عجائب الحج

عجيب هذا الحج العظيم الذي منَّ الله تعالى به على أمة الإسلام، عجيبٌ وطيّب، ورائعٌ ومبارك، ولا غرابة!.. فإنه العبادة الكبيرة التي لا تخطئ أن ترى فيها العبادات الأخرى بشكل أو بآخر، وهو فرصة التوبة والرحمة، والأوبة الكريمة النصوح إلى الله عز وجل في دين الإسلام الخالد المحفوظ الذي أتم الله تعالى به النعمة، وأكمل الدين وارتضاه لخلقه جيلاً بعد جيل، ما كان كونٌ، وما كانت حياة حتى يرثَ اللهُ الأرض ومَنْ عليها. ولا تخطئ أن تلمسَ شتى العبر والعظات، وأكرمَ المعاني والأفكار، وأنبلَ العواطف والمشاعر في رحلة الحج العظيمة، وفي مناسكها المختلفة، إنْ أعملْتَ عقلك وفؤادك في الذي تقوم به، ويقوم به إخوانك الحجيج في شتى البقاع الطاهرة إبّانَ الرحلةِ القدسية المباركة.

تأمّل في يوم عرفة، واستشعر روعتَه وعظمته وجلاله، وليكن حاضراً في وجدانك أن الله تبارك وتعالى يبارك في الحجيج، ويباهي بهم ملائكته الأبرار: يا ملائكتي إن هؤلاء هم عبادي، انظروا إليهم قد جاؤوني شُعْثاً غُبْراً، ألا.. فاشهدوا أني قد غفرت لهم. وتَعْظُمُ الرحمة وتتسع، وتُمْحى الذنوب فتَبِيد، وتهبُّ أنسامُ القبول وبشائرُ العفو، فتكونُ فرحةٌ عظيمة للإيمان وأهله، لا تعدلُها فرحةٌ أخرى، وتكون هزيمة للشيطان وحزبه لا تعدلها هزيمة أخرى، لذلك ما رُئِيَ الشيطانُ يوماً هو أصغر ولا أحقر ولا أدحر ولا أغيظ من يوم عرفة.

وعرفة؛ وما أدراك ما عرفة!؟ رمالُها نُضار وأغلى من النضار، وحصباؤها آثَرُ من الدررِ الغاليات. ففي هذا السهل الفسيح قام في حجةِ الوداع إمامُ الرسلِ والأنبياء محمد -صلى الله عليه وسلم- يعلن في خطبتهِ العظيمة الجامعة الأسسَ الكبرى لرسالة الحق والنور، رسالةِ الإسلام، رسالةِ الإخاء كما يعلنُ عن الفجرِ الضياء.

وعرفة هي الصعيد المبارك الطهور الذي يمثل حقيقةَ الأمةِ المسلمة كما ينبغي أن تكون، ولاءً لله تعالى وحده، وحكماً بقرآنه، وانقياداً لإسلامه، وترفُّعاً عن العصبيات والجاهليات والقوميات، وتعاوناً أخوياً كريماً في غايةِ الصدقِ والوفاء، والمحبة والمودة، والتناصر والتعاون، والتآخي والتضامن، وما إلى ذلك مما يجبُ على الأمةِ المسلمة أن تكونَ عليه.

وانظرْ إلى الحجيج إذ يعودون من رمي الجمار، يا للروعة والجمال والجلال!.. في نفوسهم فرحة عميقة، وعلى وجوههم علائمُ بِشْرٍ عميق، في القلب هناءة بالغة، وفي الوجدان صفاء وسلام، وعلى المُحيّا طلاقةٌ وضيئةٌ بهيجة، تشعر معها أن الواحدَ منهم مستبشرٌ فرِح، إذ رجمَ الشيطانَ وأعلن الحربَ عليه، وانتصر على نوازعه في نفسه.

ألا إن الإنسان المخلوقَ من طينٍ وحمأٍ مسنون؛ تعلو قيمته بالخيرِ وتسمو، وتنحطُّ منزلتُه بالشر وتهون، يفعلُ الخيرَ فتكرمه دنياه وأخراه، ويفعل الشر فيغضب عليه مولاه، ويرجم التاريخُ ذكراه.

ومن فضل الله تعالى أنه ادّخر البيتَ الحرام لأمة الإسلام، واختار حرمَه وربوعه المحيطة به لتكونَ مهدَ خاتم الأنبياء والمرسلين عليه الصلاة والسلام، فهنا وُلِدَ ونشأ، وهنا شبَّ واكتمل، وهنا بلغ الكهولة، وهنا رعى الغنم وتاجر، وتزوج وأنجب، ونزل عليه الوحي في غار حراء، وهنا دارُ الأرقم حيث كان المسلمون يجتمعون فيها سراً حذراً من بطشِ قريش وعيونِ قريش.

وهنا ألقى الخطبة على جبلِ الصفا منذراً قومَه، وهنا حوصر في شِعب أبي طالب ومَنْ معه من المؤمنين. ومن هنا ذهب إلى الطائف يبلغ دعوة النور ويطلب النصرة، وهاهنا في قرن الثعالب أفاق من هول ما استقبله به أهل الطائف، وجاءه جبريل وملك الجبال.. وهنا جلس في ظل شجرة فجاءه عداس النصراني بقطف من عنب، ثم أكب على رجليه يقبلهما وكأنه يعتذر مما صنعه قومه المشركون!.. وهنا غار حراء في قمة جبل النور، وهناك غار ثور حيث قال لصاحبه: لا تحزن إن الله معنا.

وهناك في المدينة المنورة كانت الهجرة المباركة التي كانت أعظمُ نتائجِها أنْ قامت دولة الإسلام، فلقد أسس رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في المدينة المنورة دولة، وأقام ديناً، وثبّت دستوراً وقانوناً، وبنى جيشاً يدافع عن شعلة النور، وينهضُ لنشرِها في كل مكان، جيشاً حمى الدعوة والدولة، ورَدَّ المكيدة، وانتصر للمؤمنين الذين أُخرِجوا من ديارهم بغير حق إلا أن يقولوا ربنا الله.

وإن المرء إذ يتصور ذلك كلَّه بأناة ورويّة، وهو يحجُّ إلى بيت الله عز وجل، وهو يزور مسجد الرسول الكريم -صلى الله عليه وسلم-، لَيَجِدُ نفسَه أمامَ تاريخِ أمته الإسلامية العظيمة ومجدِها الشامخ المشرِّف، ويرى الآثارَ شاخصة، والشواهدَ ناطقة، والبقاعَ باقيةً شاهدة، وشهداء الإسلام في بدر وأحد، والرجيع والأحزاب، وقد رفعوا بدمائهم الزكيّة قواعدَ البناءِ المتين، من مجدِ الإسلام التليد.

ومن ذلك التاريخ يأخذ العبرة، ويستنبط الدلالة، ويجدد العزم والعهد أن يكون للإسلام وبالإسلام، عليه يحيا وعليه يموت، وأن يظلَّ طيلةَ حياتهِ على نفسِ المنهج الذي اختاره الله تبارك وتعالى لنبيِّه الكريم وصحبه الأوفياء: {لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا} (الأحزاب:21).

ومن عبرةِ التاريخ، والعهدِ المتجدد بوعي دروسه يستنبطُ المسلم الدربَ الذي يجب أن يصوغ عليه الحاضرَ والمستقبل، وهو استئنافُ حياةٍ إسلاميةٍ صحيحة، راشدةٍ متكاملةٍ مؤمنة، قوامها الإيمان، وشعارها الأذان، ودستورُها القرآن.

*****

 

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين