عشر ذي الحجة والعمل الصالح فيها

 


بقلم: د. طه فارس
عضو رابطة العلماء السوريين
 
إن أعظم أيام الدنيا وأفضلها عند الله تعالى العشر الأُوَّلُ من شهر ذي الحجة، فقد أقسم الله تعالى بها ليؤكّد لنا عظيم شأنها وعلو قدرها، فقال عز من قائل: (والفجر وليال عشر) [الفجر: ١ – ٢] { انظر: تفسير ابن كثير 5/415، فقد ذكر أن الإمام أحمد روى ذلك مرفوعاً عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما.}
 
 
وهي الأيام المعلومات التي أمر الله تعالى فيها عباده بذكره وشكره { وهذا قول جمهور العلماء، رُوي ذلك عن ابن عباس رضي الله عنهما، وروي مثله عن أبي موسى الأشعري ومجاهد وعطاء وابن جبير والحسن وقتادة والضحاك وعطاء وإبراهيم النخعي، وذهب إليه من الأئمة أبو حنيفة والشافعي وهو المشهور من مذهب أحمد، انظر: تفسير القرطبي 3/2؛ وتفسير ابن كثير 5/415.}، قال تعالى:( ويذكروا اسم الله في أيام معلومات على ما رزقهم من بهيمة الأنعام)[الحج: ٢٨]، ولعل الله تعالى إنما سمَّاها بالمعلومات ذلك ليحرص المؤمن على علمها بحسابها، من أجل وقت الحج في آخرها. { انظر: تفسير البغوي 5/379.}
 
 
وقد ذهب بعض السلف إلى أنها تتمة مواعدة موسى عليه السلام، وأنها المرادة بقوله تعالى:(وواعدنا موسى ثلاثين ليلة وأتممناها بعشر فتم ميقات ربه أربعين ليلة)[الأعراف: ١٤2]{انظر: تفسير ابن كثير 5/415}.
 
 
هذا في كتاب الله، أما في السنة المطهرة فقد أخبرنا النبي صلى الله عليه وسلم بأن العمل الصالح في هذه الأيام المباركات هو من أحبِّ الأعمال إلى الله، وأفضلها وأعظمها عنده، فقال صلى الله عليه وسلم: « مَا مِنْ أَيَّامٍ الْعَمَلُ الصَّالِحُ فِيهِنَّ أَحَبُّ إِلَى اللَّهِ مِنْ هَذِهِ الْأَيَّامِ الْعَشْرِ» {أخرجه أبو داود في الصوم برقم 2438؛ والترمذي في الصوم برقم 757 وقال: حسن صحيح غريب؛ وابن ماجه في الصيام برقم 1727}، وفي رواية: « مَا الْعَمَلُ فِي أَيَّامٍ أَفْضَلَ مِنْهَا فِي هَذِهِ» {أخرجه البخاري في الجمعة برقم 926}، وفي رواية: « ما من أيام أعظم عند الله ولا أحب إلى الله العمل فيهن من أيام العشر ...» { ذكره الهيثمي في مجمع الزوائد 4/8 وقال: رواه الطبراني في الكبير، ورجاله رجال الصحيح}، وفي رواية: « ما من عمل أزكى عند الله عز وجل ولا أعظم أجراً من خير يعمله في عشر الأضحى» { أخرجه الدارمي في سننه 2/41 بإسناد صحيح }.
 
 
بل إن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر بأن العمل الصالح في هذه الأيام المباركات أفضل من الجهاد، الذي هو من أحب الأعمال وأفضلها إلى الله تعالى، باستثناء حالة واحدة، وهي أن يخرج الرجل مجاهداً في سبيل الله تعالى بنفسه وماله، فلا يرجع من ذلك بشيء، وذلك بأن تزهق نفسه ويذهب ماله في سبيل الله، فقال صلى الله عليه وسلم عندما سئل: وَلَا الْجِهَادُ في سبيل الله؟ قَالَ:« وَلَا الْجِهَادُ، إِلَّا رَجُلٌ خَرَجَ يُخَاطِرُ بِنَفْسِهِ وَمَالِهِ، فَلَمْ يَرْجِعْ بِشَيْءٍ» { أخرجه البخاري في الجمعة برقم 926}، وفي رواية: « وَلَا الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، إِلَّا رَجُلٌ خَرَجَ بِنَفْسِهِ وَمَالِهِ، فَلَمْ يَرْجِعْ مِنْ ذَلِكَ بِشَيْءٍ» { أخرجه أبو داود في الصوم برقم 2438؛ والترمذي في الصوم برقم 757 وقال: حسن صحيح غريب؛ وابن ماجه في الصيام برقم 1727}.
 
وعندما سئل النبي صلى الله عليه وسلم: هن أفضل أم عدتهن جهاداً في سبيل الله؟ قال:« هن أفضل من عدتهن جهاداً في سبيل الله.... » { أخرجه ابن حبان في صحيحه 9/164، وقال الشيخ الأرنؤوط: حديث صحيح إسناده قوي؛ وذكره الهيثمي في مجمع الزوائد 3/562}.
 
وهذا يدل على أن وقوع العمل الصالح المفضول في هذه الأيام الفاضلة أفضل وأحبُّ إلى الله تعالى من العمل الفاضل في غيرها من الأيام، وذلك لمضاعفة ثوابه وأجره { انظر: لطائف المعارف لابن رجب ص289.}.
 
ولعل السبب في امتياز عشر ذي الحجة على غيره من الأيام هو اجتماع أمهات العبادة فيه، وهي الصلاة والصيام والصدقة والحج، ولا يتأتى ذلك في غيره{ انظر: فتح الباري لابن حجر 2/460}.
 
ومما سبق يتأكد لنا استحباب الاستكثارِ من الأعمال الصالحة في هذه الأيام بكل أشكالها وأنواعها.
 
فمن العبادات القولية:
التسبيح والتحميد والتهليل والتكبير والدعاء ونحوها، فقد قال صلى الله عليه وسلم: « .... فأكثروا فيهن من التسبيح والتهليل والتحميد والتكبير » { ذكره الهيثمي في مجمع الزوائد 4/8 وقال: رواه الطبراني في الكبير، ورجاله رجال الصحيح. عن ابن عباس رضي الله عنهما}, وفي رواية:« ....فأكثروا فيهن من التهليل والتكبير والتحميد» {أخرجه أحمد في مسنده 2/131، قال شعيب الأرناؤوط: صحيح. عن ابن عمر رضي الله عنهما.}.
 
وقد كان ابن عمر، وأبو هريرة رضي الله عنهما يخرجان إلى السوق في أيام العشر، فيكبران ويكبر الناس بتكبيرهما { انظر: تفسير ابن كثير 5/415، وقد أخرجه البخاري معلقاً}.
قال ميمون بن مهران: أدركت الناس وإنهم ليكبرون في العشر حتى كنت أشبهه بالأمواج من كثرتها، ويقول: إن الناس قد نقصوا في تركهم التكبير.
 
ومن العبادات البدنية:
الصلاة، فقد كان سعيد بن جبير رحمه الله إذا دخل العشر اجتهد اجتهاداً حتى ما يكاد يقدر عليه، و روي عنه أنه قال:« لا تطفئوا سرجكم ليالي العشر» تعجبه العبادة {لطائف المعارف ص289}.
 
وكذلك صيام تسع ذي الحجة فمستحب لفعل النبي صلى الله عليه وسلم، فقد رُوي عَنْ بَعْضِ أَزْوَاجِه صلى الله عليه وسلم أنها قَالَتْ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَصُومُ تِسْعَ ذِى الْحِجَّةِ، وَيَوْمَ عَاشُورَاءَ، وَثَلاَثَةَ أَيَّامٍ مِنْ كُلِّ شَهْرٍ، أَوَّلَ اثْنَيْنِ مِنَ الشَّهْرِ وَالْخَمِيسَ» { أخرجه أبو داود في الصوم برقم 2437؛ والنسائي في الصيام برق 2272، وهو صحيح}، وفي شعب الإيمان للبيهقي أن رسول الله r قال: « ما من أيام أفضل عند الله ولا العمل فيهن أحب إلى الله من هذه الأيام، فأكثروا فيهن من التهليل والتكبير وذكر الله، وإن صيام يوم فيها يعدل صيام السنة، والعمل فيهن مضاعف بسبعمائة ضعف» { أخرجه البيهقي في شعب الإيمان 3/356، قال أحمد الغماري في كتابه المداوي 5/514: إسناده لا بأس به}.
 
وأفضل هذه التسع يوم عرفة، دعاء وصلاة وصياماً، فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «صِيَامُ يَوْمِ عَرَفَةَ أَحْتَسِبُ عَلَى اللَّهِ أَنْ يُكَفِّرَ السَّنَةَ الَّتِي قَبْلَهُ وَالسَّنَةَ الَّتِي بَعْدَهُ» {أخرجه مسلم في الصيام برقم 1162؛ وأبو داود برقم 2425}.
 
وأما الدعاء فقد قال النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم:« خَيْرُ الدُّعَاءِ دُعَاءُ يَوْمِ عَرَفَةَ، وَخَيْرُ مَا قُلْتُ أَنَا وَالنَّبِيُّونَ مِنْ قَبْلِي: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ» { أخرجه الترمذي في الدعوات برقم 3585؛ وقال: حسن غريب؛ وذكره المنذري في الترغيب والترهيب بصيغة الجزم 2/271، وأما الألباني فحكم عليها في المشكاة بالصحة، وأما في الترغيب والترهيب فحكم عليها بالحسن}.
 
فاللهم وفقنا فيها لعمل صالح تحبه وترضاه، واجعلها مباركة علينا بطاعتك والتقرب إليك، وهبنا فيها فرجا ونصرا، واجعل لنا مما نحن فيه من هم وغم وشدة وبأس فرجاً ومخرجاً، إنك سميع قريب مجيب.
27/11/1433هـ
13/10/2012م


 

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين