عالم يحاسب نفسه

 

وُلِدَ في بغداد، ونشأ فيها، وأصبح مِن أبرز علمائها، وكان من أذكياء العالم، وهو صاحب كتاب (الفنون) من أكبر الموسوعات العلمية في تاريخ الإسلام.

 

إنه الإمام الكبير أبو الوفاء علي بن عقيل البغدادي الظَّفري الحنبلي المولود سنة431، والمتوفى سنة 513هـ.

 

قال ابنُ الجوزي: (وكان له الخاطر العاطر، والبحث عن الغامض والدقائق، وجعل كتابَه المسمّى بـ "الفنون" مناطًا لخواطره وواقعاته. ومَنْ تأمّل واقعاته فيه عرف غورَ الرجل).

 

وفي لحظةٍ من لحظات الخلوة بالنفس حيث يُراجِعُ الإنسانُ ماضيه وعمله، وينظرُ موقعَ قدميه نادى ابنُ عقيل نفسَه نداءً مِنْ أعجب النداءات، نداءً في كلِّ واحدٍ منا حاجةٌ ماسةٌ دائمةٌ إليه.

 

هذا النداء نقله لنا ابنُ الجوزي رحمه الله، وقد أعجبه ووافق ما في قلبه إذ يقول:

( وقد كنتُ أرجو مقامات الكبار، فذهبَ العُمُرُ وما حصلَ المقصودُ، فوجدتُ أبا الوفاء ابن عقيل قد ناحَ نحوَ ما نحتُ، فأعجبتني نياحتُه فكتبتُها ههنا).

 

أقول: ومن الراجح أنه نقلها من كتاب (الفنون)، وكان قد وقف على (150) مجلداً منه، واختصره في (10) مجلدات، وزَّعها في تصانيفه.

 

وهذا هو النداء والنياحة المذكورة:

قال ابنُ عقيل لنفسه:

(يا رعناءُ تقوِّمين الألفاظ ليُقالَ مناظِر. وثمرةُ هذا أنْ يُقالَ: يا مناظِر، كما يُقال للمصارِع: الفارِه.

 

ضيعتِ أعزَّ الأشياء وأنفسَها عند العقلاء، وهي أيام العمر حتى شاع لك بين مَنْ يموت غداً اسمُ مناظر.

 

ثم يُنسى الذاكرُ والمذكورُ إذا درَست القلوب.

 

هذا إنْ تأخر الأمرُ إلى موتكِ، بل ربَّما نشأ شابٌّ أفرهُ منكِ فموَّهوا له وصار الاسمُ له.

 

والعقلاءُ عن الله تشاغلوا بما -إذا انطووا - نشَرَهُم، وهو العملُ بالعلم، والنظرُ الخالصُ لنفوسهم.

 

أفٍّ لنفسي وقد سَطَّرتْ عدة مجلدات في فنون العلوم، وما عبَقَ بها فضيلة.

 

إنْ نُوظرتْ شَمختْ، وإنْ نُوصحتْ تَعجرفتْ، وإنْ لاحتْ الدنيا طارتْ إليها طيران الرَّخم، وسقطتْ عليها سقوطَ الغراب على الجِيَف.

 

فليتها أخذتْ أخذَ المضطرِّ من الميتة.

 

توفِّرُ في المخالطة عيوباً تَبلى، و لا تَحتشمُ نظرَ الحقِّ إليها.

 

وإنْ انكسرَ لها غرضٌ تضجَّرتْ، فإنْ أُمدت بالنِّعم اشتغلتْ عن المُنْعم.

 

أفٍّ واللهِ مني اليومَ على وجه الأرض وغداً تحتَها.

 

واللهِ إنَّ نَتْنَ جسدي بعد ثلاثٍ تحتَ التراب أقلُّ مِن نَتْنِ خلائقي وأنا بين الأصحاب.

 

والله إنَّني قد بهرني حلمُ هذا الكريم عني كيف يسترُني وأنا أتهتَّك، ويجمعُني وأنا أتشتَّت.

 

وغداً يُقال: مات الحَبْرُ العالِمُ الصالِحُ، ولو عرفوني حقَّ معرفتي بنفسي ما دفنوني.

 

والله لأنادينَّ على نفسي نداءَ المكشِّفين معائبَ الأعداء.

 

ولأنوحنَّ نوحَ الثاكلين للأبناء إذ لا نائحَ لي ينوحُ علي لهذه المصائبِ المكتومة، والخلالِ المُغطَّاة التي قد سترها مَنْ خبرها، وغطاها مَنْ علمها.

 

والله ما أجدُ لنفسي خَلَّةً أستحسنُ أنْ أقولَ متوسِّلاً بها: اللهم اغفرْ لي كذا بكذا.

 

والله ما التفتُّ قط إلا وجدتُ منه سبحانه براً يكفيني، ووقايةً تحميني، مع تسلُّط الأعداء.

 

ولا عرضتْ لي حاجةٌ فمددتُ يدي إلا قضاها.

 

هذا فعلُه معي، وهو ربٌّ غني عنّي، وهذا فعلي وأنا عبدٌ فقيرٌ إليه.

 

ولا عذرَ لي فأقول: ما دريتُ أو سهوتُ.

 

والله لقد خلقني خلقاً صحيحاً سليماً، ونوَّر قلبي بالفطنة، حتى إنَّ الغائباتِ والمكنوناتِ تنكشفُ لفهمي.

 

فواحسرتاه على عُمُرٍ انقضى فيما لا يُطابق الرضى.

 

واحرماني لمقامات الرجال الفطناء.

 

يا حسرتي على ما فرَّطتُ في جنب الله، وشماتة العدو بي.

 

واخيبة مَنْ أحسنَ الظن بي إذا شهدتْ الجوارحُ عليَّ.

 

واخذلاني عند إقامة الحجة.

 

سخِرَ واللهِ مني الشيطانُ وأنا الفطِن.

 

اللهم توبةً خالصةً من هذه الأقذار.

 

ونهضةً صادقةً لتصفية ما بقي من الأكدار.

 

وقد جئتُك بعد الخمسين وأنا مِن خَلَق المتاع.

 

وأبى العلمُ إلا أنْ يأخذ بيدي إلى معدن الكرم، وليس لي وسيلةٌ إلا التأسُّف والنَّدم.

 

فوالله ما عصيتُك جاهلاً بمقادر نعمِك، ولا ناسياً لما أسلفتَ من كرمِك، فاغفرْ لي سالفَ فعلي).

 

اللهم اغفرْ لابن عقيل، وسائر علماء المسلمين، وارحمهم، وارض عنهم، واجزهم خيرَ ما جزيتَ عبادَك الصالحين.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين