عشت مع آية: (لا أقسم بهذا البلد)

قرأ الإمام في صلاة العشاء: { لَا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ * وَأَنْتَ حِلٌّ بِهَذَا الْبَلَدِ } فأخذت الآيات بمجامع قلبي، رغم أنني حفظتها طفلا، وقرأتها وسمعتها ربما آلاف المرات..

فلأول مرة ألتفت إلى معنى لطيف سرى في نفسي عند سماع هاتين الآيتين تحديدا.

وهو تعامل الناس العجيب مع المصلحين منذ قديم الزمان. فمكة بلد الله الحرام لا يحل فيها قتل امرئ دخلها، بل قتل حيوان يمشي على أرضها. الكل فيها معصوم الدم، محفوظ النفس إلا محمد صلى الله عليه وسلم. مع أن محمدا صلى الله عليه وسلم أحق الناس بالأمان على نفسه..

إذ هو أحن الناس على قومه وأرفقهم... وآمن ما يكون على دمائهم وأموالهم، وأحرص ما يكون على نجاتهم من غضب ربهم.

لكن عميان البصيرة لا يرونه كذلك... لذلك حاولوا قتله مرارا وتكرارا..

 

{ وَأَنْتَ حِلٌّ بِهَذَا الْبَلَدِ } ما دمت ترفع شعار الطهر والإصلاح فأنت مستباح.. نفسك مستباحة، ومالك مستباح، وعرضك مستباح حتى وإن عشت في البلد الحرام؛ لذلك جاء عقبة بن أبي معيط إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو يُصلِّي، فوضع رداءه في عنقه فخنقه خنقًا شديدًا، فجاء أبو بكر ودفعه عنه، وقال: أتقتلون رجلًا أن يقول ربِّي الله وقد جاءكم بالبينات من ربكم؟!»

 

وجاءه أبو جهل غير مرة يريد قتله وإيذاءه لولا حفظ الله له. وما أكثر ما كان يأتي الصريخ لأبي بكر أن أدرك صاحبك.

ثم كان ما كان من تدبير لقتله يوم الهجرة لولا ما قدره الله من إغشاء الأبصار ونجاة الرسول وهجرته صلى الله عليه وسلم.

 

{ وَأَنْتَ حِلٌّ بِهَذَا الْبَلَدِ } كأنها والله تسرية وتسلية لكل مصلح.. فالبلد الحرام حلَّ فيها دم نبيكم، فلا تتعجبوا من جفوة الظالمين في بلادكم ومكرهم بكم، فبلادكم ليست أشرف من مكة، وشخوصكم ليس أكرم على الله من نبيكم، فلم تتعجبون من استحلال دمائكم، واستباحة أموالكم!

 

{ وَأَنْتَ حِلٌّ بِهَذَا الْبَلَدِ } لا عجب إذا أن يموت سعيد بن جبير وهو أعلم أهل الأرض حينئذ مقتولا ولم يكمل الستين من عمره. ولا عجب أن يموت ابن تيمية في سجن القلعة وقد جمع علوم الشريعة بين جنبيه حتى قالوا: "كل حديث لم يحفظه ابن تيمية فليس بصحيح!!"

ولا عجب أن تلفظ مصر القرضاوي، وتسجن حازما والبلتاجي والبرّ وعارف وأيمن عبد الرحيم وسلطان وآلاف الأطهار أمثالهم! فكلهم حل بذاك البلد كما كان نبيهم حلاًّ بهذا البلد؛ لأن المصلحين دائما محاربون، ومن سلك سبيلهم فليعلم ذلك وإلا ابتعد.

 

ثم إن في الآية شرفا وأي شرف، فحلال الدم ومستباح النفس الأول صلى الله عليه وسلم يقدم أشباهه يوم القيامة وخلفه كل من كان مثله..

 

"يوم ندعو كل أناس بإمامهم" وفي الآية طبطبة على قلب كل مصلح مبتلى مفادها: الحمد لله أنك كمحمد، والحمد لله أنك لست عقبة وأبا جهل، وهذه والله لا يكفيها سجود العمر شكرا.

 

{ وَأَنْتَ حِلٌّ بِهَذَا الْبَلَدِ } حقا إن القرآن موصول الأزمان وإن اختلفت الأسماء والأماكن..

فالبلاد كثيرة، والمستحل دماؤهم وأموالهم أكثر.. لكن من يفهم ذلك؟!


جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين