عظات من الهجرة النبوية

 

 

العظة الأولى: 

التاريخ حافظة الأعمال، والأمم غالبًا ما تختار الحدث الجلل بدايةً لتاريخها؛ كولادة المسيح - على نبينا وعليه السلام - عند النصارى، وعام الفيل في مكة وما حولها، وقديمًا أرَّخوا بطوفان نوح، عليه السلام. 

أما المسلمون فقد راعوا في تأريخهم مصالح الأمة، ولهذا فقد وقع الإجماع في خلافة عمر - رضي الله عنه - على جعل هجرة النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه - رضي الله عنهم - من دار الكفر إلى دار الإسلام ابتداءً للتاريخ الإسلامي، وهو المعروف بالتاريخ الهجري.

العظة الثانية:

الدعوة إلى دين الله تعالى لا بد فيها من صبر واصطبار، فالهجرة كانت ثمرة لعناء طويل مرير؛ فقد لبث النبي - صلى الله عليه وسلم - بمكة ثلاث عشرة سنة من المعاناة على دروب الدعوة إلى الله؛ قال الشاعر صِرْمَةُ بن قيس:

ثَوَى في قريشٍ بضعَ عشرةَ حِجَّةً *** يُذكَر لو أُلْفِي صديقًا مُواتِيا

ويَعرِض في أهـل المواسم نفسَه *** فلم يَرَ مَنْ يُؤوي ولم ير داعيا

فلما أتانا واستقرتْ به النَّوى *** وأصبح مسرورًا بِطَيْبة راضيا

وأصبح ما يَخشى ظُلامة ظالم *** بعيدٍ وما يخشى من الناس باغيا

بذلنا له الأموالَ مِنْ جُلِّ مالِنا *** وأنفُسَنا عند الوغى والتأسيا

نُعادي الذي عادى من الناس كلِّهم *** بحقٍّ وإن كان الحبيبَ المُواتِيا

ونعلم أنَّ اللهَ لا شيءَ غيرُه *** وأنَّ كتابَ اللهِ أصبحَ هاديا

العظة الثالثة:

هاجر النبي - صلى الله عليه وسلم - ليَحكم لا ليُحكَم؛ ليكون الآمر والناهي، لا ليكون لاجئًا أو مأمورًا؛ فعن جابر - رضي الله عنه -: "... قلنا: يا رسولَ اللهِ! على ما نبايعك؟ قال: تُبَايعُونِي عَلَى السَّمْعِ وَالطَّاعَةِ... ". أخرجه الحاكم: 4310، وصححه، ووافقه الذهبي.

العظة الرابعة:

إذا احترم المسلمون الأسباب، وتأدبوا مع الأقدار أتاهم نصر الله من حيث لم يحتسبوا؛ فالهجرة ظاهرها الطرد والإخراج، فكانت - بإذن الله تعالى - نصرًا مؤزرًا للمسلمين، وفي ذلك يقول الله - سبحانه وتعالى -: (إِلاّ تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللهَ مَعَنَا فَأَنْزَلَ اللهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ)(التوبة:40).

العظة الخامسة:

الإسراء والمعراج إكرام للنبي - صلى الله عليه وسلم - تساقطت على أعتابه الأسباب، أما الهجرة فقد قامت على الأسباب - مال، وزاد، وراحلة، وخِرِّيت ماهر بالطريق، وتغيير اتجاه السير... -؛ لتكون تشريعًا للمسلمين في الأخذ بالأسباب، وأن ذلك لا ينافي أبدًا مبدأ التوكل على الله تعالى؛ بل هو التوكل عينه؛ فالسبب محله اليد، والتوكل محله القلب؛ فلا تضاد بينهما! فالإسراء والمعراج كان للنبي - صلى الله عليه وسلم - خاصة، وأما الهجرة فهي درس من النبي - صلى الله عليه وسلم - للمسلمين عامة، والله تعالى أعلم.

العظة السادسة: 

درس في الكتمان:

أخرج البخاري(1) عن عائشة أم المؤمنين - رضي الله عنها - قالت: "... فَبَيْنَمَا نَحْنُ يَوْمًا جُلُوسٌ فِي بَيْتِ أَبِي بَكْرٍ فِي نَحْرِ الظَّهِيرَةِ؛ قَالَ قَائِلٌ لأَبِي بَكْرٍ: هذَا رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - مُتَقَنِّعًا(2) فِي سَاعَةٍ لَمْ يَكُنْ يَأْتِينَا فِيهَا، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: فِدَاءٌ لَهُ أَبِي وَأُمِّي، وَاللهِ مَا جَاء بِهِ فِي هذِهِ السَّاعَةِ إِلا أَمْرٌ. قَالَتْ: فَجَاءَ رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، فَاسْتَأْذَنَ، فَأَذِنَ لَهُ، فَدَخَلَ، فَقَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - لأَبِي بَكْرٍ: أَخْرِجْ مَنْ عِنْدَكَ. فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: (إِنَّمَا هُمَا ابْنَتَايَ - يَعْنِي: عَائِشَةَ وَأَسْمَاءَ) بِأَبِي أَنْتَ يَا رسولَ اللهِ!. قَالَ: " فَإِنِّي قَدْ أُذِنَ لِي فِي الْخُرُوجِ ".

فقول النبي - صلى الله عليه وسلم - لأبي بكر - رضي الله عنه -: " أخرِجْ مَنْ عِنْدَكَ ". فيه درس رائع في الكِتمان؛ إذا ما دعت إليه الحاجة.

 

العظة السابعة:

الدعوة إلى الله في السر لا تكون إلا في المجتمعات القائمة على سياسة كَمِّ الأفواه، وخنق الحريات، وهذا ما حمل النبي - صلى الله عليه وسلم - على الاختفاء، ودخول الغار.

العظة الثامنة:

نوم علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - في فراش رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يعني أنه قد تقمَّص شخصية المحكوم عليه بالقتل، وفي ذلك تضحية لا تدانيها تضحية!.

العظة التاسعة:

تنازل أبي بكر - رضي الله عنه - عن ثمن الناقة، وإصرار النبي - صلى الله عليه وسلم - على الالتزام بالثمن فيه درس في بذل التابع وعفة المتبوع، وتنافس الاثنين معًا في تحصيل ثواب الهجرة بالمال والنفس.

العظة العاشرة:

لا يمنع الإسلام في الجهاد من استئجار المشرك المؤتمن عند الحاجة، وإنما الممنوع استئماره؛ فقد استأجر النبي - صلى الله عليه وسلم - في هجرته عبد الله بن أُرَيْقِط، وكان مشركًا؛ ليأخذ به إلى الطريق الآمن.

العظة الحادية عشرة:

ينبغي على المسلمين أن لا يُغفِلوا جانب المرأة في إقامة دينهم؛ فأسماء بنت أبي بكر - ذاتُ النطاقين - بدل أن تجزع لفقد أبيها إذا بها تسهم في تجهيز الطعام، وتسلية الجَدِّ؛ لفقده مال ابنه، وكان أبو بكر - رضي الله عنه - قد هاجر بنفسه وماله. أما الطفلة عائشة - في وقته - فكانت حافظة للسر من الدرجة الممتازة.

العظة الثانية عشرة:

إذا ما انقطعت الأسباب بالمسلم الحق، وضاقت به السبل، وأحدق به الخطب؛ فإن العناية الإلهية غالبًا ما تتداركه، ولو بجنود من عالم الغيب؛ فالله تعالى يقول: (وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا)(التوبة: من الآية40). وهو ما حصل للنبي - صلى الله عليه وسلم - مع سُراقة حينما همَّ بقتل النبي - صلى الله عليه وسلم - أو أسره! فرجع إلى قومه مسلمًا!، وما تم له - صلى الله عليه وسلم - من إدرار ضَرْع شاة أم معبد!.

العظة الثالثة عشرة:

قول أبي بكر - رضي الله عنه - لمن سأله عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: (هادي يهديني الطريق!) أي: طريق الحق عند أبي بكر، رضي الله عنه، وهي بفهم السائل: طريق السفر! وهذا القول يعد من معاريض الكلام، التي يلجأ إليها عند الحاجة، وهي هنا تأمين النبي - صلى الله عليه وسلم - من أذى المشركين!.

العظة الرابعة عشرة:

إن الاستقبال الحاشد، والطوعي الصادق من أهل المدينة للنبي - صلى الله عليه وسلم - لدليل قاطع على أن مَسْلَمَةَ الأنصار كانوا صادقين في بيعتهم، وجادِّين في نشر الإسلام في المدينة المنورة؛ تمهيدًا لهجرة النبي - صلى الله عليه وسلم - إليها.

العظة الخامسة عشرة:

أفضل ما يدل على صدق الداعية حاله؛ قال عبد الله بن سلام - وكان سيد يهود المدينة وعالمهم قبل إسلامه - قال - رضي الله عنه - : فلما تبينتُ وجه النبي - صلى الله عليه وسلم -، عرفت أن وجهه ليس بوجه كذاب!.

العظة السادسة عشرة:

الهجرة صِنْوُ الجهاد، ومرحلة لتجميع القُوى، ومقدمة للقتال؛ يدل على ذلك أن الآيات الكريمة التي أذنت في الجهاد القتالي، وأمرت به لم تنزل إلا بعد الهجرة النبوية.

العظة السابعة عشرة:

يصان الإسلام بحكمة الشيوخ، وطاقة الشباب، فالنبي - صلى الله عليه وسلم -، وأبو بكر كانا يُعدان خطة الخروج، والشباب كانوا الأداة المنفذة، وكانوا - رضي الله عنهم - أربعةً: 

عبد الله ابن أبي بكر، وكان شابًّا، كما أثبتت الرواية. 

وعلي بن أبي طالب، وكان في الحادية والعشرين حين بات في فراش رسول الله، صلى الله عليه وسلم. 

وعامر بن فُهَيْرةَ، وكان في الخامسة والثلاثين. 

وأسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما - ذات النِّطاقين -، وكانت في السابعة والعشرين. 

إذن فكل الذين أسهموا في نجاح هِجرة المصطفى وصاحبه كانوا من الشباب!.

العظة الثامنة عشرة:

حسن اليقين بالله رب العالمين، وبأن أمره نافذ لا يُغلَب، قال الله - عز وجل -: (وَاللهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ)(يوسف: من الآية21). فعنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ - رضي الله عنه - أَنَّ أَبَا بَكْرٍ الصِّدِّيقَ - رضي الله عنه - حَدَّثَهُ قَالَ: " نَظَرْتُ إِلَى أَقْدَامِ الْمُشْرِكِينَ عَلَى رُؤُوسِنَا وَنَحْنُ فِي الْغَارِ؛ فَقُلْتُ: يَا رسولَ اللهِ، لَوْ أَنَّ أَحَدَهُمْ نَظَرَ إِلَى قَدَمَيْهِ، أَبْصَرَنَا تَحْتَ قَدَمَيْهِ! فَقَالَ: " يَا أَبَا بَكْرٍ! مَا ظَنُّكَ بِاثْنَيْنِ اللهُ ثَالِثُهُمَا؟! ". أخرجه مسلم: 2381.

وهذه آخر عظات الهجرة، التي وفقني الله تعالى لجمعها.

 

ـــــــــــــــــــــــــــــ

(1) رقم: 3905، 2138.

(2) مغطيًا رأسَه.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين