عبادته صلى الله عليه وسلم (أَفَلا أَكُونَ عَبْداً شَكُوراً!)

لقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم سَيّدَ العابدينَ الخاشعين، وسَيّدَ الذاكرين الضارعين، وإمامَ المتّقين، وَقدوةَ الأولياء والعارفينَ، وكان أعرفَ الناسِ باللهِ، وأشدّهم منه خشيةً، وأعلمَهم بكَماله وجلاله، وأسمائه وصفاته.. فلا عجبَ أنْ يَقُوْمَ منَ الليل حتّى تتفطَّرَ قدماه، وأن يكونَ ذاكراً له في جميع أحواله، دائمَ الدعاءِ والضراعةِ للهِ، لا يرجُو غيرهَ، ولا يخشى سواه.

ولقد أعطى النبيّ صلى الله عليه وسلم للعبادة مفهوماً واسعاً، لا يقف بها عند العبادات الخاصّة، من صلاة وصيام، وذكر وتلاوة للقرآن، وإنّما كلّ نشاط إنسانيّ مشروع، يبتغى به وجه الله تعالى، ويكون وفق دين الله ومنهجه، فهو عبادة مُقرّبةٌ إلى الله، وربّما كانت أرجح في ميزان الله تعالى من بعض العبادات الخاصّة النافلة، القاصرة على فاعلها.. إنّه لم يرتض المفهوم السلبيّ الرهبانيّ للعبادة، الذي يجعل الإنسان رهينة ضيقه، وسوء فهمه، فيقطعه عن الحياة والمجتمع، ليعيش وحده، ويموت وحده.. وربّما تسلّلت إلى قلبه ونفسه أمراض خبيثة مهلكة، محبطة للعمل مفسدة، كالعجب والغرور، والإدلال بالعمل، واحتقار الآخرين، كهذا المتألِّي على الله أنّه لا يغفر لفلان من الناس، فأحبط الله عمله، وغفر لذلك العاصي، أو كالمغرور بنفسه، الذي يظنّ أنّه يدخل الجنّة بعمله..

وقد جاء في السنّة ما يثبت هذه الحقيقة ويؤكّدها، من ذلك ما جاء في الحديث عَنْ ثَوْبَانَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: (أَفْضَلُ دِينَارٍ يُنْفِقُهُ الرَّجُلُ: دِينَارٌ يُنْفِقُهُ عَلَى عِيَالِهِ، وَدِينَارٌ يُنْفِقُهُ الرَّجُلُ عَلَى دَابَّتِهِ فِي سَبِيلِ اللهِ، وَدِينَارٌ يُنْفِقُهُ عَلَى أَصْحَابِهِ فِي سَبِيلِ اللهِ) قَالَ أَبُو قِلابَةَ: وَبَدَأَ بِالْعِيَالِ، ثُمَّ قَالَ أَبُو قِلابَةَ: وَأَيُّ رَجُلٍ أَعْظَمُ أَجْراً مِنْ رَجُلٍ يُنْفِقُ عَلَى عِيَالٍ صِغَارٍ، يُعِفُّهُمْ، أَوْ يَنْفَعُهُمْ اللهُ بِهِ وَيُغْنِيهِمْ.؟) [رواه مسلم في كتاب الزكاة برقم /1660/].

وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: (دِينَارٌ أَنْفَقْتَهُ فِي سَبِيلِ اللهِ، وَدِينَارٌ أَنْفَقْتَهُ فِي رَقَبَةٍ، وَدِينَارٌ تَصَدَّقْتَ بِهِ عَلَى مِسْكِينٍ، وَدِينَارٌ أَنْفَقْتَهُ عَلَى أَهْلِكَ، أَعْظَمُهَا أَجْراً الَّذِي أَنْفَقْتَهُ عَلَى أَهْلِكَ) [رواه مسلم في كتاب الزكاة برقم /1661/].

وكان صلى الله عليه وسلم يصوم حتّى يقول أهله: لا يفطر، ويفطر حتّى يقول أهله: لا يصوم..

وكان صلى الله عليه وسلم أحبّ العمل إليه ما داوم عليه صاحبه، وكان إذا عمل عملاً أثبته، إلاّ إذا خشي أن يفرض على أمّته..

أمّا عبادة النبيّ صلى الله عليه وسلم الخاصّة فقد كانت والله عجباً، لا ينقضي منه العجب.! إلاّ عندما يعلم المؤمن ويوقن أنّ الله تعالى قد أمدّ نبيّه صلى الله عليه وسلم بطاقة نفسيّة وجسميّة خارقة، لا تُدانيها طاقة أحد من البشر.. وهذا ما قرّره العلماء وأثبتوه، ودلّلوا عليه من وقائع السيرة الشريفة، وتشهد به بما لا يدع مجالاً للريب أخبار عبادته صلى الله عليه وسلم من صلاة وقيام لليل وصيام، مع ما يقوم به من مسئوليّات جسيمة خلال النهار، وهو ما سيتّضح لنا من استعراض النصوص التالية:

عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا: أَنَّ نَبِيَّ اللهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَقُومُ مِنْ اللَّيْلِ حَتَّى تَتَفَطَّرَ قَدَمَاهُ، فَقَالَتْ عَائِشَةُ: لِمَ تَصْنَعُ هَذَا يَا رَسُولَ اللهِ، وَقَدْ غَفَرَ اللهُ لَكَ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ، وَمَا تَأَخَّرَ؟ قَالَ: (أَفَلا أُحِبُّ أَنْ أَكُونَ عَبْداً شَكُوراً.؟!)، فَلَمَّا كَثُرَ لَحْمُهُ صَلَّى جَالِساً، فَإِذَا أَرَادَ أَنْ يَرْكَعَ قَامَ فَقَرَأَ، ثُمَّ رَكَعَ) [رواه البخاري في كتاب تفسير القرآن برقم /4460/].

وعَنْ عَلْقَمَةَ قَالَ: سَأَلْتُ عَائِشَةَ: كَيْفَ كَانَ عَمَلُ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم؟ كَانَ يَخُصُّ شَيْئاً مِنْ الأَيَّامِ؟ قَالَتْ: لا، وَأَيُّكُمْ يُطِيقُ مَا كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَعْمَلُ.؟!) [رواه أحمد في المسند برقم /25170/].

وانظر إلى هذا التعبير الجميل الموحي منها رضي الله عنها، وكأنّها خشيت أن تُحدّثَ بعضَ الناس نفوسُهم أنّهم يقدرون على مثلِ عمله صلى الله عليه وسلم، فبادرتْ إلى تبديد هذَا الوَهَم الغَرور بقوْلها: " وَأَيُّكُمْ يُطِيقُ مَا كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَعْمَلُ.؟! "، إنّه صلى الله عليه وسلم كَانَ يقوم بهذه العبادة الجاهدة الدائبة، وفي الوقت نفسه يقوم بشئون أهله؛ فيداعب الأطفال، ويؤنس النساء، ويسيّر شئون دولة الإسلام كبيرها وصغيرها، ويجمع بيْنَ مصالح الدنيا والآخرة كلّهَا، ويبلّغ رسالة ربّه، ولا يُفَرّط في شيء منها، وله من الخشوع، ومن حسن الأداء للعمل، ما لا يطمح بشر إلى بلوغه.

وعَنْ مُسْلِمِ بْنِ مِخْرَاقٍ قَالَ: قُلْتُ لِعَائِشَةَ: يَا أُمَّ المُؤْمِنِينَ إِنَّ نَاساً يَقْرَأُ أَحَدُهُمْ الْقُرْآنَ فِي لَيْلَةٍ مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلاثاً، فَقَالَتْ: أُولَئِكَ قَرَءُوا وَلَمْ يَقْرَءُوا، كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُومُ اللَّيْلَةَ التَّمَامَ، فَيَقْرَأُ سُورَةَ الْبَقَرَةِ، وَسُورَةَ آلِ عِمْرَانَ، وَسُورَةَ النِّسَاءِ، ثُمَّ لا يَمُرُّ بِآيَةٍ فِيهَا اسْتِبْشَارٌ إِلاّ دَعَا اللهَ عَزَّ وَجَلَّ وَرَغِبَ، وَلا يَمُرُّ بِآيَةٍ فِيهَا تَخْوِيفٌ إِلاّ دَعَا اللهَ عَزَّ وَجَلَّ وَاسْتَعَاذَ) [رواه أحمد في المسند برقم /23729/].

وعَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: (حُبِّبَ إِلَيَّ مِنْ الدُّنْيَا النِّسَاءُ وَالطِّيبُ، وَجُعِلَتْ قُرَّةُ عَيْنِي فِي الصَّلاةِ) [رواه النسائي في كتاب عشرة النساء برقم /3879/].

وقد خاطبه الله تعالى بقوله: {يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّل * قُمِ اللَّيْلَ إِلاَّ قَلِيلاً * نِصْفَهُ أَوِ انقُصْ مِنْهُ قَلِيلاً * أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلاً * إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً}[المزَّمل:1 ــ5]، وقوله سبحانه: {وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَّكَ عَسَى أَن يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَّحْمُودًا}[الإسراء:79]، فكَانَ قيامُ الليل بحقّه عزيمةً، ينام أوّل الليل، ويقومُ آخره، كَما ثبت في كثير منَ الأحاديث، وربّما قام نصفَه، أو أكثر من نصفه، أو ثلثه، وما كان صلى الله عليه وسلم يدع قيام الليل بحال..

وانظر إلى هذه الصور العجيبة من قيامه صلى الله عليه وسلم لليل، واجتهاده وجلده في عبادة ربّه: عَنْ حُذَيْفَةَ رضي الله عنه قَالَ: صَلَّيْتُ مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم ذَاتَ لَيْلَةٍ فَافْتَتَحَ الْبَقَرَةَ فَقُلْتُ: يَرْكَعُ عِنْدَ المِائَةِ، ثُمَّ مَضَى، فَقُلْتُ: يُصَلِّي بِهَا فِي رَكْعَةٍ، فَمَضَى، فَقُلْتُ: يَرْكَعُ بِهَا، ثُمَّ افْتَتَحَ النِّسَاءَ، فَقَرَأَهَا، ثُمَّ افْتَتَحَ آلَ عِمْرَانَ، فَقَرَأَهَا، يَقْرَأُ مُتَرَسِّلاً، إِذَا مَرَّ بِآيَةٍ فِيهَا تَسْبِيحٌ سَبَّحَ، وَإِذَا مَرَّ بِسُؤَالٍ سَأَلَ، وَإِذَا مَرَّ بِتَعَوُّذٍ تَعَوَّذَ، ثُمَّ رَكَعَ فَجَعَلَ يَقُولُ: سُبْحَانَ رَبِّيَ الْعَظِيمِ، فَكَانَ رُكُوعُهُ نَحْواً مِنْ قِيَامِهِ، ثُمَّ قَالَ، سَمِعَ اللهُ لِمَنْ حَمِدَهُ، رَبَّنَا لَكَ الحَمْدُ، ثُمَّ قَامَ طَوِيلاً، قَرِيباً مِمَّا رَكَعَ، ثُمَّ سَجَدَ فَقَالَ: سُبْحَانَ رَبِّيَ الأَعْلَى، فَكَانَ سُجُودُهُ قَرِيباً مِنْ قِيَامِهِ) [رواه مسلم في كتاب صلاة المسافرين وقصرها برقم /1291/].

وعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنه قَالَ: بِتُّ فِي بَيْتِ خَالَتِي مَيْمُونَةَ، فَتَحَدَّثَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مَعَ أَهْلِهِ سَاعَةً، ثُمَّ رَقَدَ، فَبَقَيْتُ لأرقُبَ كَيْفَ يُصَلِّي رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم؟ قَالَ: فَقَامَ فَبَالَ ثُمَّ غَسَلَ وَجْهَهُ وَكَفَّيْهِ، ثُمَّ نَامَ، ثُمَّ قَامَ إِلَى الْقِرْبَةِ فَأَطْلَقَ شِنَاقَهَا، ثُمَّ صَبَّ فِي الجَفْنَةِ أَوْ الْقَصْعَةِ، فَأَكَبَّهُ بِيَدِهِ عَلَيْهَا، ثُمَّ تَوَضَّأَ وُضُوءاً حَسَناً بَيْنَ الْوُضُوءَيْنِ، ثُمَّ قَامَ يُصَلِّي، فَجِئْتُ فَقُمْتُ إِلَى جَنْبِهِ، فَقُمْتُ عَنْ يَسَارِهِ، قَالَ: فَأَخَذَنِي فَأَقَامَنِي عَنْ يَمِينِهِ، فَتَكَامَلَتْ صَلاةُ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم ثَلاثَ عَشْرَةَ رَكْعَةً، ثُمَّ نَامَ حَتَّى نَفَخَ، وَكُنَّا نَعْرِفُهُ إِذَا نَامَ بِنَفْخِهِ، ثُمَّ خَرَجَ إِلَى الصَّلاةِ فَصَلَّى، فَجَعَلَ يَقُولُ فِي صَلاتِهِ أَوْ فِي سُجُودِهِ: اللَّهُمَّ اجْعَلْ فِي قَلْبِي نُوراً، وَفِي سَمْعِي نُوراً، وَفِي بَصَرِي نُوراً، وَعَنْ يَمِينِي نُوراً، وَعَنْ شِمَالِي نُوراً، وَأَمَامِي نُوراً، وَخَلْفِي نُوراً، وَفَوْقِي نُوراً، وَتَحْتِي نُوراً، وَاجْعَلْ لِي نُوراً، أَوْ قَالَ: وَاجْعَلْنِي نُوراً، وأَعْظِمْ لِي نُوراً) [رواه مسلم في كتاب صلاة المسافرين وقصرها برقم /1279/].

وعَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رضي الله عنه قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم إِذَا قَامَ إِلَى الصَّلاةِ كَبَّرَ ثُمَّ قَالَ: (وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ حَنِيفاً مُسْلِماً، وَمَا أَنَا مِنْ المُشْرِكِينَ، إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، لا شَرِيكَ لَهُ، وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ، وَأَنَا أَوَّلُ المُسْلِمِينَ، اللَّهُمَّ أَنْتَ المَلِكُ، لا إِلَهَ لِي إِلاّ أَنْتَ، أَنْتَ رَبِّي وَأَنَا عَبْدُكَ، ظَلَمْتُ نَفْسِي، وَاعْتَرَفْتُ بِذَنْبِي، فَاغْفِرْ لِي ذُنُوبِي جَمِيعاً، إِنَّهُ لا يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاّ أَنْتَ، وَاهْدِنِي لأَحْسَنِ الأَخْلاقِ، لا يَهْدِي لأَحْسَنِهَا إِلاّ أَنْتَ، وَاصْرِفْ عَنِّي سَيِّئَهَا، لا يَصْرِفُ سَيِّئَهَا إِلاّ أَنْتَ، لَبَّيْكَ وَسَعْدَيْكَ، وَالخَيْرُ كُلُّهُ فِي يَدَيْكَ، وَالشَّرُّ لَيْسَ إِلَيْكَ، أَنَا بِكَ وَإِلَيْكَ، تَبَارَكْتَ وَتَعَالَيْتَ، أَسْتَغْفِرُكَ وَأَتُوبُ إِلَيْكَ، وَإِذَا رَكَعَ قَالَ: اللَّهُمَّ لَكَ رَكَعْتُ، وَبِكَ آمَنْتُ، وَلَكَ أَسْلَمْتُ، خَشَعَ لَكَ سَمْعِي وَبَصَرِي، وَمُخِّي وَعِظَامِي، وَعَصَبِي، وَإِذَا رَفَعَ قَالَ: سَمِعَ اللهُ لِمَنْ حَمِدَهُ، رَبَّنَا وَلَكَ الحَمْدُ، مِلْءَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ، وَمِلْءَ مَا بَيْنَهُمَا، وَمِلْءَ مَا شِئْتَ مِنْ شَيْءٍ بَعْدُ، وَإِذَا سَجَدَ قَالَ: اللَّهُمَّ لَكَ سَجَدْتُ، وَبِكَ آمَنْتُ، وَلَكَ أَسْلَمْتُ، سَجَدَ وَجْهِي لِلَّذِي خَلَقَهُ وَصَوَّرَهُ، فَأَحْسَنَ صُورَتَهُ، وَشَقَّ سَمْعَهُ وَبَصَرَهُ، وَتَبَارَكَ اللهُ أَحْسَنُ الخَالِقِينَ، وَإِذَا سَلَّمَ مِنْ الصَّلاةِ قَالَ: اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي مَا قَدَّمْتُ وَمَا أَخَّرْتُ، وَمَا أَسْرَرْتُ وَمَا أَعْلَنْتُ، وَمَا أَسْرَفْتُ، وَمَا أَنْتَ أَعْلَمُ بِهِ مِنِّي، أَنْتَ المُقَدِّمُ وَالمُؤَخِّرُ، لا إِلَهَ إِلاّ أَنْتَ) [رواه أبو داود في كتاب الصلاة برقم /649/].

وانظر إلى موقف سيّد العابدين صلى الله عليه وسلم يوم بدر، كيف استغاث بربّه، وتضرّع إليه، وتذلّل بين يديه، فأغاثه الله، واستجاب دعاءه، وأمدّه بألف من الملائكة الكرام، على رأسهم جبريل عليه السلام، يقاتلون عن يمينه وشماله، وكانوا بشرى بنصر الله تعالى له وتأييده..

روى البيهقيّ عن عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه قال: " لمّا كان يوم بدر قاتلت شيئاً من قتال، ثمّ جئت مسرعاً لأنظر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما فعل، فإذا هو ساجد يقول: " يا حَيُّ يا قَيُّومُ، يا حَيُّ يا قَيُّومُ " لا يزيد عليها، فرجعت إلى القتال، ثمّ جئت وهو ساجد يقول ذلك أيضاً، فذهبت إلى القتال، ثمّ جئت وهو ساجد يقول ذلك أيضاً، حتّى فتح الله على يده " [كما في البداية والنهاية 2/275/، ورواه النسائيّ في اليوم والليلة].

وعَنْ عَبْدُ اللهِ بْنُ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ: حَدَّثَنِي عُمَرُ بْنُ الخَطَّابِ رضي الله عنه قَالَ: لَمَّا كَانَ يَوْمُ بَدْرٍ نَظَرَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم إِلَى المُشْرِكِينَ، وَهُمْ أَلْفٌ، وَأَصْحَابُهُ ثَلاثُ مِائَةٍ وَتِسْعَةَ عَشَرَ رَجُلاً، فَاسْتَقْبَلَ نَبِيُّ اللهِ صلى الله عليه وسلم الْقِبْلَةَ، ثُمَّ مَدَّ يَدَيْهِ فَجَعَلَ يَهْتِفُ بِرَبِّهِ: (اللَّهُمَّ أَنْجِزْ لِي مَا وَعَدْتَنِي، اللَّهُمَّ آتِ مَا وَعَدْتَنِي، اللَّهُمَّ إِنْ تُهْلِكْ هَذِهِ الْعِصَابَةَ مِنْ أَهْلِ الإِسْلامِ لا تُعْبَدْ فِي الأَرْضِ، فَمَا زَالَ يَهْتِفُ بِرَبِّهِ، مَادّاً يَدَيْهِ، مُسْتَقْبِلَ الْقِبْلَةِ، حَتَّى سَقَطَ رِدَاؤُهُ عَنْ مَنْكِبَيْهِ، فَأَتَاهُ أَبُو بَكْرٍ فَأَخَذَ رِدَاءَهُ فَأَلْقَاهُ عَلَى مَنْكِبَيْهِ، ثُمَّ الْتَزَمَهُ مِنْ وَرَائِهِ، وَقَالَ: يَا نَبِيَّ اللهِ كَفَاكَ مُنَاشَدَتُكَ رَبَّكَ، فَإِنَّهُ سَيُنْجِزُ لَكَ مَا وَعَدَكَ، فَأَنْزَلَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ: {إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُم بِأَلْفٍ مِّنَ الْمَلآئِكَةِ مُرْدِفِين}[الأنفال:9]، فَأَمَدَّهُ اللهُ بِالمَلائِكَةِ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: بَيْنَمَا رَجُلٌ مِنْ المُسْلِمِينَ يَوْمَئِذٍ يَشْتَدُّ فِي أَثَرِ رَجُلٍ مِنْ المُشْرِكِينَ أَمَامَهُ، إِذْ سَمِعَ ضَرْبَةً بِالسَّوْطِ فَوْقَهُ، وَصَوْتَ الْفَارِسِ يَقُولُ: أَقْدِمْ حَيْزُومُ، فَنَظَرَ إِلَى المُشْرِكِ أَمَامَهُ فَخَرَّ مُسْتَلْقِياً، فَنَظَرَ إِلَيْهِ فَإِذَا هُوَ قَدْ خُطِمَ أَنْفُهُ، وَشُقَّ وَجْهُهُ، كَضَرْبَةِ السَّوْطِ، فَاخْضَرَّ ذَلِكَ أَجْمَعُ، فَجَاءَ الأَنْصَارِيُّ فَحَدَّثَ بِذَلِكَ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: صَدَقْتَ ذَلِكَ مِنْ مَدَدِ السَّمَاءِ الثَّالِثَةِ، فَقَتَلُوا يَوْمَئِذٍ سَبْعِينَ، وَأَسَرُوا سَبْعِينَ..) [رواه مسلم في كتاب الجهاد والسير برقم /3309/].

وعَنْ عَلِيٍّ رضي الله عنه قَالَ: مَا كَانَ فِينَا فَارِسٌ يَوْمَ بَدْرٍ غَيْرُ المِقْدَادِ، وَلَقَدْ رَأَيْتُنَا وَمَا فِينَا إِلاّ نَائِمٌ، إِلاّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم تَحْتَ شَجَرَةٍ، يُصَلِّي وَيَبْكِي حَتَّى أَصْبَحَ) [رواه أحمد في المسند برقم /973/].

وتصوّر معي أخي المؤمن رأس الدولة، وقائد الأمّة، وهو يحيي الليلَ كلَّه ضارعاً باكياً بيْن يدي ربّه، يدعو ويستغيث، ويلحّ على ربّه في الدعاء، ويستغرق في مناجاته عن كلّ ما حوله، وانظر مدى تحمّله صلى الله عليه وسلم للمسئوليّة عنْ هذا الدينِ، وعن الأمّة التي يقودُهَا، ويربّيها على عينه ويرعاها..

واقرأ هذا الحديث المؤثّر لتر طرفاً من منزلة العبوديّة الرفيعة التي بلغها النبيّ صلى الله عليه وسلم، وكيف تلقّاها عنه أصحابه الكرام رضي الله عنهم، وتربّوا على مائدتها، فكانوا خير أمّةٍ أخرجت للناس..

عَنْ مُعَاذَ بْنَ جَبَلٍ رضي الله عنه قَالَ: احْتَبَسَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم ذَاتَ غَدَاةٍ، عَنْ صَلاةِ الصُّبْحِ، حَتَّى كِدْنَا نَتَرَاءَى قَرْنَ الشَّمْسِ، فَخَرَجَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم سَرِيعاً، فَثُوِّبَ بِالصَّلاةِ، وَصَلَّى وَتَجَوَّزَ فِي صَلاتِهِ، فَلَمَّا سَلَّمَ قَالَ: كَمَا أَنْتُمْ عَلَى مَصَافِّكُمْ، ثُمَّ أَقْبَلَ إِلَيْنَا، فَقَالَ: إِنِّي سَأُحَدِّثُكُمْ مَا حَبَسَنِي عَنْكُمْ الْغَدَاةَ، إِنِّي قُمْتُ مِنْ اللَّيْلِ فَصَلَّيْتُ مَا قُدِّرَ لِي، فَنَعَسْتُ فِي صَلاتِي حَتَّى اسْتَيْقَظْتُ، فَإِذَا أَنَا بِرَبِّي عَزَّ وَجَلَّ فِي أَحْسَنِ صُورَةٍ، فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ أَتَدْرِي فِيمَ يَخْتَصِمُ المَلأُ الأَعْلَى؟ قُلْتُ: لا أَدْرِي يَا رَبِّ، قَالَ: يَا مُحَمَّدُ فِيمَ يَخْتَصِمُ المَلأُ الأَعْلَى؟ قُلْتُ: لا أَدْرِي رَبِّ، فَرَأَيْتُهُ وَضَعَ كَفَّهُ بَيْنَ كَتِفَيَّ، حَتَّى وَجَدْتُ بَرْدَ أَنَامِلِهِ بَيْنَ صَدْرِي، فَتَجَلَّى لِي كُلُّ شَيْءٍ، وَعَرَفْتُ، فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ فِيمَ يَخْتَصِمُ المَلأُ الأَعْلَى؟ قُلْتُ فِي الْكَفَّارَاتِ، قَالَ: وَمَا الْكَفَّارَاتُ؟ قُلْتُ: نَقْلُ الأَقْدَامِ إِلَى الجُمُعَاتِ، وَجُلُوسٌ فِي المَسَاجِدِ بَعْدَ الصَّلاةِ، وَإِسْبَاغُ الْوُضُوءِ عِنْدَ الْكَرِيهَاتِ، قَالَ: وَمَا الدَّرَجَاتُ؟ قُلْتُ: إِطْعَامُ الطَّعَامِ، وَلِينُ الْكَلامِ، وَالصَّلاةُ وَالنَّاسُ نِيَامٌ، قَالَ: سَلْ، قُلْتُ: (اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ فِعْلَ الخَيْرَاتِ، وَتَرْكَ المُنْكَرَاتِ، وَحُبَّ المَسَاكِينِ، وَأَنْ تَغْفِرَ لِي وَتَرْحَمَنِي، وَإِذَا أَرَدْتَ فِتْنَةً فِي قَوْمٍ فَتَوَفَّنِي غَيْرَ مَفْتُونٍ، وَأَسْأَلُكَ حُبَّكَ، وَحُبَّ مَنْ يُحِبُّكَ، وَحُبَّ عَمَلٍ يُقَرِّبُنِي إِلَى حُبِّكَ)، وَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: إِنَّهَا حَقٌّ، فَادْرُسُوهَا، وَتَعَلَّمُوهَا) [رواه أحمد في المسند برقم /21093/].

واسمَع إلى جميل مناجاته صلى الله عليه وسلم لربّه تبارك وتعالى بهذه الكلمات الضارعة، الجامعة لحقائق الألوهيّة، وأدب العبوديّة: عَنْ عَائِشَةَ رضي الله تعالى عنها قَالَتْ: فَزِعْتُ ذَاتَ لَيْلَةٍ، وَفَقَدْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَمَدَدْتُ يَدِي، فَوَقَعَتْ عَلَى قَدَمَيْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وَهُمَا مُنْتَصِبَانِ، وَهُوَ سَاجِدٌ، وَهُوَ يَقُولُ: (أَعُوذُ بِرِضَاكَ مِنْ سَخَطِكَ، وَأَعُوذُ بِمُعَافَاتِكَ مِنْ عُقُوبَتِكَ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْكَ لا أُحْصِي ثَنَاءً عَلَيْكَ، أَنْتَ كَمَا أَثْنَيْتَ عَلَى نَفْسِكَ) [رواه أحمد في المسند برقم /23176/].

وانظر إلى القلب الموصول بالله وتعظيمه، والأدب معه في مجالسه: عَنْ ابْنِ عُمَرَ قَالَ كَانَ يُعَدُّ لِرَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فِي المَجْلِسِ الْوَاحِدِ مِائَةُ مَرَّةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَقُومَ: (رَبِّ اغْفِرْ لِي، وَتُبْ عَلَيَّ، إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الْغَفُورُ) [رواه الترمذيّ في كتاب الدعوات عن رَسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم برقم /3356/، وقَالَ هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ غَرِيبٌ، ورواه أبو داود في كتاب الصلاة برقم /1295/].

وكان صلى الله عليه وسلم يذكر الله على جميع أحيانه، وعلّم أصحابه وأمّته أن يذكروا الله في كلّ حال ومناسبة، وعلّمنا لكلّ حركة ذكراً ودعاء، وأوصى من طلب منه وصيّة بقوله: (لا يزال لسانك رطباً بذكر الله).

وكان صلى الله عليه وسلم أعرفَ الناس بالله، وأَخْشَاهُمْ للهِ، وَأَتْقَاكُمْ لَهُ: عَنْ أَنَسِ ابْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه يَقُولُ: جَاءَ ثَلاثَةُ رَهْطٍ إِلَى بُيُوتِ أَزْوَاجِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، يَسْأَلُونَ عَنْ عِبَادَةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَلَمَّا أُخْبِرُوا كَأَنَّهُمْ تَقَالُّوهَا، فَقَالُوا: وَأَيْنَ نَحْنُ مِنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، قَدْ غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ وَمَا تَأَخَّرَ؟! قَالَ أَحَدُهُمْ: أَمَّا أَنَا فَإِنِّي أُصَلِّي اللَّيْلَ أَبَداً، وَقَالَ آخَرُ: أَنَا أَصُومُ الدَّهْرَ وَلا أُفْطِرُ، وَقَالَ آخَرُ: أَنَا أَعْتَزِلُ النِّسَاءَ، فَلا أَتَزَوَّجُ أَبَداً، فَجَاءَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم إِلَيْهِمْ فَقَالَ: أَنْتُمْ الَّذِينَ قُلْتُمْ كَذَا وَكَذَا؟ أَمَا وَاللهِ إِنِّي لأَخْشَاكُمْ للهِ، وَأَتْقَاكُمْ لَهُ، لَكِنِّي أَصُومُ وَأُفْطِرُ، وَأُصَلِّي وَأَرْقُدُ، وَأَتَزَوَّجُ النِّسَاءَ، فَمَنْ رَغِبَ عَنْ سُنَّتِي فَلَيْسَ مِنِّي) [رواه البخاريّ في كتاب النكاح برقم /4675/].

إنّ معرفة محمّد صلى الله عليه وسلم بالله لا تسبقها معرفة في الأوّلين والآخرين، ولا تدانيها.. لأنّها معرفة تنبع من شهود لا يخبو سناه، ولا يغيم ضحاه..

والمسلم المتأسّي برسول الله صلى الله عليه وسلم يحسّ أنّ لهذه المعرفة خاصّة تبدو في حديثه صلى الله عليه وسلم في كلّ موقف ومناسبة، فهي واضحة صادقة، حارّة نفّاذة، لا غموض فيها ولا افتعال، سواء في حديثه صلى الله عليه وسلم عن الله سبحانه، أو في ربط العباد به، وتربيتهم على عبوديّته.

وللكلام الإنسانيّ درجة حرارة معيّنة، يموت دونها، فلا يترك أثراً، ولا يبلغ هدفاً، وعندما يذكر محمّد صلى الله عليه وسلم ربّه راغباً أو راهباً يشتدّ النبض في الكلمات المنسابة، وتحتدّ العاطفة في المشاعر الحارّة، فلا يملك قارئ أو سامع إلاّ أن يخشع ويستكين لله ربّ العالمين " [" فنّ الذكر والدعاء عند خاتم الأنبياء " الشيخ محمّد الغزاليّ ص/16/].

وممّا يَدلّ على عظيمِ معرفتِه باللهِ تَعالى ما جاء في الحديث عَنْ أَبِي ذَرٍّ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: (إِنِّي أَرَى مَا لا تَرَوْنَ، وَأَسْمَعُ مَا لا تَسْمَعُونَ، أَطَّتْ السَّمَاءُ، وَحُقَّ لَهَا أَنْ تَئِطَّ، مَا فِيهَا مَوْضِعُ أَرْبَعِ أَصَابِعَ إِلاّ وَمَلَكٌ وَاضِعٌ جَبْهَتَهُ سَاجِداً للهِ، وَاللهِ لَوْ تَعْلَمُونَ مَا أَعْلَمُ لَضَحِكْتُمْ قَلِيلاً، وَلَبَكَيْتُمْ كَثِيراً، وَمَا تَلَذَّذْتُمْ بِالنِّسَاءِ عَلَى الْفُرُشِ، وَلَخَرَجْتُمْ إِلَى الصُّعُدَاتِ تَجْأَرُونَ إِلَى اللهِ)، وَقَالَ أَبو ذَرٍّ رضي الله عنه: " وَاللهِ لَوَدِدْتُ أَنِّي كُنْتُ شَجَرَةً تُعْضَدُ " [رواه الترمذيّ في كتاب الزهد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم برقم /2234/، وقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ.].

وكَانَ صلى الله عليه وسلم من هديه إذَا حَزَبَهُ أَمْرٌ أن يفزع إلى ذكر الله: جاء فِي الصّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبّاسٍ أَنّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَقُولُ عِنْدَ الْكَرْبِ: (لا إلَهَ إلاّ اللهُ الْعَظِيمُ الحَلِيمُ، لا إلَهَ إلاّ اللهُ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمُ، لا إلَهَ إلاّ اللهُ رَبًّ السّمَاوَاتِ السّبْعِ وَرَبُّ الأَرْضِ، رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمُ) [رواه البخاريّ في كتاب الدعوات، باب الدعاء عند الكرب برقم /5985/ ومسلم في كتاب الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار باب دعاء الكرب برقم /4909/].

وَفِي جَامِعِ التّرْمِذِيّ عَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه أَنّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ إذَا كَرَبَهُ أَمْرٌ قَالَ: (يَا حَيُّ يَا قَيّومُ بِرَحْمَتِكَ أَسْتَغِيثُ) [رواه الترمذيّ في كتاب الدعوات عن رسول الله صلى الله عليه وسلم برقم /3446/].

وَفِيهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنّ النّبِيّ صلى الله عليه وسلم كَانَ إذَا أَهَمّهُ الأَمْرُ رَفَعَ طَرْفَهُ إلَى السَّمَاءِ فَقَالَ: (سُبْحَانَ اللهِ الْعَظِيمِ)، وَإِذَا اجْتَهَدَ فِي الدّعَاءِ قَالَ: (يَا حَيّ يَا قَيّومُ) [رواه الترمذيّ في كتاب الدعوات عن رسول الله صلى الله عليه وسلم باب ما جاء ما يقول عند الكرب برقم /3358/].

وَفِي سُنَنِ أَبِي دَاوُدَ عَنْ أَبِي بَكْرَةَ رضي الله عنه أَنّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: (دَعَوَاتُ المَكْرُوبِ: اللّهُمّ رَحْمَتَكَ أَرْجُو، فَلا تَكِلْنِي إلَى نَفْسِي طَرْفَةَ عَيْنٍ، وَأَصْلِحْ لِي شَأْنِي كُلّهُ لا إلَهَ إلاّ أَنْتَ) [رواه أبو داود في كتاب الأدب باب ما يقول إذا أصبح برقم /4426/].

وَفِيهَا أَيْضاً عَنْ أَسْمَاءَ بِنْتِ عُمَيْسٍ قَالَتْ: قَالَ لِي رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: (أَلا أُعَلّمُكَ كَلِمَاتٍ تَقُولِيهِنّ عَنْدَ الْكَرْبِ، أَوْ فِي الْكَرْبِ: (اللهُ رَبّي لا أُشْرِكُ بِهِ شَيْئاً). وَفِي رِوَايَةٍ أَنّهَا تُقَالُ سَبْعَ مَرّاتٍ [رواه أبو داود في كتاب الصلاة باب في الاستغفار برقم /1304/].

وَفِي مُسْنَدِ الإِمَامِ أَحْمَدَ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه عَنْ النّبِيّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: (مَا أَصَابَ عَبْداً هَمٌّ وَلا حُزْنٌ فَقَالَ: اللَهُمّ إنّي عَبْدُك ابْنُ عَبْدِك ابْنُ أَمَتِك، نَاصِيَتِي بِيَدِك، مَاضٍ فِيّ حُكْمُك، عَدْلٌ فِيّ قَضَاؤُك، أَسْأَلُكَ بِكُلّ اسْمٍ هُوَ لَكَ، سَمّيْتَ بِهِ نَفْسَك، أَوْ أَنْزَلْتَهُ فِي كِتَابِك، أَوْ عَلّمْتَهُ أَحَدًا مِنْ خَلْقِك، أَوْ اسْتَأْثَرْتَ بِهِ فِي عِلْمِ الْغَيْبِ عِنْدَكَ، أَنْ تَجْعَلَ الْقُرْآنَ الْعَظِيمَ رَبِيعَ قَلْبِي، وَنُورَ صَدْرِي، وَجَلاءَ حُزْنِي، وَذَهَابَ هَمّي، إلاّ أَذْهَبَ اللهُ حُزْنَهُ وَهَمّهُ، وَأَبْدَلَهُ مَكَانَهُ فَرَحاً) [رواه أحمد في السند برقم /3528/.].

وَفِي التّرْمِذِيّ عَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقّاصٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: (دَعَوةُ ذِي النّونِ إذْ دَعَا رَبّهُ وَهُوَ فِي بَطْنِ الحُوتِ: (لا إلَهَ إلاّ أَنْتَ سُبْحَانَكَ إنّي كُنْت مِنْ الظّالِمِينَ)، لَمْ يَدْعُ بِهَا رَجُلٌ مُسْلِمٌ فِي شَيْءٍ قَطّ إلاّ اُسْتُجِيبَ لَهُ) [رواه الترمذيّ في كتاب الدعوات عن رسول الله صلى الله عليه وسلم باب ما جاء في عقد التسبيح باليد برقم /3427/]. وَفِي رِوَايَةٍ: (إنّي لأَعْلَمُ كَلِمَةً لا يَقُولُهَا مَكْرُوبٌ إلاّ فَرّجَ اللهُ عَنْهُ، كَلِمَةَ أَخِي يُونُسَ..).

وَفِي سُنَنِ أَبِي دَاوُدَ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الخُدْرِي رضي الله عنه قَالَ: دَخَلَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم ذَاتَ يَوْمٍ المَسْجِدَ فَإِذَا هُوَ بِرَجُلٍ مِنْ الأَنْصَارِ يُقَالُ لَهُ أَبُو أُمَامَةَ فَقَالَ: (يَا أَبَا أُمَامَةَ مَالِي أَرَاكَ فِي المَسْجِدِ فِي غَيْرِ وَقْتِ الصّلاةِ؟! " فَقَالَ: هُمُومٌ لَزِمَتْنِي، وَدُيُونٌ يَا رَسُولَ اللهِ، فَقَالَ: (أَلا أُعَلّمُكَ كَلاماً إذَا أَنْتَ قُلْتَهُ أَذْهَبَ اللهُ عَزّ وَجَلّ هَمّكَ، وَقَضَى دَيْنَكَ؟) قَالَ: قُلْتُ: بَلَى يَا رَسُولَ اللهِ قَالَ: (قُلْ إذَا أَصْبَحْتَ وَإِذَا أَمْسَيْتَ: اللّهُمّ إنّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ الْهَمّ وَالحَزَنِ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ الْعَجْزِ وَالْكَسَلِ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ الجُبْنِ وَالْبُخْلِ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ غَلَبَةِ الدّيْنِ وَقَهْرِ الرّجَالِ)، قَالَ: فَفَعَلْتُ ذَلِكَ فَأَذْهَبَ اللهُ عَزّ وَجَلّ هَمّي، وَقَضَى عَنّي دَيْنِي " [رواه أبو داود في كتاب الصلاة باب في الاستعاذة برقم /1330/].

وعَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لفاطمة رضي الله عنها: (ما يمنعك أن تسمعي ما أوصيك به، أن تقولي إذا أصبحت، وإذا أمسيت: يا حيّ يا قيّوم برحمتك أستغيث، أصلح لي شأني كله، ولا تكلني إلى نفسي طرفة عين) [رواه الحاكم في المستدرك 5/56/ وقال: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين، ولم يخرجاه].

وذِكرُه صلى الله عليه وسلم لله تعالى باب عظيم من أبواب عبَادته صلى الله عليه وسلم، ومن طالَعَ ما جاء في كتب السيرة والسنّة من أدعيته وأذكاره صلى الله عليه وسلم، العامّة والخاصّة، ظنّ أنّ ذلك لا يمكن أن يصدر إلاّ عن متفرّغ للعبادةِ، منقطع للتبتّل، لا يعرف طيلة يومه سواها.! وتتملّك الإنسانَ الدهشةُ عندما يعلم أنّها قد صَدَرَتْ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، الذي ملأ كلّ ساحات الحياة، وهيمن عليها بهديه وجهاده.. ولا عجب، فالله أعلم حيث يجعل رسالته..

فقد كان صلى الله عليه وسلم يذكر الله تعالى، ويدعوه ويرجوه على جميع أحواله وأحيانه.. ويحثّ أصحابه على دوام الذكر، والأخذ منه بجوامع الكلم، والإكثار منه، والاجتهاد فيه..

وعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرٍو قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يُعَلِّمُنَا، يَقُولُ: (اللَّهُمَّ فَاطِرَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ، عَالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ، أَنْتَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ، وَإِلَهُ كُلِّ شَيْءٍ، أَشْهَدُ أَنْ لا إِلَهَ إِلاّ أَنْتَ، وَحْدَكَ لا شَرِيكَ لَكَ، وَأَنَّ مُحَمَّداً عَبْدُكَ وَرَسُولُكَ، وَالمَلائِكَةُ يَشْهَدُونَ، أَعُوذُ بِكَ مِنْ الشَّيْطَانِ وَشِرْكِهِ، وَأَعُوذُ بِكَ أَنْ أَقْتَرِفَ عَلَى نَفْسِي إِثْماً، أَوْ أَجُرَّهُ عَلَى مُسْلِمٍ، كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يُعَلِّمُهُ عَبْدَ اللهِ بْنَ عَمْرٍو أَنْ يَقُولَ ذَلِكَ حِينَ يُرِيدُ أَنْ يَنَامَ) [رواه أحمد في المسند برقم /6309/].

ولا يفوتنّك أن تلاحظ أنّ هذا الدعاء على طوله كان يُعلّم لأطفال الصحابة ، فما أعظم الخير المرجّى ممّن ينشأ هذه النشأة الصالحة المباركة.!

ومن كمال عبوديّة النبيّ صلى الله عليه وسلم ومعرفته بربّه أنّه صلى الله عليه وسلم كان يدعو بجوامع الدعاء، التي تغني عن الإطالة بغير فائدة: عَنْ قَيْسِ بْنِ عُبَادٍ قَالَ: صَلَّى عَمَّارُ بْنُ يَاسِرٍ رضي الله عنه بِالْقَوْمِ صَلاةً أَخَفَّهَا، فَكَأَنَّهُمْ أَنْكَرُوهَا، فَقَالَ: أَلَمْ أُتِمَّ الرُّكُوعَ وَالسُّجُودَ؟ قَالُوا: بَلَى، قَالَ: أَمَا إِنِّي دَعَوْتُ فِيهَا بِدُعَاءٍ، كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَدْعُو بِهِ: (اللَّهُمَّ بِعِلْمِكَ الْغَيْبَ، وَقُدْرَتِكَ عَلَى الخَلْقِ، أَحْيِنِي مَا عَلِمْتَ الحَيَاةَ خَيْراً لِي، وَتَوَفَّنِي إِذَا عَلِمْتَ الْوَفَاةَ خَيْراً لِي، وَأَسْأَلُكَ خَشْيَتَكَ فِي الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ، وَكَلِمَةَ الإِخْلاصِ فِي الرِّضَا وَالْغَضَبِ، وَأَسْأَلُكَ نَعِيماً لا يَنْفَدُ، وَقُرَّةَ عَيْنٍ لا تَنْقَطِعُ، وَأَسْأَلُكَ الرِّضَاءَ بِالْقَضَاءِ، وَبَرْدَ الْعَيْشِ بَعْدَ المَوْتِ، وَلَذَّةَ النَّظَرِ إِلَى وَجْهِكَ، وَالشَّوْقَ إِلَى لِقَائِكَ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ ضَرَّاءَ مُضِرَّةٍ، وَفِتْنَةٍ مُضِلَّةٍ، اللَّهُمَّ زَيِّنَّا بِزِينَةِ الإِيمَانِ، وَاجْعَلْنَا هُدَاةً مُهْتَدِينَ) [رواه النسائيّ في كتاب السهو برقم /1289/].

وفي رواية: (.. وَالشَّوْقَ إِلَى لِقَائِكَ، فِي غَيْرِ ضَرَّاءَ مُضِرَّةٍ، وَلا فِتْنَةٍ مُضِلَّةٍ..).

وعَنْ جُوَيْرِيَةَ بِنتِ الحارثِ أمّ المؤمنين رضي الله عنها: أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم خَرَجَ مِنْ عِنْدِهَا بُكْرَةً حِينَ صَلَّى الصُّبْحَ، وَهِيَ فِي مَسْجِدِهَا، ثُمَّ رَجَعَ بَعْدَ أَنْ أَضْحَى، وَهِيَ جَالِسَةٌ فَقَالَ: مَا زِلْتِ عَلَى الحَالِ الَّتِي فَارَقْتُكِ عَلَيْهَا؟ قَالَتْ: نَعَمْ، قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: (لَقَدْ قُلْتُ بَعْدَكِ أَرْبَعَ كَلِمَاتٍ ثَلاثَ مَرَّاتٍ، لَوْ وُزِنَتْ بِمَا قُلْتِ مُنْذُ الْيَوْمِ لَوَزَنَتْهُنَّ: سُبْحَانَ اللهِ وَبِحَمْدِهِ، عَدَدَ خَلْقِهِ، وَرِضَا نَفْسِهِ، وَزِنَةَ عَرْشِهِ، وَمِدَادَ كَلِمَاتِهِ).

وفي رواية عَنْها قَالَتْ: مَرَّ بِهَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم حِينَ صَلَّى صَلاةَ الْغَدَاةِ، أَوْ بَعْدَ مَا صَلَّى الْغَدَاةَ، فَذَكَرَ نَحْوَهُ غَيْرَ أَنَّهُ قَالَ: (سُبْحَانَ اللهِ عَدَدَ خَلْقِهِ، سُبْحَانَ اللهِ رِضَا نَفْسِهِ، سُبْحَانَ اللهِ زِنَةَ عَرْشِهِ، سُبْحَانَ اللهِ مِدَادَ كَلِمَاتِهِ) [رواه مسلم في صحيحه 13/258/].

وفي رواية الترمذي: (أَلا أُعَلِّمُكِ كَلِمَاتٍ تَقُولِينَهَا؟ سُبْحَانَ اللهِ عَدَدَ خَلْقِهِ، سُبْحَانَ اللهِ عَدَدَ خَلْقِهِ، سُبْحَانَ اللهِ عَدَدَ خَلْقِهِ، سُبْحَانَ اللهِ رِضَا نَفْسِهِ، سُبْحَانَ اللهِ رِضَا نَفْسِهِ، سُبْحَانَ اللهِ رِضَا نَفْسِهِ، سُبْحَانَ اللهِ زِنَةَ عَرْشِهِ، سُبْحَانَ اللهِ زِنَةَ عَرْشِهِ، سُبْحَانَ اللهِ زِنَةَ عَرْشِهِ، سُبْحَانَ اللهِ مِدَادَ كَلِمَاتِهِ، سُبْحَانَ اللهِ مِدَادَ كَلِمَاتِهِ، سُبْحَانَ اللهِ مِدَادَ كَلِمَاتِهِ) [11/467/ وقَالَ أَبُو عِيسَى هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ].

"... لقد كان محمّد صلى الله عليه وسلم عامر القلب بربّه، عميق الحسّ بعظمته، وكان ذلك أساس علاقته بالعباد، وبربّ العباد " [" فنّ الذكر والدعاء عند خاتم الأنبياء " الشيخ محمّد الغزاليّ ص/18/.]. فلا ريب أنّ الموعظة عندما كانت تصدر عن قلبه الشريف تفعل فعلها العجيب في أعماق القلوب، فترقّ وتصفو، وتقبل على الله تعالى، وتشهد الآخرة وعوالمها، وكأنّها تراها رأي العين، وتعيش في جوّ من الروحانيّة الخالصة، تتضاءل أمامها الدنيا بما فيها، وهذا ما عبّر عنه بعض أصحاب النبيّ صلى الله عليه وسلم، كما جاء في الحديث عَنْ حَنْظَلَةَ الأُسَيِّدِيِّ قَالَ: وَكَانَ مِنْ كُتَّابِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ لَقِيَنِي أَبُو بَكْرٍ فَقَالَ: كَيْفَ أَنْتَ يَا حَنْظَلَةُ؟ قَالَ: قُلْتُ: نَافَقَ حَنْظَلَةُ، قَالَ: سُبْحَانَ اللهِ مَا تَقُولُ؟! قَالَ: قُلْتُ: نَكُونُ عِنْدَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم يُذَكِّرُنَا بِالنَّارِ وَالجَنَّةِ حَتَّى كَأَنَّا رَأْيُ عَيْنٍ، فَإِذَا خَرَجْنَا مِنْ عِنْدِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَافَسْنَا الأَزْوَاجَ وَالأَوْلادَ وَالضَّيْعَاتِ فَنَسِينَا كَثِيراً، قَالَ أَبُو بَكْرٍ: فَوَاللهِ إِنَّا لَنَلْقَى مِثْلَ هَذَا، فَانْطَلَقْتُ أَنَا وَأَبُو بَكْرٍ حَتَّى دَخَلْنَا عَلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، قُلْتُ: نَافَقَ حَنْظَلَةُ يَا رَسُولَ اللهِ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: وَمَا ذَاكَ؟ قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ نَكُونُ عِنْدَكَ تُذَكِّرُنَا بِالنَّارِ وَالجَنَّةِ حَتَّى كَأَنَّا رَأْيُ عَيْنٍ، فَإِذَا خَرَجْنَا مِنْ عِنْدِكَ عَافَسْنَا الأَزْوَاجَ وَالأَوْلادَ وَالضَّيْعَاتِ، نَسِينَا كَثِيراً، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: (وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ أنْ لَوْ تَدُومُونَ عَلَى مَا تَكُونُونَ عِنْدِي، وَفِي الذِّكْرِ، لَصَافَحَتْكُمْ المَلائِكَةُ عَلَى فُرُشِكُمْ وَفِي طُرُقِكُمْ، وَلَكِنْ يَا حَنْظَلَةُ سَاعَةً وَسَاعَةً، ثَلاثَ مَرَّاتٍ) [رواه مسلم في كتاب التوبة برقم /4937/].

وعَنْ الْعِرْبَاضِ بْنِ سَارِيَةَ رضي الله عنه قَالَ: وَعَظَنَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَوْماً بَعْدَ صَلاةِ الْغَدَاةِ مَوْعِظَةً بَلِيغَةً، ذَرَفَتْ مِنْهَا الْعُيُونُ، وَوَجِلَتْ مِنْهَا الْقُلُوبُ، فَقَالَ رَجُلٌ: إِنَّ هَذِهِ مَوْعِظَةُ مُوَدِّعٍ، فَمَاذَا تَعْهَدُ إِلَيْنَا يَا رَسُولَ اللهِ؟ قَالَ: (أُوصِيكُمْ بِتَقْوَى اللهِ، وَالسَّمْعِ وَالطَّاعَةِ، وَإِنْ عَبْدٌ حَبَشِيٌّ، فَإِنَّهُ مَنْ يَعِشْ مِنْكُمْ بَعْدِي فَسَيَرَى اخْتِلافاً كَثِيراً، وَإِيَّاكُمْ وَمُحْدَثَاتِ الأُمُورِ، فَإِنَّ كُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ، وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلالَةٌ، فَمَنْ أَدْرَكَ ذَلِكَ مِنْكُمْ فَعَلَيْهِ بِسُنَّتِي وَسُنَّةِ الخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ المَهْدِيِّينَ، تَمَسَّكُوا بِهَا، وَعَضُّوا عَلَيْهَا بِالنَّوَاجِذِ) [رواه الترمذيّ في كتاب العلم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم برقم /2600/، وَقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ، ورواه أبو داود في كتاب السنّة برقم /3991/، وَالْعِرْبَاضُ بْنُ سَارِيَةَ يُكْنَى أَبَا نَجِيحٍ، وَهُوَ مِمَّنْ نَزَلَ فِيهِ: {وَلاَ عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لاَ أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّواْ وَّأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَنًا أَلاَّ يَجِدُواْ مَا يُنفِقُون}[التوبة:92].

وأختم الكلام عن عبادة النبيّ صلى الله عليه وسلم، وصدق عبوديّته وضراعته إلى الله تعالى بهذا الدعاء النبويّ الجامع:

(اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِكَ، تَهْدِي بِهَا قَلْبِي، وَتَجْمَعُ بِهَا أَمْرِي، وَتَلُمُّ بِهَا شَعَثِي، وَتُصْلِحُ بِهَا غَائِبِي، وَتَرْفَعُ بِهَا شَاهِدِي، وَتُزَكِّي بِهَا عَمَلِي، وَتُلْهِمُنِي بِهَا رُشْدِي، وَتَرُدُّ بِهَا أُلْفَتِي، وَتَعْصِمُنِي بِهَا مِنْ كُلِّ سُوءٍ، اللَّهُمَّ أَعْطِنِي إِيمَاناً وَيَقِيناً، لَيْسَ بَعْدَهُ كُفْرٌ، وَرَحْمَةً أَنَالُ بِهَا شَرَفَ كَرَامَتِكَ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ، اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ الْفَوْزَ فِي الْعَطَاءِ، وَنُزُلَ الشُّهَدَاءِ، وَعَيْشَ السُّعَدَاءِ، وَالنَّصْرَ عَلَى الأَعْدَاءِ، اللَّهُمَّ إِنِّي أُنْزِلُ بِكَ حَاجَتِي، وَإِنْ قَصُرَ رَأْيِي، وَضَعُفَ عَمَلِي افْتَقَرْتُ إِلَى رَحْمَتِكَ، فَأَسْأَلُكَ يَا قَاضِيَ الأُمُورِ، وَيَا شَافِيَ الصُّدُورِ، كَمَا تُجِيرُ بَيْنَ الْبُحُورِ، أَنْ تُجِيرَنِي مِنْ عَذَابِ السَّعِيرِ، وَمِنْ دَعْوَةِ الثُّبُورِ، وَمِنْ فِتْنَةِ الْقُبُورِ، اللَّهُمَّ مَا قَصُرَ عَنْهُ رَأْيِي، وَلَمْ تَبْلُغْهُ نِيَّتِي، وَلَمْ تَبْلُغْهُ مَسْأَلَتِي، مِنْ خَيْرٍ وَعَدْتَهُ أَحَداً مِنْ خَلْقِكَ، أَوْ خَيْرٍ أَنْتَ مُعْطِيهِ أَحَداً مِنْ عِبَادِكَ، فَإِنِّي أَرْغَبُ إِلَيْكَ فِيهِ، وَأَسْأَلُكَهُ بِرَحْمَتِكَ رَبَّ الْعَالَمِينَ، اللَّهُمَّ ذَا الحَبْلِ الشَّدِيدِ، وَالأَمْرِ الرَّشِيدِ أَسْأَلُكَ الأَمْنَ يَوْمَ الْوَعِيدِ، وَالجَنَّةَ يَوْمَ الخُلُودِ، مَعَ الْمُقَرَّبِينَ الشُّهُودِ، الرُّكَّعِ السُّجُودِ، المُوفِينَ بِالْعُهُودِ، إِنَّكَ رَحِيمٌ وَدُودٌ، وَأَنْتَ تَفْعَلُ مَا تُرِيدُ، اللَّهُمَّ اجْعَلْنَا هَادِينَ مُهْتَدِينَ، غَيْرَ ضَالِّينَ، وَلا مُضِلِّينَ، سِلْمًا لأَوْلِيَائِكَ، وَعَدُوّاً لأَعْدَائِكَ، نُحِبُّ بِحُبِّكَ مَنْ أَحَبَّكَ، وَنُعَادِي بِعَدَاوَتِكَ مَنْ خَالَفَكَ، اللَّهُمَّ هَذَا الدُّعَاءُ وَعَلَيْكَ الإِجَابَةُ، وَهَذَا الجُهْدُ وَعَلَيْكَ التُّكْلانُ، اللَّهُمَّ اجْعَلْ لِي نُوراً فِي قَلْبِي، وَنُوراً فِي قَبْرِي، وَنُوراً مِنْ بَيْنِ يَدَيَّ، وَنُوراً مِنْ خَلْفِي، وَنُوراً عَنْ يَمِينِي، وَنُوراً عَنْ شِمَالِي، وَنُوراً مِنْ فَوْقِي، وَنُوراً مِنْ تَحْتِي، وَنُوراً فِي سَمْعِي، وَنُوراً فِي بَصَرِي، وَنُوراً فِي شَعْرِي، وَنُوراً فِي بَشَرِي، وَنُوراً فِي لَحْمِي، وَنُوراً فِي دَمِي، وَنُوراً فِي عِظَامِي، اللَّهُمَّ أَعْظِمْ لِي نُوراً، وَأَعْطِنِي نُوراً، وَاجْعَلْ لِي نُوراً، سُبْحَانَ الَّذِي تَعَطَّفَ الْعِزَّ وَقَالَ بِهِ، سُبْحَانَ الَّذِي لَبِسَ المَجْدَ وَتَكَرَّمَ بِهِ، سُبْحَانَ الَّذِي لا يَنْبَغِي التَّسْبِيحُ إِلاّ لَهُ، سُبْحَانَ ذِي الْفَضْلِ وَالنِّعَمِ، سُبْحَانَ ذِي المَجْدِ وَالْكَرَمِ، سُبْحَانَ ذِي الجَلالِ وَالإِكْرَامِ) [رواه الترمذيّ في كتاب الدعوات عن رسول الله صلى الله عليه وسلم برقم /3341/ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنه، وقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ لا نَعْرِفُهُ مِثْلَ هَذَا مِنْ حَدِيثِ ابْنِ أَبِي لَيْلَى إِلا مِنْ هَذَا الْوَجْهِ].

وبعد؛ فقارن بين سيرة النبيّ صلى الله عليه وسلم وهديه في عبادته، وبين قول الله تعالى: {قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي للهِ رَبِّ الْعَالَمِين * لاَ شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَاْ أَوَّلُ الْمُسْلِمِين}[الأنعام:162 ــ163]، ألا ترى أنّ صورته وسيرته هي المرآة التي انطبعت فيها آيات التنزيل العزيز، لتكون مصداق وصف الصدّيقة بنت الصدّيق رضي الله عنها وعن أبيها: (كان خلقه القرآن).

وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين