عاشق من طراز غريب

بقلم عبد الحكيم الأنيس

للنَّاس في هذه الدنيا منازعُ ومشارع، وشؤونٌ وفنونٌ، ولهم - فيما يعشقون - مشارب! وحديثنا اليومَ عن عاشقٍ وَحَّد في العشق ولم يُشرك، والشركُ مذمومٌ في كل شيء حتى في هذه المسالك، ولعلك بلغك - عزيزي القارىء- قول القائل:
تركتُ حبيبَ القلب، لا عن ملالةٍ
ولكن أتى ذنباً دعاني إلى التركِ
أراد شريكاً في المحبة بيننا
وإيمانُ قلبي لا يميل إلى الشركِ
 
هذا العاشق هو العلامة الأديب الجامع الأريب القاضي ثم الوزير جمال الدين أبو الحسن علي بن يوسف القِفْطي المصري ثم الحلبي ، المولود بقفط سنة (568)، والمتوفى بحلب سنة (646).
 
لقد عشق هذا الرجلُ الكبيرُ (الكتاب) عشقاً مدهشاً، فرَّغ له قلبَه، ومنحه حُبَّه، وعاش له وحده، فلم يقترب من (النساء)، ولم يعرف تلك الأشياء.
 
يقول شيخُنا العلامة الفقيه المحدِّث  الأديب الحجة الأستاذ عبد الفتاح أبو غدة عن هذا العاشق المتيم:
" إنَّه لما أقام بحلب، واختارها له وطناً وسكناً، كان يسعى كُلَّ السعي في شراء الكتب واقتنائها وجلبها من البلدان البعيدة، واستطارت شهرتُه بهذا الغرام العلمي في الآفاق، فتوافد عليه الورّاقون والنسّاخون وباعةُ الكتب من كل حدب وصوب، حتَّى اجتمعتْ له مكتبةٌ جامعةٌ نادرةُ المثال، نافس في اقتنائها، وبذل النفيس والكثير في شرائها، وأنفق عمره في حفظها وتنظيمها والاقتباس منها.
 
وغدت دارُهُ بحلب مَجْمعاً من مجامع العلماء والأدباء، وقبلةً للوراقين والنساخين ودلالي الكتب، يجلبون له الكتبَ والأسفار النفيسة، بخطوط مؤلفيها، أو بخطوط أكابر العلماء المشهورين، وكتابه "إنباه الرواه على أنباه النحاه" طافح بالحديث عن اقتنائه تلك النفائس وبحثه عنها، وكان يبذل فيها الأثمان العالية، ويجزل فيها العطاء، فتتوجه إليه من شتى البقاع والأصقاع .
 
وله في غرامه بالكتب أخبار تُعَدُّ من العجائب الغرائب، قال صديقُه وصاحبُه العلامة ياقوت الحموي في ترجمته في "معجم  الأدباء"، وقد عاشره طويلاً:
 
" وكان القاضي جمّاعةً للكتب، حريصاً عليها جداً، لم أر مع اشتمالي على الكتب، وبيعي لها وتجارتي فيها: أشدَّ اهتماماً منه بها، ولا أكثر حرصاً منه على اقتنائها، وحصل له منها ما لم يحصل لأحد".
وقال شيخُنا العلامة الطباخ في "إعلام النبلاء بتاريخ حلب الشهباء" في ترجمته:
 
"وقال الصفدي في تاريخه المرتّب على السنين، في حوادث سنة 646، في ترجمة الوزير القفطي المذكور:
 
وله حكاياتٌ عجيبةٌ في غرامه بالكتب، منها أنَّه وقَعَ له نسخةٌ مليحةٌ من كتاب "الأنساب" لابن السمعاني بخطه، يعوزها مجلدٌ من أصل خمسة، فلم يزل يبحث عنه ويطلبه من مظانّه، فلم يحصل عليه!
وبعد أيام  - من يأسهِ من الحصول عليه - اجتاز بعضُ أصحابه بسوق القلانسيين بحلب، فوجدَ أوراقاً من كتاب "الأنساب" المفقود عنده، فأحضرها إليه، فأحضرَ الوزيرُ الصانع، وسأله عنه، فقال: اشتريتُه في جملة أوراق، وعملتُه قوالب للقلانس!
 
فحدث عند الوزير من الهمِّ والغمِّ والوجوم ما لا يُمكِنُ التعبيرُ عنه! حتَّى إنَّه بقي أياماً لا يركب إلى القلعة - مقرِّ الحكم والوزارة- وقطع جلوسَه، وأحضرَ مَنْ ندب على الكتاب كما يُنْدبُ على الميت المفقود الميؤوس منه!
وحضَرَ عنده الأعيانُ يسلُّونه، كما يُسلَّى مَنْ فُقِدَ له عزيز!
والحكايات الدالةُ على عشقه الكتب كثيرة".
قلتُ:
فهل رأيتم أو سمعتم بخبرٍ كهذا الخبر! رجلٌ يُسلى عن "كتاب" كما يُسلى مَنْ فُقد له عزيز حبيب! ويُحضِر مَنْ يندب على "الكتاب"!
فالحمد لله حمداً يليق بجلاله أنْ جعَلَ في تاريخنا رجلاً مثله، ولعلَّ الزمانَ يخرج لنا أمثاله رجالاً يعرفون أنَّ خيرَ الدنيا والآخرة كامنٌ بين  صفحات "الكتاب"، وأنَّ الحضارةَ تبدأ من خلال سطوره.
 
 
 

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين