عزة الإسلام و بين الأصل و التأصيل

 
 
 
الأستاذة سميرة بيطام
 
 
لقد تناول المستشرقون من علماء أوربا الإسلام و المسلمين بالدراسة من نواح مختلفة ، وكان منهم من ملكه الهوى فأضله على جهل أو علم ، ومنهم من آثر أن يكون منصفا يصدع بالحق متى هدي إليه بعد البحث و التنقيب.
 
و مهما يكن فان الدراسة التي تتميز بالجد و العمق للإسلام لم تبدأ إلا منذ القرن التاسع عشر، حين ذاعت ثقافة الشرق و الإسلام في أوربا ، و حين اخذ الغرب يبسط سلطانه باسم الاستعمار على الشرق و البلاد الإسلامية، عندئذ نهض كثير من رجال أوربا العلماء لبحث هذا الإسلام و تراثه و رجاله ، محاولين معرفة سر حيويته و بقائه.
 
و قد كان هؤلاء الباحثون – و لا يزالون- طوائف شتى ، ينتمون إلى أمم عديدة ، و تدفعهم عوامل مختلفة إلى احتمال البحث و عنائه ، و إن ألف بينهم جميعا العمل على تجلية الإسلام من نواحيه المختلفة ، كل من الناحية التي تخصص فيها و على ما يرى من الأوضاع.
 
و قد كان اهتمامهم بكتب السير و التاريخ ، ثم اخذوا في دراسة القرآن و علومه ، و الفقه وأصوله ، و علم أصول الدين و الفرق الإسلامية ، و ما إلى ذلك كله من مظاهر الفكر الإسلامي.
 
إن الإسلام بمعناه العام هو الانقياد ، أي انقياد المؤمنين لله، فهذه الكلمة تركز أكثر من غيرها الوضع الذي وضع فيه محمد صلى الله عليه و سلم المؤمنين بالنسبة إلى موضوع عبادتهم و هو "الله" و كذا إحساس الشعور بالتبعية الذي يحس به الإنسان أمام القدرة غير المحدودة ، و هذا هو المبدأ السائد في الدين.
 
والدعوة إلى الله ..إلى ما يجسد هذه التبعية و كذلك الشعور بأحقية استمرارية الرسالة المحمدية على مر العصور هي دعوة جليلة عريقة.
 
فالدين الإسلامي هو منهج الهي للحياة البشرية ، يتم تحققه في حياة البشر بجهد البشر أنفسهم في حدود طاقتهم البشرية و في حدود الواقع المادي للحياة الإنسانية في كل بيئة ، ويبدأ العمل من النقطة التي يكون البشر عندها حينما تسلم مقاليدهم ، و يسير بهم إلى نهاية الطريق في حدود طاقتهم البشرية و بقدر ما يبذلونه من هذه الطاقة.
 
إن الله قادر على تبديل فطرة الإنسان ، عن طريق هذا الدين أو عن غير طريقه ، و لكنه – سبحانه- شاء أن يخلق الإنسان بهذه الفطرة لحكمة يعلمها ، و شاء أن يجعل الهدى ثمرة للجهد و الرغبة في الهدى " والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا"..و شاء أن تعمل فطرة الإنسان دائما و لا تمحى و لا تعطل: " ونفس و ما سواها ، فألهمها فجورها و تقواها، قد افلح من زكاها ، و قد خاب من دساها". [الشمس،الآيات 7-10].
 
و شاء أن يتم تحقيق منهجه الإلهي للحياة البشرية عن طريق الجهد البشري ، و في حدود الطاقة البشرية [إِنَّ اللهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ] {الرعد:11} [وَلَوْلَا دَفْعُ اللهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الأَرْضُ وَلَكِنَّ اللهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى العَالَمِينَ] {البقرة:251} كما شاء أن يبلغ من كل هذا كله بقدر ما يبذل من الجهد و ما ينفق من الطاقة ، و ما يصبر على الابتلاء في تحقيق هذا المنهج الإلهي القويم.
 
و في دفع الفساد عن نفسه و عن الحياة من حوله [أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آَمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الكَاذِبِينَ] {العنكبوت:3}
 
إذن ،الأهمية تبرز بنفسها و لنفسها و هي أن لكل أحد من الخلق واجب في أن يدرك الحقائق و يعرفها ، و الرساليون هم أكثر الناس إدراكا لهذه الأهمية في أن الدعوة تعمل في واقع الحياة البشرية و تفسر أحداث التاريخ البشري على ضوئها فيفقه الدعاة خط سيرها التاريخي من ناحية ، و يعرفون كيف يواجهون هذا الخط و يوجهونه من ناحية أخرى ، و يعيشون مع حكمة الله و قدره ، فينطبع بهم الانطباع الصحيح من ناحية ثالثة.
هذا هو المنهج الإلهي الذي يمثله الإسلام في صورته النهائية ، كما جاء بها محمد صلى الله عليه وسلم ، لا يتحقق بكلمة "كن" الإلهية ، مباشرة لحظة تنزله و لا يتحقق بمجرد إبلاغه للناس و بيانه ، و لا يتحقق بالقهر الإلهي على نحو ما يمضي ناموسه في دورة الفلك ، و سير الكواكب ، إنما يتحقق بأن تحمله جماعة من البشر تؤمن إيمانا كاملا و تستقيم عليه ،طبعا بمقدور تحملها ،و تجتهد لتحقيقه في قلوب الآخرين و في حياتهم كذلك ، و تجاهد لهذه الغاية بكل ما تملك، و لا يتم ذلك إلا بمجاهدة القلب في كراهيته للباطل و العزم على نقل الحق للإسلام ، و مجاهدة المنكر باللسان بالتبليغ و البيان ، و بذلك رفض الباطل الزائف ، و تقرير الحق الذي جاء به الإسلام ، و المجاهدة باليد بالدفع و الإزالة من طريق الهدى حين يعترضونه بالقوة الباغية و البطش الغشوم.
 
 
و سيلقى مبلِّغ الدعوة في تلك المجاهدة ابتلاء و أذى و تنكر من القريب و البعيد ، لكن لا بد من الصبر على الهزيمة و الصبر على النصر أيضا ، يعلوهما الصبر على النصر لأنه أشق من الصبر على الهزيمة ، و على الداعي أن يثبت و لا يرتاب ، و يستقيم و لا يتلفت ، و يمضي في طريق الإيمان راشدا صاعدا صعود النجوم الأبطال في التألق.
 
إن من أهداف الدعوة هو توسيع حقيقة الإيمان و التي لا يتم تمامها في قلب حتى يتعرض لمجاهدة الناس في أمر هذا الإيمان لأنه يجاهد نفسه كذلك في أثناء مجاهدته للناس ، و تتفتح له في الإيمان آفاق لم تكن لتنفتح له أبدا و هو قاعد آمن ساكن، و تتبين له حقائق في الناس و في الحياة لم تكن لتتبين له أبدا بغير هذه الوسيلة ، و يبلغ هو نفسه و بمشاعره و تصوراته و بعاداته و طباعه و انفعالاته و استجاباته ، ما لم يكن ليبلغه أبدا بدون هذه التجربة الشاقة العسيرة و هذا ما يشير إليه سبحانه و تعالى في قوله [وَلَوْلَا دَفْعُ اللهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الأَرْضُ وَلَكِنَّ اللهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى العَالَمِينَ] {البقرة:251} و أول ما يفسد هو فساد النفوس بالركود الذي تأسن معه الروح و تسترخي معه الهمة ،و يتلفها الرخاء و الطراوة ، ثم تأسن الحياة كلها بالركود ، أو بالحركة في مجال الشهوات وحدها ، كما يقع للأمم حين تبتلى بالرخاء ، و لا ننسى في ذلك أن أساس رقي الأمم و تحضرها هي النهضة بأبعادها الدعوية و التي ترتكز أساسا على العمل الجماعي بلغة التوحيد.
فيا مسلمين.. تباهوا بعزة الإسلام تكنه صدوركم و تمدحه أقلامكم ، فالضمانة الحقيقية التي تجعل الجماعة المسلمة تحقق هذه العزة هي تلك الوحدة و ذاك الود..تلك الرحمة فيما بيننا مصداقا لقوله تعالى [وَلَوْلَا دَفْعُ اللهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللهِ كَثِيرًا وَلَيَنْصُرَنَّ اللهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ] {الحج:40} أكيد.. بداخلي و بداخلكم إحساس بعزة الإسلام و عزة القرآن.. فلنرفع راية العزة بلا اله إلا الله ..محمد رسول الله...و لنتفرج على العدو حينما يفر من الزحف لما يرى فينا تلاحما و قوة و إصرارا على التأصيل ، فبين الأصل و التأصيل أنفة و كرامة و شهامة و لما لا ديمومة جوهرة أمة في لمعانها و ندرتها....اللهم اعز الإسلام و المسلمين..قولوا معي آمين..                                                   

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين