عالميَّة الرسالة بين النظرية والتطبيق

 


كان الوحي الإلهي قديّماً يتخيَّر بقاعاً من الأرض لينزل بها كما ينزل الغيث في مكان دون مكان، لكن بعثة محمَّد صلى الله عليه وسلم كانت نقلة جديدة بالعالم كلِّه، وتحولاً في حركة الوحي الإلهي على ظهر الأرض، إذ جاءت الرسالة الأخيرة لكل بشر يعقل ما يسمع، ثم هي قد صحِبت الزمان في مسيرته، فإذا انتهى جيل من الناس فإنَّ الجيل الذي يليه مخاطَب بها، مكلف أن يمشي في سناها.
والإجماع معقود بين المسلمين على عموم الرسالة وخلودها، ونُريد أن نلقي نظرة على الآيات التي دلت على عالميَّة الرسالة لنستخلص منها حكماً محدداً...
قال تعالى في سورة التكوير : [
فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ] {التَّكوير:26-28}. 
وقال في سورة القلم: [
وَإِنْ يَكَادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصَارِهِمْ لَمَّا سَمِعُوا الذِّكْرَ وَيَقُولُونَ إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ وَمَا هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ] {القلم:51-52}.
وقال في سورة سبأ:[
وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ] {سبأ:28}.
وقال في سورة الفرقان:[
تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا] {الفرقان:1}.
وقال في سورة الأنبياء:[
وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ] {الأنبياء:107}.
وقال في سورة يوسف :[
وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ وَمَا تَسْأَلُهُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ] {يوسف:103-104}.
وقال في سورة الأنعام: [
وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا القُرْآَنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ...] {الأنعام:19}.
وقال أيضاً في السورة:[
أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرَى لِلْعَالَمِينَ] {الأنعام:90}. وهذه الآيات كلها مكيَّة، أي أن عالمية الرسالة تقرَّرت منذ بداية الوحي، وفي الأيام التي كانت الدعوة تعاني فيها الأمرَّين.
كان القرآن يُقرِّر أنه رسالة للعالم كلِّه في الوقت الذي كان فيه أهل مكة يستكثرون أن يكون محمَّد صلى الله عليه وسلم رسولاً لهم وحدهم!!!.
ولم تنزل بالمدينة آيةٌ تتحدَّث عن هذه العالميَّة اكتفاء بما تمهَّد في صدر الدعوة إلا آية واحدة هي قوله جلَّ شأنه: [
مَا كَانَ محمَّد أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللهِ وَخَاتَمَ النَّبيينَ] {الأحزاب:40}. وختْم النبوة تقريرٌ لهذه العالميَّة فإن القارات الخمس إلى قيام الساعة لن يطرقها من السماء طارق، ولن يجيئها من عند الله رسول، وسيبقى كتاب محمَّد صلى الله عليه وسلم وحده صوت السماء بين الناس إلى أن يحشدوا للحساب، فيقال لهم: [ لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتَابِ اللهِ إِلَى يَوْمِ البَعْثِ فَهَذَا يَوْمُ البَعْثِ وَلَكِنَّكُمْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ] {الرُّوم:56}.


 وآية ختْم النبوَّة صدَّقتها الأيام المتتابعة، فها قد مضت أربعة عشر قرناً وما نزل من السماء وحي، وقد حاول الاستعمار الأوروبي أن يضع يده على مخبول في الهند وآخر في إيران؛ ليصنع منهما أنبياء يكابر بهما نبوَّة محمَّد صلى الله عليه وسلم، وهيهات هيهات فإنَّ الأوربيين أنفسهم احتقروا الرجل الذي صنعوه، فما تبع أحدهم نبيَّ الهند ولا نبيَّ العجم، وبدأت اللعبة تتكشف ويفرُّ عنها المستغفلون !! 


إنَّ الصباح العريض الذي بزغ مع رسالة محمَّد صلى الله عليه وسلم سوف يظل وحده النور الذي يغمر العالم، ويملأ الأفق إلى أن يأذنَ الله بانتهاء الحياة والإحياء.
وإنما لفتْنا النظر إلى أنَّ الآيات الناطقة بعالميَّة الرسالة مكيَّة كي ندحض فِرية لبعض المستشرقين الذين زعموا أنَّ محمَّداً صلى الله عليه وسلم بدأ عربيَّ الرسالة معنياً بقومه وحدهم، فلما نجح في إخضاعهم، أغراء النجاح بتوسيع دائرة الدعوة فزعم أنه للخلق كلهم!! وهذا تفكير متهافت بيِّن السُّخف، فقد رأيت بالاستقراء أن عالميَّة الرسالة تمَّ التصريح به في أوائل ما نزل من الوحي!!
ثم نسأل:
متى خضوع العرب لمحمَّد صلى الله عليه وسلم حتى يغريه النجاح بمزيد من التوسع؟ 


إن مكة التي طاردته لم تفتح له إلا قبل الممات بسنتين اثنتين، فأين استقرار النصر والتطلع إلى إخضاع الدنيا وهو لمَّا ينته من الجزيرة العربية نفسها؟؟!!
إن هذا الفكر الاستشراقي لم يلقَ حفاوة من عاقل، ولذلك نخلص منه لنقرر حقائق أخرى نابعة من هذه الحقيقة المؤكدة: أن محمَّداً رسول العالم من ربِّ العالمين، وأول ما نقرره: أن هذه الصفة انفرد بها محمَّد عليه الصلاة والسلام، فكلُّ الأنبياء من قبله محليُّون، رسالتهم محدودةُ الزمان والمكان، ابتداءً من آدم إلى عيسى.


والنصارى يرون أن رسالة عيسى عالمية، وينطلقون بها في كل مكان؛ ليبلغوها وينشروها، ونحن نحبُّ نبيَّ الله عيسى، ونعتقد أنه رسول حقِّ إلى بني إسرائيل خاصَّة: [وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالبَيِّنَاتِ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ] {الصَّف:6}.


على أنَّ النصرانيَّة التي تشيع بين الناس اليوم وتساندها قوى كثيرة تخالف رسالات السماء كلها؛ إذ هي فلسفة تجعل من عيسى إلهاً أو شبه إله يرسل الرسل وينزل الكتب ويغفر الذنوب ويحاسب الخلائق...
والنصرانية بهذا المفهوم المستغرب لا يعنينا أن تكون عالمية أو محلية لأنها شيء آخر غير ما ينزل به الوحي على سائر الرسل، قال تعالى لنبيه محمَّد صلى الله عليه وسلم: [
وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ] {الأنبياء:25}. 


إنَّ هذه النصرانيَّة الجديدة لا تتَّصل بعيسى الذي مهَّد لمحمَّد صلى الله عليه وسلم كما لا تتَّصل بعيسى الذي بلَّغ تعاليم إبراهيم وبنيه، ومن ثَمَّ فهي - في نظرنا- منهج بشري مستقل بأفكاره عمَّا قبله وعمَّا بعده، ورسل الله يصدِّق بعضهم بعضاً ويُمهِّد السابق للاحق ما استطاع. 


ورسالة محمَّد صلى الله عليه وسلم أقامت مفهوم العالميَّة فيها على أنَّ الديِّن واحد من الأزل إلى الأبد، وأن الأنّبياء إخوة في التعريف بالله والدلالة عليه واقتياد البشريَّة إليّه، وأنَّ القرآن الكريم جمع في سياقه الباقي كل ما تناثر على ألسنة النَّبيين من عقائد وفضائل، ولذلك فإن الإيمان بهم جميعاً مطلوب والكفر بأحدهم انسلاخ من رسالة محمَّد صلى الله عليه وسلم نفسه، ومن الطبيعي أن تبدأ الرسالة عملها في بقعة ما من أرض الله، وقد شرع النَّبيُّ الأميُّ محمَّد صلى الله عليه وسلم يعلم الأميِّين من عَبَدة الأوثان، ويرشد الحائرين والجاحدين من أهل الكتاب وما بعد تسعة عشر عاماً من الدعوة الدائبة، استطاع أن يظفر من الوثنية الحاكمة بحقِّه في الحياة وحق من يتَّبعونه في العيش بدينهم والتجمُّع عليه.


عندما نال هذا الحق في معاهدة الحديبية وأصبح له موضع قدم يستقر فيه ويدعو منه، أخذ يرسل إلى أهل الأرض يبلغهم الحق ويفتح عيونهم على سناه.
ومَن أهل الأرض يومئذ؟ الروم غربي الجزيرة وشمالها، والفرس في الناحية المقابلة، وحكام آخرون يعيشون في جوارهم أو يدورون في فلكهم.
هل كان وراء الرومان من يفهمون الخطاب شمالي أوربا أو وسطها؟ أو وسط أفريقيا وجنوبها؟ كانت هناك قبائل السكسون والجرمان والغالة والوندال، وقبائل أخرى مشابهة لها في أفريقية، وكانت هناك وراء الفرس شعوباً جاء وصفها في قصة ذي القرنين في القرآن الكريم بأنهم لا يكادون يفقهون قولاً.


على أية حال فإنَّ النَّبي صلى الله عليه وسلم المبعوث للعالم أرسل إلى امبراطور الروم وملك الفرس، وحاكم مصر، ونجاشي الحبشة، وإلى الأمراء المنتشرين حول الجزيرة العربية يدعوهم إلى توحيد الله واعتناق الإسلام. لعله بدأ بالجيران الذين يلونه، فبلغ أمر ربه حتى إذا أتمَّ هدايتهم تجاوزهم إلى من يلونهم من أجناس البشر.


أو لعل الفكر البشري في هذه الآونة لم يبلغ درجة الوعي وأهليَّة الخطاب إلا في هذه البقاع المتحضِّرة والتي ظهرت فيها جمهرة الرسالات السماوية من قديم.
على أيَّة حال فإن اليقظة الإنسانيَّة التي بدأت في جزيرة العرب ما كانت نهضة جنس متفوِّق ولا أطماع زعيم متطلِّع، بل كانت حركة قبيل من الناس اختارتهم العناية العليا ليربطوا جماهير البشر بالله الواحد، وليسيروا في هذه الدنيا وفق هداه لا وَفْق هواهم:[
كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ العَزِيزِ الحَمِيدِ اللهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَوَيْلٌ لِلْكَافِرِينَ مِنْ عَذَابٍ شَدِيدٍ] {إبراهيم:1-2}.


وأكذبُ الناس على الله وعلى عباده من يزعم الإسلام طوراً من أطوار البعث العربي، إن هذا الكلام لا يساويه في الرخص والغثاثة إلا ما تضمنه من إفك وتضليل، فإنَّ محمَّداً عليه الصلاة والسلام رفض رفضاً باتاً أن يكون للعِرق، أو اللون أو القوة أو الثروة أي رجحان في موازين الكرامة الإنسانيَّة، والمحور الذي دار عليه الإسلام هو: التوحيد في العبادة، والتشريع والوجهة والولاء، [وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ العَلِيمُ] {الأنعام:115}. وقد قلنا، ولا نزال نقول: إنَّ الله ربَّى محمَّداً صلى الله عليه وسلم ليربِّي به العرب، وربَّى العرب بمحمَّد عليه الصلاة والسلام لِيُربِّي بهم الناس، فرسالة العرب أن يكونوا جسوراً لهدايات السماء، وأن يعلِّموا الخلق ما تعلموه من الخالق.
وإذا كانوا تلامذة لخاتم الرسل فهم بما درسوا أساتذة للشعوب الأخرى، تتلقَّى عنهم وتستضيئ بهم...


وهذه المكانة للأمَّة العربية مكانة عالية حقاً، بيْد أنها لا تقوم على الدعوى، بل على البلاغ، ولا تقوم على البطالة بل على التضحية، وذلك معنى قول الله تبارك اسمه: [هُوَ سَمَّاكُمُ المُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآَتُوا الزَّكَاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللهِ هُوَ مَوْلَاكُمْ فَنِعْمَ المَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ] {الحج:78}.
وقد قامت دولة الإسلام بدورها العالمي، هذا على عهد النبوة وأيام الخلافة الراشدة، وتدافع التيَّار إلى مداه أيام الأموييِّن والعباسيِّين والعثمانيين، وإنْ كان هذا التيّار قد شابَهُ من الكدر والدَّخَن ما أزرى به وحطَّ قدره حتى توقف آخر الأمر.


والمسلمون في هذا العصر يكادون يجهلون أنَّ لهم رسالة عالميَّة، بل إنَّ حياتهم وَفْق شرائع دينهم وشعائره موضع ريبة، وقد تكون موضع مساومة.
وأذكر أن حواراً دار بيني وبين الأستاذ علي أمين بعدما كتب يستنكر أذان الفجر ، ويزعم أنه يزعج النيام المستريحين!! قلت له: إنَّ إيقاظ الناس للصلاة مقصود قصداً، وفي أذان الفجر كلمة تقول: الصلاة خير من النوم! قال: من أراد الصلاة فليشتر منبِّهاً يوقظه ليصلي، قلت له: إنَّ جمهور المسلمين - وهم كثرة هذا البلد - يريدون الصلاة علانية، ويريدون أن يصبغوا الحياة الاجتماعية بها، وأن ينظموا نومهم وانتباههم على أوقاتها، فإذا شاء الكسالى غير ذلك فليتواروا بإثمهم لا أنَ يفرضوه على المجتمع، ويطلبوا من المؤمنين التواري بدينهم.
وأشهد أنَّ الرجل لان وتأثر واستكان، وأرجو أن يكون قد تاب ومات مغفوراً له، وإنَّما ذكرت هذا الحوار ليعرف من جهل مبلغ ما انحدرت إليه أمتنا.


إنَّ الشيوعيَّة تريد أن تكون نظاماً عالميَاً، وكذلك الماديّة والاباحيّة، وكذلك الصهيونيّة والصليبية، أما الإسلام فإن طبيعته العالميَّة يراد إنكارها، وإذا تمَّ ذلك فإنَّ وجوده المحلي ينبغي الخلاص منه والإجهاز عليه...
وأريد أن نعرف: من نحن؟ وما ديننا؟ وما هدفنا؟ وما طبيعية جهادنا؟ 
إننا وَرَثَة الإسلام وحملته وأصحاب الحضارة الوحيدة التي تعترف بالدنيا والآخرة، والروح والجسد، والعقل والعاطفة.
وفي قرآننا وسنَّة نبيِّنا صلاحنا وصلاح العالم من حولنا، وقد هُنَّا على أنفسنا فكان طبيعياً أن نهون على غيرنا، وزهدنا في ديننا فكان طبيعياً أن يزهد العالم فيه.


وقد بدأت في الأفق تباشير عودة ناجحة إلى هذا الدين العظيم، فلنصور بدقة طبيعة النور الذي خصَّنا الله به، طبيعة الرسالة التي شاء الله أن تُحقَّ الحقَّ وتُبطل الباطل، وتَهدي الحيارى في المشارق والمغارب، ويَفرض علينا هذا المعنى أموراً ذات بال...
أولها: ما دام محمَّد عليه الصلاة والسلام للعالم كلِّه وليس للعرب خاصَّة فيجب على العرب – وهم الذين تحدَّث محمَّد صلى الله عليه وسلم بلغتهم وكُلِّفوا بنقل رسالته إلى غيرهم – يجب عليهم أن يوصلوا هذا القول إلى كلِّ قبيل من الناس وبكلِّ لغة يتمّ التفاهم بها.
أيّ أنَّه يجب عليهم أنَّ يُتقنوا كل اللغات العالميَّة، وما استطاعوا من اللغات المحليَّة، وأنّ يودعوها خلاصة كافية هادية من تعاليم الإسلام في مجال العقيدة والخلق والعبادة وشتى أنواع المعاملات، وأن يذكروا بدقة ولطف الفروق الكبيرة بين أصول الإيمان عندنا وعند أهل الأديان الأخرى سماوية كانت أو أرضية...


إنَّ هذا الواجب لم يكن منه بُدّ حتى لو كان الميدان خالياً لنا وحدنا، فكيف وهناك أجهزة عالمية مخوفة تخصَّصت في تحقير الإسلام وإهانة نبيِّه عليه الصلاة والسلام؟ فكيف وقد تآمرت على الإسلام شتى القوى، وتألب ضده خصوم خبثاء، يصطادون الشبه ويتلمسون للأبرياء العيوب؟.
إن الاستعمار سخَّر أجهزة إلحاديَّة وصليبيَّة سبقتنا إلى أجيال كثيفة من الزنوج، والجنس الأصفر، وتركت في نفسه سموماً ضدَّ محمَّد عليه الصلاة والسلام ودينه، وانتهزت الصمت الذي خيَّم على أجهزة الدعاية الإسلاميّة والسلبيّة المشينة التي لذنا بها، وراحت تكذب وتكذب حتى نجحت في تلويث سمعتنا، وقدرت على غرس تديُّن مختل الأصول، مضْطرب السلوك، وأمكنها بسهولة أن تصدَّ عن سبيل الله، وتردم معالم الصراط المستقيم.


 إنَّ ذلك يوجب علينا الإحساس المضاعف بخطئنا وتخلفنا ويحملنا عبْءَ المسارعة إلى تعليم الجاهل، ومراجعة المخدوع، وتعريف الناس بربهم الواحد الأحد الفرد الصمد، وربطهم بالدين الذي حمل رايته جميع الأنبياء، ثم نقَّاه وشدَّ دعائمه وثبَّت أهدافه النَّبي الخاتم محمَّد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم.
والأمر الثاني: المتَّصل بعالميَّة الرسالة، يرجع إلى اللغة العربية، فلغة الرسالة الخالدة يجب أن تتبوَّأ مكانةً رفيعةً لدى أصحابها ولدى الناس أجمعين، فإنَّ الله - باختياره هذه اللغة وعاء لوحيه الباقي على الزمان – قد أعلى قدرها وميَّزها على سواها .
 والواقع أن اللغة العربية مهاد القرآن وسياجه، فإذا تضعضعت وأقصيت عن أن تكون لغة التخاطب والأداء، ولغة العلم والحضارة، أوشك القرآن نفسه أن يوضع في المتاحف، ولهذه الغاية الخاسرة تعمل فئات غفيرة من المستعمرين وأذنابهم، وما أكثر أولئك الأذناب في الجامعات والمجامع ودور الإذاعات والصحف وغيرها!!


إن آباءنا عليهم الرضوان نشروا اللغة العربية بكلِّ الوسائل المتاحة لهم، وما تأسَّست مدرسة لخدمة الديِّن إلا انقسمت علومها بين مناهج الشريعة ومناهج اللغة والأدب...
 ويلاحظ الآن انكماش مفزع في هذا الميدان، ورواج سمْج للَّهجات العاميَّة، والمصطلحات الأجنبيَّة، والترجمات الركيكة، والكلمات الدخيلة...
واللغة العربية لا تخدم بالحماس السلبي، بل لابدَّ من إعادة النظر في شؤون شتى تتَّصل بكيانها وتعاليمها.


ولنفرق من الآن بين طرق تعليمها للتلامذة الأجانب، ولنبتكر أساليب ميسورة لتدريس المصادر وتصريف الأفعال وجموع التكسير وأنواع المترادفات وغير ذلك ممَّا يعانيه طلاب العربية...
إنَّ هناك لغات لم يشرفها الله بوحي، ولم تصحب حضارة إنسانيَّة مشرقة، يخدمها أبناؤها بذكاء نادر !! فما دهى العرب حتى تركوا لغتهم توشك أن تكون من اللغات الميتة أو الثانوية في هذه الدنيا؟


إننا عجزنا عن جعل اللغة العربية لغة أولى بين الألف مليون مسلم الذين يعتنقون الإسلام، وهذا وحده فشل ذريع نؤاخذ به يوم الحساب، ويرجع هذا الفشل أنَّ العرب أنفسهم لا يُجِلُّون لغتهم، بل لقد استطاع الاستعمار الثقافي أن يكرِّهها لهم أو يحقِّرها لديهم!! فأيُّ بلاء هذا؟ والمطلوب الآن للفور إقصاء اللهجات العامية والرطانات الأعجمية عن جميع منابر الصحافة والإعلام، وإعادة الحياة إلى اللغة الفصحى في كل محفل.
وأكرر مطلباً آخر ذكرته في أحد المؤتمرات، وهو إنشاء مدارس وإرسال بعثات لنشر اللغة العربية وحدها أي دون ربط اللغة بالدِّين، فإنَّ هذا التعليم المجرَّد سيوسع القاعدة الثقافية للغة القرآن، وسيكون يوماً ما رافداً من روافد الحق والإيمان.


والأمر الثالث والأخير في عملية الدعوة: يتَّصل بالوضع الأدبي والمادي داخل الأمة الإسلاميَّة نفسها، إنَّ الخلق الزاكي لغة إنسانيَّة عالميَّة تُعجب وتقنع، وبهذه اللغة تفاهم الصحابة والتابعون مع الشعوب التي عرفوها وعرفتهم فدخل الناس في دين الله أفواجاً.
أي إنَّ القدوة الحسنة فرديَّة كانت أو جماعيَّة تغرس احترام العقيدة والحفاوة بها، وهذه القدوة ليست دوراً تمثيلياً يؤدَّى بالخداع واجتذاب المشاهدين!! كلا، كلا. فحبل الكذب قصير.
 إن هذه القدوة هي الحلاوة في الثمرة الناضجة، أو الرائحة في الزهرة العاطرة، أي: هي نضج الكمال الذاتي، وقد شاء الله أن يؤتي السلف الصالح أنصبة جزلة من هذا الحسن الذاتي ففتحت لهم المدن العظام أبوابها، وألقت إليهم الجماهير بقيادها.
وإنني أشعر اليوم بغضاضة شديدة حين أرى السائحين والسائحات، يجوبون بلادنا، ويدرسون أحوالنا، ثم يتجاوزوننا بقلة اكتراث أو باستهانة بالغة.
إنهم لا يرون – فيما يشهدون – أثر الإسلام الحق في نظافته وسمُّوه، بل يرون شعوباً أقلَّ منهم كثيراً في المستوى الحضاري ولا أقول: في المستوى الخلقي المعتاد.


وتلك أحوال تصد عن الإسلام، ولا تغري باعتناقه، وعالميَّة الإسلام تفرض على أتباعه أن يقدِّموا من سلوكهم الخاص والعام نماذج جديرة بالإكبار، أو على القليل جديرة بالسؤال عن حقيقة الإسلام لمن لم يعرفوا هذه الحقيقة، وما أكثرهم في أرض الله...


وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم 


المصدر: أبحاث المؤتمر العالمي لتوجيه الدعوة وإعداد الدعاة، الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة، 24-29/7/1397هـ.
 

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين