سرقت امرأة من بني مخزوم في عهد النبي -صلى الله عليه وسلم- وجيء بها إليه لتُعَاقَب، فأهمَّ ذلك قريشاً وقالوا: من يشفع لنا عند رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في إسقاط الحد عنها؟ ثم تذكروا أن أسامة بن زيد حبيبٌ إلى قلب الرسول الكريم عليه الصلاة والسلام، فكلموه في أن يشفع لها عنده، فكلمه بذلك، فغضب الرسول الكريم -صلى الله عليه وسلم- غضباً شديداً، وقال لأسامة: أتشفع في حدٍّ من حدود الله؟! ثم قام في الناس خطيباً فقال: "إنما أهلك الذين من قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه، وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد، وأيم الله لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها"، (متفق عليه)، ثم قُطِعت يد المرأة المخزومية.
إنه خبر مشهور هذا الذي قدمتُه، ولعلنا جميعاً نعرف حكايته منذ زمن غير قصير، لكنه يستحق وقفة فيها الأناة لاستجلاء بعض أبعاده ومراميه، والدلالات والمعاني التي اعتدنا أن نتوقف لديها في حديثنا هذا.
إنه ما يغيب عنا بادئ ذي بدء إحساس قريش بخطورة ما فعلت المخزومية، فلقد سرقت، وللسرقة حدٌّ واضح، ولا بد إذن أن ينالها العقاب، والرسول الكريم -صلى الله عليه وسلم- سيطبق عليه الحد الشرعي أياً كانت. هذا المعنى الذي استشعرته قريش يدل على إدراكٍ منها بطبيعة المجتمع الجديد الذي أقامه الرسول الكريم -صلى الله عليه وسلم-، وأن العدالة فيه آخذة مجراها، مطبَّقة على جميع أفراده سواءً بسواء، ولذلك تهيّبت الأمر، وتحركت فيها بعض رواسب الجاهلية، فأخذت تسعى لتنجو المرأة المذنبة من العقاب.
ونحن نعرف أن بني مخزوم كانوا في الجاهلية ريحانة قريش، وكانوا أهل الحرب فيها، وحسبك أن تعلم أن خالد بن الوليد ينتمي إليها، لذلك كان لمخزوم شرفٌ باذخ وسمعةٌ كبيرة، وهذا هو الذي دفع قريشاً إلى ما حاولت القيام به بشأن المرأة المخزومية السارقة.
وإنه من الإنصاف أن نقرر بأن قريشاً وإن حاولت ما حاولت مدفوعةً ببعض بقايا النعرة الجاهلية فيها، إلا أنها كانت تعرف الجريمة وعقابها، وكانت تعرف حرص الرسول الكريم -صلى الله عليه وسلم- على تطبيق الحد، لكنَّ آمالها ظلت تخادعها، حتى جاءت إلى أسامة بن زيد ليكلم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في الأمر.
وتكلم أسامة في الأمر، وكان ذلك غلطاً منه، لكنه غلطٌ كان لنا نافعاً مفيداً لأنه أدّى إلى غضبة الرسول الكريم -صلى الله عليه وسلم-، تلك التي جعلته يقول لأسامة ما يقول، ثم يقف خطيباً ليقرر قاعدة ضخمة من قواعد العدالة والمساواة في الإسلام.
لقد بيّن لأسامة خطورة فعله إذ يحاول إيقاف حدٍّ من حدود الله عن أن يُنفَّذ، وبدا عليه الغضب الشديد، وقال لأسامة: أتشفع في حدٍّ من حدود الله!؟ ثم وقف خطيباً ليقول كلمته المشرقة، التي تنضح بالصدق والإخلاص، ومعاني العدل والتساوي، والحرص على تطبيق حدود الله على الجميع.
بيَّن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- للمسلمين خطورة ما حاولت قريش أن تفعله لأنه ينتهك أمر الله تعالى، ومثل هذا الانتهاك كفيلٌ بإحداث الدمار والهلاك، وهذا قد حدث من قبل حين كانت الحدود تطبق على بعض الناس دون بعضهم الآخر، ثم ختم كلمته بهذه العبارة العظيمة التي تدل على شدة اتباعه -صلى الله عليه وسلم- لأمر الله تعالى، والتزامه بحدوده، وتحرّيه الحق والعمل على إنفاذه فقال: "وأيم الله لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها".
ولقد كان كافياً أن يضرب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- المثل بأي إنسان ليصل إلى ما يريد إقراره في ضمائر المسلمين وأخلادهم، لكنه اختار فاطمة الزهراء رضي الله عنها ليضرب بها المثل. وفي هذا الاختيار دقة وروعة، وجمال وعظمة، ودلالة على عزم شديد، وهمة قوية بالغة، ذلك أن فاطمة الزهراء رضي الله عنها هي بنته -صلى الله عليه وسلم-، وهي ابنته الوحيدة التي عاش له منها أحفاد، وهي صغرى بناته الطاهرات، ولكن على الرغم من ذلك كلّه، وعلى الرغم مما تضفيه هذه الصلة بين الوالد والبنت من حنانٍ ورحمة، ورقةٍ ومحبة، وودٍّ ووفاء على العلاقة بينهما، اختار رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن يضرب بها المثل على الرغم من كل ذلك، لتكون فيه النقلة أبعد، والارتفاع أكبر، والبون شاسعاً رحيباً بين ما أراده القرشيون أن يحدث، وبين ما قام بإنفاذه الرسول الكريم -صلى الله عليه وسلم.
إن هذه الحادثة الفريدة بملابساتها المختلفة، وتفصيلاتها المثيرة، تضع أيدينا على أحد أسرار عظمة هذا الإسلام، وانتصاره وتمكنه من القلوب.
إن له أنظمة وشرائع لا يتيح لأحد أن يتجاوزها قط، وهو لا يعرف المحاباة والمجاملة في الحق قط، لأن النزعة الإنسانية التي وضعها الله تعالى فيه وأرساها في أعماقه؛ تقتضي العدالة، وتستلزم المساواة، وتضع الجميع على قدم واحدة أمام شريعة الله تعالى دون تفاضل أو تمايز.
التعليقات
يرجى تسجيل الدخول