عظة الموت

 

 
الشيخ : مجد أحمد مكي
 
هذه خطبةٌ من خطبي القديمة ألقيت في مسجد السلام بحلب في 12/جمادى الآخرة /1398، الموافق19/أيار/1978 ، ويجد المطالع الكريم لها إطالة في السرد ، وإكثاراً من الشواهد ، وتأكيداً على المعاني، ولهذا أنصح بتقسيمها إلى خطبتين أو ثلاث ، وأسأل الله سبحانه أن يجزي خيراً كاتبها وناشرها ، وأن يتقبل منا ، ويحسن ختامنا.
لقد حادتِ الدنيا بنا عن شاطئ السلامة إلى هُوَّة الهَلَكة والغَواية ، فقد طغتِ المادة على النفوس، واستولت الغفلة على القلوب حتى كأننا في هذه الدار مخلَّدون فلم نعدَّ لدار المعادِ شيئاً من الزاد علماً بأننا عن هذه الدنيا سائرون، وللمال والأهلِ والولدِ والأحبابِ مفارقون ، وللدارِ الآخرة صائرون :[قُلْ إِنَّ المَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلَاقِيكُمْ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ] {الجمعة:8} .
لا يعرف حقيقة الحياة من لا يعرف الموت:
إنه لا يعرِفُ الحياة من لا يعرف الموت ، والأمواتُ وحدهم هم الذين عَرَفوا حقيقةَ الموتِ ، وبمعرفتهم للموتِ عرفوا حقيقة الحياة ، وصدق من قال : الناسُ نيامٌ فإذا ماتوا انتبهوا...
وإذا لم ندرك نحن ـ معشر الأحياء ـ حقيقةَ الموتِ فلا ينبغي أن تفوتنا نظرة تأمليَّة إلى الموت.
فالتفكُّر في الموتِ ضروري لنا لنعرف حقيقة حياتنا ، وندرك أهمية وجودنا في هذه الحياة، فإنَّ الموتَ حدود حياتنا ، فحياتنا مسبوقةٌ بالموت، ومنتهيةٌ بالموت، فقد خلقنا الله تعالى ولم نكن قبل ذلك شيئاً مذكوراً :[هَلْ أَتَى عَلَى الإِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا] {الإنسان:1}  .
وهكذا بدأنا رحلة حياتنا من الموتِ إلى الحياة ، ثم تنتهي بالموت فالحياة الباقية :[كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ] {البقرة:28} .
فكما بدأنا من الموتِ نسير نحو الموتِ في طريقٍ مرسوم لا نتزحزح عنه مقدار شعرة ، ولا نستطيع أن نوقف دولاب الحياة ، فإننا نتغيَّر ونتحوَّل ، أما الخالق العظيم فلا يتغيَّر ولا يتحوَّل، له الكمال المطلق أزلاً وأبداً :[كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الجَلَالِ وَالإِكْرَامِ] {الرَّحمن:27} .
لا رادَّ للموت:
إنَّ الموت حقيقةٌ قاسيةٌ تواجه كلَّ حيٍّ فلا يملكُ لها رداً ولا دفعاً ، ولا حيلة ولا وسيلة ، ولا قوة ولا شفاعة ، فالكلُّ على يقين من قدومه حتى أصبح اليقين بعينه :[وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ اليَقِينُ] {الحجر:99} ....
فالكلُّ مرجعه إلى الله تعالى، والكلُّ يموت ، يموت الصغارُ والكبارُ ، والأغنياء والفقراء، والأقوياء والضعاف... ويموت الصالحون ويموت الطالحون ، ويموتُ المجاهدون، ويموتُ القاعدون ، ويموتُ المستعلون بالعقيدة ويموتُ المستذلُّون للعبيد ... فكلُّ نفسٍ تذوق هذه الجرعة ، وتفارق هذه الحياة :[كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ المَوْتِ] {العنكبوت:57}  .
التحدي بالموت:
إن الموتَ يزيلَ عنا غرور المغترّين ، وجبروت المتجبّرين ، وعناد الملحدين ... ولماذا يتكبرون ويتجبرون؟؟ لأنهم ما عرفوا حقيقة أنفسهم ، ظنوا أنهم أقوياء ، فوقعوا في الغرور والتكبُّر والتجبُّر ولا يتخلى الإنسانُ عن أسباب تكبُّره وغروره إلا إذا عرف نفسه على حقيقتها، وعرف أنَّ الموتَ يتحداه...
ولو أنَّ دعاة العلم الجديد وأرباب الغزو الفضائي، جمعوا أمرهم وحشدوا إمكاناتهم على أن يزيحوا عن أنفسهم شيئاً من هذا الموت الذي قهرهم واستذلهم لما استطاعوا أن يؤخِّروه أو يدفعوه...
هذا الموتُ الذي قَصَم الله به رقابَ الجبابرة ، وكسر به ظهور الأكاسرة ، وقطع به آمالَ الأقاصرة ، فانتقلوا بالموتِ من القصور إلى القبور ، ومن ضياء المهود إلى ظلمة اللحود، ومن التنعم بالطعام والشراب إلى التمرُّغ بالدود والتراب، فانظروا هل اتخذوا من دونه حجاباً وحرزاً :[ هَلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ مِنْ أَحَدٍ أَوْ تَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزًا] {مريم:98}  ؟!!.
موت المؤمن الصالح:
إنَّ الموتَ في حقِّ المؤمن نعمةٌ وفضلٌ فهو يشهد ألطاف الله سبحانه وتعالى فقد روى البخاري (6507)، ومسلم (2683) عن عبادة بن الصامت قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (من أحبَّ لقاء الله أحبَّ الله لقاءه ، ومن كره لقاء الله كره الله لقاءه ، فقلت: يا نبيَّ الله أكراهية الموت ! فكلُّنا يكره الموتَ : قال : ليس ذلك، ولكن المؤمن إذا بُشِّر برحمة الله ورضوانه وجنَّته أحبَّ لقاء الله فأحبَّ الله لقاءه ، وإنَّ الكافر إذا بُشِّر بعذاب الله وسخطه كره لقاء الله فكره الله لقاءه).
 ومصداق ذلك من كتاب الله : [إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ المَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآَخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ نُزُلًا مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ] {فصِّلت:32} . 
فملائكة الله تعالى تتنزَّل على المؤمنين من أهل الاستقامة عند موتهم  تطميناً لأنفسهم وتأميناً لهم... فهم أولياء المؤمنين في الدنيا وفي الآخرة، يُؤْنسونهم من الوحشة في القبور، وعند النفخة في الصُّور، ويوم البعث والنشور ، وما أشدَّ حاجةَ الإنسان إلى الصَّديق الصَّادق وقت الضيق الخانق.
وإن الموت في حقِّ المؤمن هديةٌ وتحفة؛ لأنه يخرج بالموت من دار الفتنة والابتلاء والتكليف إلى دار الثواب والأمن والنعيمِ. فقد روى الإمام أحمد (23625) أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قال : (اثنان يكرههما ابن آدم : يكره الموتَ وهو خير له من الفتنة ، و يكره قلة المال وقلة المال أقلُّ للحساب) .
والموت راحة للمؤمن فقد روى البخاري (6512)، ومسلم (950)، من حديث أبي قتادة بن ربعي: مرَّ النبي صلى الله عليه وسلم بجنازة، فقال : (مستريحٌ أو مستراح منه)، فقالوا: ما المستريح وما المستراح منه؟ فقال : (العبد المؤمن يستريح من تعبِ الدنيا وأذاها إلى رحمة الله ، والعبدُ الفاجر يستريح منه العباد والشجر والدواب).
تحفة المؤمن:
فبالموت ينتقل الإنسان إلى ربٍّ كريم عفو غفور، ولذلك تمنَّاه الأنبياء بعد أن أدوا رسالاتِ ربهم ، وأكملوا مهماتهم، وهذا نبيُّ الله يوسف على الرُّغم من الملك والغنى والتمكين الذي كان فيه تاقت نفسه إلى جوار ربه واللحاق بقافلة الصالحين، فدعا ربه قائلاً : [رَبِّ قَدْ آَتَيْتَنِي مِنَ المُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيَا وَالآَخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ] {يوسف:101} .
وبعد هذا البيان لا نعجب إذا سمعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله فيما يرويه الحاكم (7900) عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما: (تحفة المؤمن الموت).
وكيف يكره المؤمن الموت وهو لقاء الحبيب بالحبيب، وقنطرة إلى النعيم السرمدي الباقي وحينما حضرت بلالاً رضي الله عنه  الوفاة وصاحت امرأته : واكرباه! فقال لها : بل واطرباه! غداً ألقى الأحبة محمداً وصحبه ، فالموت يقرِّب من النبيين والصدِّيقين والشهداء والصالحين وحَسُن أولئك رفيقاً.
الاستعداد للموت:
إننا يجب أن نستعد للموت ونأخذ الزاد  لما لابد منه .
تأهَّب للذي لابدَّ منه             الموت ميقات العباد
أترضى أن تكون رفيقَ قوم           لهم زادٌ وأنت بغير زاد.
وقد حثَّ الرسول صلى الله عليه وسلم على الإكثار من ذكر الموت فقد روى النسائي (1824)، وابن ماجه (4258)، عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : (أكثروا ذكر هادم اللذات).
 وروى البخاري (6416)، وأحمد (4764)، عن ابن عمر قال : أخذ الرسول صلى الله عليه وسلم بمنكبي، فقال : (كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل، وعدَّ نفسك من أصحاب القبور) . وكان ابن عمر يقول : إذا أمسيت فلا تنتظر الصباح ، وإذا أصبحت فلا تنتظر المساء، وخذ من صحتك لمرضك ، ومن حياتك لموتك.
 وروى المقدسي في الأحاديث الصحيحة المختارة عن أبي ذر قال : (أوصاني خليلي بأربع كلمات هُنَّ أحبُّ إليَّ من الدنيا وما فيها، فقال : يا أبا ذر احكم السفينة، فإنَّ البحر عميق ، واستكثر من الزاد فإن السفر طويل ، وخفِّف الظهر فإنَّ العقبة كؤود ، وأخلص العمل فإنَّ الناقد بصير).
لذا فيجب الاستعداد للموت بأخذ الزاد ، وذكر الموتِ الذي يوجب التَّجافي عن دار الغرور...
الغفلة عن تذكر الموت:
والغفلة عن الموت تدعو إلى الانهماك في الدنيا والأُنس بها ، فلا يزال الإنسان يوهم نفسه فيلهو عن ذُكِّر الموت فإن ذكر بالموت قال : الأيام بين يديك إلى أن تكبر ثم تتوب ، وإذا كبر قال : إلى أن تصير شيخاً ، فإذا صار شيخاً قال : إلى أن تفرغ من بناء هذه الدار ، أو ترجع من هذه السفرة ، أو تفرغ من تجهيز هذا الوليد وتدبير مسكن له...
وإن الدنيا كثيرة الأشغال لا يفتح رجلٌ على نفسه باب شغل إلا أوشك أن يفتح عليه عشرة أبواب... إلى أن تختطفه المنيَّة... فهذا الأمل سبب حبّ الدنيا والأُنس بها ، وما ينبغي أن يحملنا طول الأمل على نسيان الموت و الغفلة عنه ، فتطغى علينا آمال كبيرة ، لا تتَّسع لها حياتنا فيأتينا الموت بغتة... فنقع في الحسرة على سراب خادع فنكونُ من تجار الخيال ، وأسرى الآمال، كالذين قال الله فيهم :[وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآَنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ اللهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللهُ سَرِيعُ الحِسَابِ] {النور:39} .
ولقد حث الرسول صلى الله عليه وسلم على تذكُّر الموت وعدم الغفلة عنه فيما يرويه الحاكم (1395) أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لأبي ذر: (زر القبور تذكر بها الآخرة ، واغسل الموتى فإنَّ معالجة جسدٍ خاوٍ موعظةٌ بليغة ، وَصَلِّ على الجنائز لعلَّ ذلك يُحزنك فإنَّ الحزين في ظلِّ الله يومَ القيامة)...
وإنَّ زيارة القبور... واتِّباعَ الجنائز تُذكِّر بالآخرة وتقطع عنا علائق الدنيا... ولهذا كان الصالحون يزورون المقابر ... ويخاطبون أهلها، بل كان الصالحون يزورون قبورهم، فقد كان التابعي الجليل الربيع بن الخيثم قد حفر في داره قبراً، فإذا وجد في قلبه قساوة اضطجع، ثم قال : [رَبِّ ارْجِعُونِ لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ] {المؤمنون:100} .ثم يقول : يا ربيع قد أرجعتك فماذا تعمل؟.
 عندما فعلوا ذلك رقّت قلوبهم وتهيأووا للرحيل . فجديرٌ بمن كان الموتُ مصرعه ، والتراب مضجعه ، والدود أنيسه ، ومنكر ونكير سائله ، أن لا يغفل عن الموت وأن يستعد له ... وليزر القبور وليتذكَّر إخوانه و أقرانه الذين مضوا قبله... و يسألهم عن حُسْن وجوههم التي محاها التراب، وعن ألسنتهم التي كانوا يتكلَّمون بها ، وعن الأعين التي كانوا يبصرون بها...
وإنني لا أدعوكم بذلك لتعرضوا عن الحياة ، فالإسلام دينُ الحياة ، والإسلام عدوُّ اليأس ، إنما أدعوكم لتكونوا واقعيين في حياتكم المحدودة ، وليكن دستوركم في هذه الحياة قول الله تعالى :[وَابْتَغِ فِيمَا آَتَاكَ اللهُ الدَّارَ الآَخِرَةَ وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا] {القصص:77} .
مصيبة الموت:
إنَّ الموت أمر هائلٌ وخَطْب عظيم ، ولقد سمَّاه الله تعالى مصيبة :[ إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ فَأَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةُ المَوْتِ] {المائدة:106} . وذلك لما في الموت من آلام وسَكَرات وشدَّة لا يعلم مداها إلا من ذاقها... و يكفي لبيان شدَّة الموت أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يسأل الله أن يُهوِّن عليه من سكرات الموت، ففي الحديث الذي رواه البخاري (4449)، عن عائشة رضي الله عنه قالت: (كان يدخل يده في قدح ماء ثم يمسح وجهه ويقول : اللهم هوِّن عليَّ سكرات الموت... ويقول : لا إله إلا الله إنَّ للموت لسكرات.... )، وكانت فاطمة رضي الله عنها تقول : واكرباه لكربك يا أبتاه ، وهو يقول : لا كرب على أبيك بعد اليوم.
وروى أحمد (24222) عن عائشة رضي الله عنها أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم كان عنده في مرض وفاته سبعة دنانير أمرهم بالتصدُّق بها، ثم يُغْمى عليه فيشتغلون بوجعه، فدعا بها فوضعها في كفِّه وقال : ما ظنُّ محمد بربه لو لقي الله وعنه هذه، ثم تصدَّق بها كلها. فكيف يكون حال من لقي الله وعنده دماء المسلمين وأعراضهم وأموالهم؟!!
ولما في الموت من شدَّة فما من رسول إلا خيَّره الله عند وفاته بين البقاء أو الرحيل ، وكلُّهم آثرَ الرحيل إلى الرفيق الأعلى.
 روى البخاري (4437)، ومسلم (2444) عن عائشة رضي الله عنها، أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : (إنه لم يُقْبَض نبيٌّ قط حتى يُرى مقعده من الجنة ، ثم يخيَّر . قالت عائشة: فلما نزل برسول الله صلى الله عليه وسلم غشيَ عليه ساعةً ، ثم أفاق وأشخص بصرَه إلى سقفِ البيت، ثم قال : (اللهمَّ الرفيق الأعلى) .
حال الصحابة رضي الله عنهم بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم :
ولما توفي صلى الله عليه وسلم اضطرب المسلمون، فمنهم من دُهش ، ومنهم من أقعد فلم يطق القيام ، و منهم من انعقد لسانه فلم يطق الكلام ... وبلغ الخبُر أبا بكرٍ فدخل بيت ابنته عائشة ورسول الله صلى الله عليه وسلم مُسَجَّى فكشف عن وجهه الثوب وأكبَّ عليه وقبَّل جبهته وهو يبكي ويقول : وانبياه... واخليلاه ... واصفياه... إنا لله وإنا إليه راجعون، مات رسول الله صلى الله عليه وسلم ... لقد قال الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم :[إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ] {الزُّمر:30} .وقال : [وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الخُلْدَ أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الخَالِدُونَ كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ المَوْتِ وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ] {الأنبياء:35} . [وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ] {آل عمران:144} .
وقالت فاطمة: يا أبتاه أجابَ رباً دعاه... يا أبتاه جنة الفردوس مأواه... يا أبتاه إلى جبريل أنعاه...
المصيبة الكبرى بوفاة الرسول صلى الله عليه وسلم :
هذه هي المصيبة الكبرى التي تهون من بعدِها كلُّ مصيبة...وكلُّ كارثة...وصدقت يا رسول الله حيث قلت: (لِيعُزِّ المسلمين في مصائبهم المصيبة بي) أخرجه الإمام مالك في الموطأ (557)  وكان الرجل من السَّلف إذا أصابته مصيبةٌ جاء أخوه، فيقولُ له: يا عبد الله اتق الله فإن في رسول الله صلى الله عليه وسلم أسوةً حسنة.
وإذا أتتك مُصيبةٌ تُشْجَى بها                     فاذْكُر مُصَابَك بالنبيِّ محمد
إنَّ الجمادات انْصَدعت من ألم مفارقة النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم فكيف بقلوب هامت بحبِّ نبيها صلى الله عليه وسلم؟! .
وروى ابن حبان في صحيحه (6507) عن أنس بن مالك قال: كان رسول الله صلى الله عليه و سلم يخطب يوم الجمعة إلى جنب خشبة يسند ظهره إليها فلما كثر الناس قال : ( ابنوا لي منبرا ) فبنوا له منبرا له عتبتان، فلما قام على المنبر ليخطب حنَّت الخشبة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال أنس: وأنا في المسجد فسمعت الخشبة حنَّت حنين الولد فما زالت تحنُّ حتى نزل إليها رسول الله صلى الله عليه و سلم فاحتضنها فسكنت.
 وكان الحسن إذا حدَّث بهذا الحديث بكى، وقال : هذه خشبةٌ تحنُّ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأنتم أحقُّ أن تشتاقوا إليه.
وروى البخاري (4462)، عن أنس أنه لما دُفِنَ رسول الله صلى الله عليه وسلم قالت فاطمة رضي الله عنها: كيف طابت أنفسكم أن تحثوا الترابَ على رسول الله صلى الله عليه وسلم؟!.
 قال أنس : لما كان اليومُ الذي دخل فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة أضاء منها كلُّ شيء فلما كان اليومُ الذي دفن فيه أظلم منها كلُّ شيء وما نفضنا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم التراب حتى أنكرنا قلوبنا ، وكان أنس بن مالك يقول : ما من ليلة إلا وأنا أرى فيها حبيبي ثم يبكي ، ولم يذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا ابتدرت عيناه تبكيان.
الاستعداد للموت قبل حضور سكراته:
فيا أيها الناس استعدوا للموت، ولا تكونوا كالذين قال الله فيهم :[حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ المَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ] {المؤمنون:100} .... {رَبِّ ارْجِعُونِ} إنها كلمةٌ لا معنى لها ولا مدلول... إنها كلمة الموقف الرهيب ، لا كلمة الإخلاص المنيب...
مشهد احتضار الظالمين:
[وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ المَوْتِ وَالمَلَائِكَةُ بَاسِطُو أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ اليَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الهُونِ بِمَا كُنْتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللهِ غَيْرَ الحَقِّ وَكُنْتُمْ عَنْ آَيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ] {الأنعام:93} . وهكذا تغمرهم الشدائد غمرةً بعد غمرة ، وتزدحم عليهم الكربات ، وتتوالى عليهم الضربات...وإنَّ شدَّة الألم في سَكَرات الموت لا يعرفها بالحقيقة إلا من ذاقها، فألم النَّزْع يستغرق جميع أجزاء الإنسان من العروق ومن الأعصاب ومن الأجزاء ومن المفاصل فلكلِّ عضوٌ سكرةٌ بعد سكرةٍ ، وكرْبة بعد كربة حتى يبلغ بها إلى الحلقوم :[فَلَوْلَا إِذَا بَلَغَتِ الحُلْقُومَ وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنْظُرُونَ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلَكِنْ لَا تُبْصِرُونَ فَلَوْلَا إِنْ كُنْتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ تَرْجِعُونَهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ] {الواقعة:87} .
وماذا يفعل الإنسان حين تبلغ روحُه الحلقوم...؟! وهنا تنقطع كلُّ علَّة ، وتنقطع كلُّ حُجَّة ، ويبطلُ كلُّ محال ، وينتهي كلُّ جدال... فيقف الجميع مكتوفي الأيدي عاجزين لا يملكون له شيئاً.
هناك شدَّة الفراق للدنيا وشدَّة إقبال الآخرة ، وهَوْل الدخول في عالم غريب لا أنيس معه ولا جليس ولا صديق ولا رفيق...
[كَلَّا إِذَا بَلَغَتِ التَّرَاقِيَ وَقِيلَ مَنْ رَاقٍ وَظَنَّ أَنَّهُ الفِرَاقُ وَالتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ المَسَاقُ] {القيامة:30} . إنه مشهد الاحتضار القاسي حين تبلغ الروح التراقي، وهي أعلى الصدر عند ثُغرة النحر... ويكون النزع الأخير وتكونُ السكرات المذهلة ... ويكون الكرب الذي تزوغ منه الأبصار.
السفر الطويل:
فيا أيها الناس الرحيلَ... الرحيلَ... فلم يبق من العمر إلا القليل بين أيديكم السفر الطويل، فإن لم تستعدوا الآن للآخرة فمتى تستعدون؟ وإن لم تقطعوا الآن الطريق إلى الآخرة فمتى تقطعون...؟!
روى الطبراني في الأوسط (4278) عن سهل بن سعد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : (إنَّ روح القدس نَفَثَ في روُعي : أحْبِبْ من أحببت فإنك مفارقه ، وعش ما شئت فإنك ميت ، واعمل ما شئت فإنك مجزيٌّ به )
اللهم ارحمنا يا رحيم، وتكرَّم علينا يا كريم...
رب اشرح لي صدري ويسر لي أمري ، و احلل عقدة من لساني يفقهوا قولي.
 اللهم أحينا ما كانت الحياة خيراً لنا ، و توفنا ما كانت الوفاة خيراً لنا .
الله أصلح لنا ديننا الذي هو عصمة أمرنا ، وأصلح لنا دنيانا التي فيها معاشنا ، وأصلح لنا آخرتَنا التي فيها معادنا، واجعل الحياة زيادة لنا في كل خير ، واجعل الموت راحة لنا من كل شر.
اللهم وإن أردت بالناس فتنة فتوفَّنا إليك غير مفتونين.
 اللهم اجعل خير عمرنا آخره ، وخير عملنا خواتمه ، وخير أيامنا يوم نلقاك فيه وأنت راضٍ عنا برحمتك وكرمك يا أرحم الراحمين ، ويا أكرم الأكرمين. وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه و سلم.
المراجع :
1 ـ حياتنا والموعد المجهول ، للشيخ عبد الحميد طهماز.
2 ـ اليوم الآخر في ظلال القرآن، جمع أحمد فايز.
3 ـ الإيمان بـعوالم الآخرة، للشيخ عبد الله سراج الدين.
4 ـ لطائف المعارف، للحافظ ابن رجب الحنبلي

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين