يحفلون بشهيد يسقط، أو جواد يكبو، ويأذن الله بالنصر لدينه، فتنحسر الجموع المتراكمة، وتتفرق الوحوش‏ الواثبة، وترفرف راية الإسلام، ويندفع البطل إلى الأمام حتى يبلغ المحيط الزاخر تنلاطم‏ أمواجه وتهدر أواذيه، فيقذف بجواده إلى الماء حتى يبلغ صدره ويرفع يديه إلى السماء ليقول‏ في بسالة وإعذار: «اللهم إني أشهدك ألا مجاز للخيول في هذا الماء ولو وجدت مجازا لجزت إلى الغرب في سبيل الله!!» قوة وإيمان تملآن روح هذا البطل المغامر الطموح؟!
 
لقد توغل في المهامه الشاسعة والمطارح المجهولة إلى مدى لم يخطر بذهن من الأذهان،  وها هو ذا يرجع أدراجه ظافراً إلى القيروان وقد اعتقد أن الطريق ممهدة ذلول الأوبة هينة مسالمة، ولكن الروم والبرابرة يتحرشون من جديد، وكلاهما في حزن ممض وألم‏ دفين؛ فالروم يلتاعون لملك فقدره، وعدو قوي يستهين بالصعاب، والبرابرة قد خضعوا خضوعاً منكراً لزعيمهم «كسيلة بن لمزم» وقد اعتنق الإسلام وشايع أبا المهاجر ثم نكَّل‏ به عقبة حين رجع إلى القيادة فاستذله في قومه بعد عزة -وهذا خطا كبير- وبالغ في‏ تحقيره فأجبره على سلخ الشياه وغسل القدور، وثارت ثائرته وهو السيد المطاع، فاندفع‏ إلى محالفة الرومان ونبذ الإسلام مما يتوقع حدوثه من كل متكبر طموح!!
 
أجل لقد دبر البربر والروم مكيدة أليمة للجيش الظافر، ووقف الروم أولا أمام عقبة،  فتوجه سريعا إليهم ببقايا جيشه، ولم يكن أن البربر سيهاجمونه من الخلف بقيادة «كسيلة»!! 
 
فما لبث أن وجد نفسه بين المطرقة والسندان حين يطبقون برماحهم وخيولهم من‏ حيث يأمن، وكان أبو المهاجر العظيم لا يزال مكبلاً بالأغلال، فثارت حمية الإسلام في نفسه‏ وعز علىه أن يجد أبناء دينه ولغته يتساقطون كأوراق الشجر على الرمال، فصرخ واستنجد بعقبة ليفك وثاقه فيقف مع أصحابه في مأزقهم الكريمه. واستجاب عقبة لندائه فأعلقه من‏ إساره، ونسي المسلمان النبيلان ما بينهما من خصام، فتقدما الصفوف معاً في بسالة وحمية،  والعدو يرعد ويبرق، والقلة القليلة من الجنود يتهاوون شهيداً خلف شهيد، ويخلف النصر هذه المرة وعده للغزاة الظافرين، فيستشهد أبو المهاجر في معركة حمراء بعد أن ضرب المثل‏ الأعلى للحمية العاقلة والرجولة المترفعة عن النزوات والمآرب!! ويتبعه عقبة فيظفر بالشهادة هو الآخر بعد أن بذل المدَّخر المكنون من حيلته الحربية وقوته وشجاعة أبطاله،  ولكن أجل الله إذا جاء لا يؤخر!! فهنيئا للبررة المخلصين!!
 
لقد أعاد عقبة بجهاده في إفريقية أمجاد خالد في اليرموك، وسعد بالقادسية، فهولا يقل‏ بسالة وتضحية عن هذا وذاك. بل إنهما-كما قال الأستاذ محمود الخفيف في بعض‏ أعداد الرسالة-كانا يحاربان أقواما مترقين حطمتهم الملاذ ووقع التخاذل بيتهم، وليسوا كالبربر شكيمة ووحشية قلة مبالاة، وكان المسلمون في الصدر الأول متحدي الكلمة متفقي الرأي،  فقد اشترى الله أموالهم وأنفسهم بالجنة، وروح محمد صلى الله علىه وسلم لا تزال تغمرهم بسموها الرفيع،  فتصعد بهم إلى علىين، أما عقبة فقد مثَّل دوره بعد تفرق الكلمة في مقتل عثمان رضي الله عنه وقيام‏ التطاحن في خلافة علي رضي الله عنه ، وتمزيق الوحدة بتعدد الفرق وتنازع الأهواء!!
 
وإن بطلاَ ينتصر بجنوده القليلين مع هذه الموانع لجدير بالمحمدة والتبجيل. ويكفي أن‏ اسمه اللامع يأتلق إلى اليوم بأحرف من ضياء في سجل الشهداء من الفاتحين، وتلك عليا مراتب الكمال
 
وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم .
المصدر: مجلة الأزهر مجلد 26 رمضان 1374هـ العدد 15و16.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين