عرس في بيت النبوة

 

جعلَ اللهُ الزواجَ شرعةً لبقاء النوع، وتكثير النسل، وضبط الشهوات، وتعمير الحياة والتعاون على متاعبها.

ونحن حين نتواصى بالتماس العبرة والقدوة من ديننا وتاريخنا، وأعمال رجالنا المسلمين العظماء أمامَ كل حادث، كي يكون في هذا الالتماس جمع بين الماضي والحاضر، ووصل للخلف بالسلف، وتقريب بين دنيانا ودنياهم، أقول: إننا حين نتواصى بذلك نجد أنَّ عرساً أقيم في بيت النبوة الكريم، ما أجدره أن يكون تذكرةً وعبرةً، ذلك هو زواج على سيد شباب الإسلام بفاطمة الزهراء سيدة نساء العالمين، وصغرى بنات الرسول الأمين.

نشأ عليٌّ كرَّمَ اللهُ وجهَه في بيت الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم محاطاً بالرعاية والعناية، إذ كان النبيُّ صلى الله عليه وسلم عَطوفاً عليه رحيماً به، حتى لقد يسَّر له سبيل العلم، فعرف القراءة والكتابة، وكانت خديجة زوج النبي بارَّة به، تكرمه وتغتبط لمرآه، وقد كان بجوار علي فاطمة، اجتمعا في بيت النبوة وهما صبيان صغيران، يَلعبان معاً ويختصمان معاً، ثم وجدا في تقارب السن، وفي وحدة الحياة، وفي وحدة المكان، وفي عطف الأبوة.

وفي السنة الثانية للهجرة كانت سنُّ عليّ إحدى وعشرين سنةً وخمسة أشهر، وكان عمر فاطمة أقلَّ من ذلك بعامين أو نحوهما، فحدث أن أقبل كل من أبي بكر وعمر رضي الله عنهما يخطبان فاطمة من أبيها، كلٌّ لنفسه، فسكت النبي صلى الله عليه وسلم ولم يردَّ عليهما بشيء، فانطلقا إلى علي وأخبراه بما حدث، ونصحاه بخطبتها إذ هي أصلح له من غيرها، لقرابته منها، وخلوه من النساء.

قال: فنبَّهاني إلى أمر كنتُ عنه غافلاً، فقمتُ أجرُّ ردائي (فرحاً بما تنبَّهت له من خطبة خير النساء) حتى أتيت النبيَّ صلى الله عليه وسلم فقلت: يا رسول الله أتزوجني فاطمة؟ قال: وهل عندكَ شيء يصلح مهراً لها؟ فقال: لا، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: وأينَ درعُك الثقيلة التي أعطيتها لك من مَغَانم بدر؟ فقال: عندي يا رسول الله فرسي ودرعي، فأجابه النبيُّ صلى الله عليه وسلم: أما فرسك فلابدَّ لك منها في الحروب، وأما درعُك الثقيلة فبعها لتجعل من ثمنها مهراً لزوجتك، ثم قال له ـ كما في رواية النسائي ـ مرحباً وأهلاً!

فخرج علي رضي الله عنه إلى رهط من الأنصار كانوا ينتظرونه، فقالوا: ما وراءك؟ قال: ما أدري غير أنه قال لي: مرحباً وأهلاً، قالوا: يكفيك من رسول الله صلى الله عليه وسلم أحدهما، فكيف وقد أعطاك الأهل وأعطاك الرحب، لابد أنه سيزوجها لك!.

وذهب علي يهيئ الصَّدَاقَ، فباعَ دِرْعَه إلى عثمانَ بنِ عفان رضي الله عنه، بأربعمائة وثمانين درهماً، وأعدَّها مهراً لفاطمة التي لا تقدَّر بمال، ثم ردَّ عثمان رضي الله عنه الدرعَ إلى علي هدية منه بعد ذلك، فلما علم النبي بما فعل عثمان دعا له بدعوات طيبات.

واقتصرَ النبيُّ على قوله لعلي: مرحباً وأهلاً، ولم يعطه كلمة فاصلة في الموضوع؛ لأنه أراد أن يعرف أمرَ ربه، قال أنس: بينما أنا عند النبي صلى الله عليه وسلم إذ غشيه الوحي، فلما سُرِّيَ عنه قال: إنَّ ربي أمرني أن أزوج فاطمة من علي، فانطلق فادع لي أبا بكر وعمر وعثمان وعبد الرحمن بن عوف وجماعة من المهاجرين والأنصار، وكان علي غائباً، فلما اجتمعوا وأخذوا مجالسهم، أنبأهم رسول الله بالنبأ وخطب فيهم عن ذلك خطبة بليغة وجيزة، قال فيها بعد حمد الله: (إنَّ الله تباركَ اسمُه وتعالت عظمتُه، جعل المصاهرةَ سبباً لاحقاً ـ لازماً ـ وأمراً مفترضاً أوشج به الأرحام، وألزم به الأنام، فقال عزَّ من قائل: [وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ المَاءِ بَشَرًا فَجَعَلَهُ نَسَبًا وَصِهْرًا وَكَانَ رَبُّكَ قَدِيرًا] {الفرقان:54}. فأمر الله يجري إلى قضائه، وقضاؤه يجري إلى قدره، ولكل قضاء قدر، ولكل قدر أجل، ولكل أجل كتاب، يمحو الله ما يشاء ويثبت وعنده أم الكتاب. ثم إن الله تعالى أمرني أن أزوِّجَ فاطمة من علي بن أبي طالب، فاشهدوا أني قد زوجتُه على أربعمائة مثقالٍ من فضَّة، إن رضي بذلك علي).

وبعد أن انتهى من خطبته دعا النبي للعروسين فقال: (جمع الله شملهما، وأطابَ نَسْلَهما، وجعلَ نَسْلهما مَفَاتيح الرحمة، ومَعَادن الحكمة وأمن الأمَّة).

ثم أمر صلى الله عليه وسلم بطبق من بلح فوضع بينهم، وقال للقوم: انتهبوا منه، فجعلوا يأخذون ويأكلون، ثم دخل علي بعد ذلك عليهم، فتبسَّم رسولُ الله صلى الله عليه وسلم في وَجْهه تبشيراً له بتحقيق أمله، وقال له: إنَّ الله عزَّ وجلَّ أمرني أن أزوجك فاطمة على أربعمائة مثقال فضة. أرضيت بذلك؟ فقال: قد رضيت بذلك يا رسول الله. فقال عليه الصلاة والسلام: جمع الله شَمْلكما، وبارك لكما، وبارك عَليكما، وأعزَّ جدَّكما، وأخرج منكما الكثير الطيِّب).

ثم إنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر بإعداد الجهاز المتواضع لابنته، فأعطى بلالاً ثلث المهر ليشتري به طيباً، ثم أحضروا لها سريراً مشروطاً بشرائط من خوص مفتول، جعلوا فراشه جلد كبش وغطاءه قطيفة، وأربع وسائد حشيت اثنتان منهما بصوف واثنتان بليف، وبساطاً له خمل رقيق، وما لابد للبيت منه، وهذا كل ما كان في جهاز سيدة نساء العالمين وبطل الإسلام المظفَّر.

ومع كل هذا التواضع في النفقة فقد قالت أسماء: لقد أولم علي على فاطمة فما كانت وليمة في ذلك الزمان أفضل من وليمته.

أعدت الوليمة، وأكل منها الناس، ثم زفَّت فاطمةُ فانتقلت إلى بيت علي مع أم أيمن الحبشية مولاة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان النبي قد أوصى علياً أن ينتظراه حتى يحضر بعد العشاء، فجلست فاطمة في جانب من البيت، وجلس علي في الجانب الآخر، ومعهما أم أيمن، فلما صلى النبي صلى الله عليه وسلم العشاء الآخر جاءهم، فلما دخل قال لأم أيمن: أهنا أخي؟ فأجابته مداعبة: أخوك وقد زوجته ابنتك! قال: نعم هو مني بمنزل هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي. ـ يعني أنه أخي في الدين والمحبة لا في النسب والرضاع ـ ثم قال لفاطمة: ائتني بماء، فقامت امتثالاً لأمره تتعثر في مرطها من الحياء، فأتته بقدح فيه ماء، فأخذ منه بعضه بفمه ثم سكبه في القدح وقال لها: تقدمي، فتقدمت، فرش من الماء بين ثدييها وعلى رأسها، وقال: اللهم إني أعيذها بك وذريتها من الشيطان الرجيم، ثم قال لها: أدبري فأدبرت، فصبَّ من الماء بين كتفيها، ثم فعل ذلك مع علي، وعوَّذه بما سبق، وقيل: عوَّذه بـ: (قل هو الله أحد، والمعوذتين)، وقال: اللهم بارك فيهما، وبارك عليهما، وبارك لهما في نسلهما، ثم قال لعلي: ادخل على أهلك باسم الله والبركة.

ولكن علياً كرم الله وجهه رجلٌ فقير، وقد شاركته فاطمة رضي الله عنها في حياته القاسية، وتحملت معه أعباء العيش المرهقة. فهل تأنف لأنها سيدة النساء وبنت الرسول صلى الله عليه وسلم من هذه الحياة المتواضعة؟ أتتكبر عن العمل والسعي؟ أتتعالى عن تنظيف البيت وتهيئة الطعام وطحن الشعير وما إلى ذلك من مهن؟ لا، فلس إلى ذلك سبيل، فهي بنت محمد صلى الله عليه وسلم الذي أدَّبَه ربُّه فأحسنَ تأديبه وبعثه ليكون متمماً لمكارم الأخلاق، وجعله هادياً مُتواضعاً، ولم يجعله جَبَّاراً مُتكبِّراً. 

عن ابن أعبد قال: قال علي رضي الله عنه: ألا أخبرك عني وعن فاطمة؟ كانت بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأكرم أهله عليه، وكانت زوجتي، فجرت بالرحى حتى أثَّرت الرحى بيدها، واستقت بالقربة حتى أثَّرت القربة بنحرها، وقمَّت البيت حتى اغبرَّت ثيابها، وأوقدت تحت القدر حتى دنست ثيابها، وأصابها من ذلك ضر!.

بل ها هو ذا العمل يرهق علياً فيقول لفاطمة: لقد عملت حتى اشتكيت صدري، وقد جاء الله أباك بسبي، فاذهبي إليه فاطلبي منه خادماً يخدمنا، فقال: وأنا والله لقد طحنت حتى تورمت يداي! فأتت النبيَّ صلى الله عليه وسلم فقال لها: ما جاء بك، وما حاجتك يا بُنيَّتي؟ قالت: جئت لأسلم عليك، واستحيت أن تسأله ورجعت، فقال لها علي: ما فعلت؟ قالت: استحييت أن أسأله، فأتياه جميعاً، فقال علي: يا رسول الله لقد سنوت حتى اشتكيت صدري، وقالت فاطمة: لقد طحنت حتى مجلت يداي، وقد جاءك الله عزَّ وجل بسبي وسعة فأعطنا خادماً، فقال والله لا أعطيكما وأدع أهل الصفة تطوي بطونهم، بل هم أولى منكما فرجعا.

أما مُعاملة النبي صلى الله عليه وسلم لابنته رضي الله عنها في هذا الموقف، نراه في حين آخر يرعى لها كرامتها، ويحرص على سلامة بيتها، ويمانع فيما يسبب لها الأسى والألم، فقد حدث بعد زوجها بحين من الزمان أن فكَّر علي في زواج جويرية بنت أبي جهل، فسمعت بذلك فاطمة، فأتت أباها وقالت: يزعم قومك أنك لا تغضب لبناتك، وهذا علي خاطب بنت أبي جهل، فقام عليه السلام فوق المنبر وتشهَّد ثم قال: أما بعدُ فإنَّ فاطمة بضعة مني، فمن أغضبها فقد أغضبني، وقد بلغني أن ابن أبي طالب يريد زواج بنت أبي جهل، وإني لا آذن ثم لا آذن، والله لا تجتمع بنت رسول الله وبنت عدو الله عند رجل واحد أبداً، وكانت هذه الغضبة المحمدية كافية لصدِّ علي عن هذه الفكرة، وحفظت لفاطمة بيتها وكرامتها، وعرفتها أن أباها لا يهمل حقوقها.

هذه قصة زواج علي بفاطمة، ومنها ندرك أن هناك أخلاقاً إسلامية كانت مرعيةً من النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضي الله عنهم في مثل هذه المواقف، ومن تلك الأخلاق: الأدب في الخطبة، والرد الجميل من المسؤول، والاعتدال في المهور، والاقتصاد في الجهاز والولائم، وإرادة وجه الله في كل عمل، وطلب التوفيق والبركة من الله في كل شيء، والعشرة الطيبة بين الزوج وزوجته، والحرص على سلامة البيت وكيانه، وغير ذلك من الأخلاق.

فما أجدرنا أن نأخذ أنفسنا بهذه الخصال النبيلة التي كانت لأولئك الأسلاف العظام، حتى نعمر الأرض كما عمروها، وحتى نسعد كما سعدوا بحياة العزة والسؤدد، وعيش المجد والهناء!.

وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم.

المصدر: مجلة الأزهر (مجلد 15 شعبان 1363هـ الجزء 8).

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين