ظلام التنوير(١)

مقدمة

إن من أخطر حروب الغزو الثقافي حرب المصطلحات.. فقد عمل الغزاة (غزاة الفكر) جاهدين لترسيخ ألفاظ وتعابير باستخدام آلتهم الإعلامية الضخمة بتكرارها والإصرار عليها وتزيينها للمتلقين ليستقر في الأذهان مدلول ألفاظها الجميل مغطياً على حقائقها القبيحة لِيَلِجَ المغترّ بها من باب، ظاهرُه الرحمة وباطنُهُ العذاب.

ومن تلك المصطلحات التي راجت وشاعت (التنوير) و(التنويريون) وأُريدَ من ذلكم اللفظ أن يرتاح إليه السمع ويهش إليه القلب لما في معنى (النور) من الإشراق والأمل وتبديد العتمات. وهل يكون مقابل النور إلا الظلام وهل من يجابه (التنويريين) إلا (الظلاميون)..

وقد اتضح لكلّ ذي عينين باصرتين وأذنين سامعتين وقلبٍ واعٍ أنّ الإسلام العظيم ما زال هَدَفاً لسهام الحاقدين الذين يريدون أن يطفئوا نور الله بأفواههم منذ بعثة محمد صلى الله عليه وسلّم إلى يومنا هذا وسيبقى إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها لأن الصراع بين الحق والباطل لن ينتهي ما دام في الناس محقون ومبطلون.. ولو أن معشار هذه الحرب الضروس على الإسلام صُبّ على أي فكر وضعي لاقتلعه من جذوره فصار هشيماً تذروه الرياح في المشرقين، ولأضحى أثراً بعد عين، ولكن هيهات أن يبلغ شياطين الإنس والجنّ ما يأملون، وخصيمهم ذو القوة المتين:

زعمتْ سَخينةُ أنْ ستَغْلبُ ربَّها *** ولَيُغْلَبَنَّ مُغالِبُ الغَلّابِ

ولمّا استيأس الغزاة من هزيمة الإسلام بالمواجهة المباشرة أرادوا أن يكيدوا له كيداً فأوعزوا إلى صبيانهم وسفهائهم أن يلبسوا لبوس المفكرين المشفقين عليه ليخرجوه من (ظلام) التشدد والتعصب إلى (نور) التسامح والتحرر، وسمَّوهم (التنويرين) إشعاراً بأنهم أتوا بالنور الساطع والبرهان القاطع، فلم يتركوا ثابتاً من ثوابت الإسلام إلا حاولوا هدمه فإن لم ينهدم فحسبهم أن يزعزعوه ويقلقلوه، زاعمين أن المسلمين لم يفقهوا دينهم ولم يفهموا قرآنهم من لدن بعثة محمد صلى الله عليه وسلّم حتّى يوم الناس هذا، وأن هؤلاء (التنويرين) قد فُتحَ عليهم ففهموا ما لم يفهمه الجهابذة من علماء المسلمين عَبْر العصور.. فأنتَ ترى أنهم لم ينكروا نبوة محمد صلى الله عليه وسلّم ولا أن القرآن كلام الله كي لا ينفر منهم المسلمون ابتداءً.. لكنهم إذا فتّشت خبيئة كلامهم وما بين سطور أفكارهم علمتَ يقيناً أنّهم لا يؤمنون بنبي ولا بقرآن وربما لا يؤمنون بالله أصلاً لكنّهم اتخذوا تظاهرهم بالإيمان حبالة صيْد، وعدّة كَيد، حتّى إذا اطمأنّ لهم من قَلّت بضاعتُه من العلْم، وزَيّن له هواه أباطيل الوهْم، سلخوه من الإسلام رويداً رويداً فلم يبق له منه إلا اسمُهُ دون مسمّاه، ولفظُهُ دون معناه.. وقد اغترّ بهم للأسف كثير من هؤلاء الأحداث حتى دفعوهم إلى شفير الإلحاد.. فالله المستعان أن نبيّن في سلسلة منشورات بعضاَ من حقيقة هؤلاء (الظلاميين) وأنهم ليسوا أكثر من أبواق يرددون شبهات المستشرقين بعينها التي أثاروها منذ أوائل القرن الماضي وما قبله بقليل.. فهؤلاء المستشرقون من أمثال اليهودي المجري غولد تسيهر، والبريطاني هاملتون جب، والألماني جوزيف شاخت، وغيرهم قد أرسلتهم الدول الاستعمارية التي احتلت البلاد الإسلامية لدراسة تراث الإسلام الضخم كي ينبشوا فيه فيستخرجوا ما يمكن أن يزعزع عقائد المسلمين من الشبهات والمطاعن لعلم تلكم الدول أنه لا يمكن السيطرة على هذه الأمة العظيمة إلا إذا وجّهوا سهام كيدهم إلى قلبها النابض الذي يمدها بأسباب الحياة والقوة ألا وهو إسلامها الذي لم يكن لها عزّ ولا وزن بين الأمم إلا به.. ولا يُنكر أنّ هؤلاء المستشرقين كانوا علماء أفنوا حياتهم في البحث والتنقيب ولا أنهم قدّموا بعض الخدمات العلمية للإسلام.. لكنهم خلطوا السمّ بالعسل وكان شغلهم الشاغل أن يثبتوا بطريق مباشر أو غير مباشر أن الإسلام هو ظاهرة تاريخية حضارية علمية وما شئتَ من هذه الألقاب إلا أن يكون ديناً موحى به من الله العظيم إلى رسوله الكريم..

ثمّ جاء هؤلاء (التنويريون) فرددوا هذه الشبهات القديمة والمطاعن السقيمة كالببغاوات إذ لم يكن لهم من العلم ما لمعلميهم الأوائل فاكتفوا بالترداد والتكرار لما قالوه، وإعادة نشر ما كتبوه، وإذا أمدّ الله في الأجل، وأعان على العمل، فسنكشف ذلك بالدليل والبرهان، لينجلي صبح اليقين عن ظلام (التنوير) فاللهم يسّر وأعن.

الدين الجديد

أدبرْ عن الشرق إن الشرقَ (تكفيري)=واستقبل الغرب تظفرْ باسم (تنويري)

دعْ مالكاً وابن إدريسٍ وأحمدَ والـ=ـنُّعمان وافزعْ إلى دين (الشحاريرِ)

تجدْ هناك (قراءاتٍ معاصرةً)=وتلقَ ما شئت من فقْهٍ وتفسيرِ

أئمةٌ أبصروا ما لم يَرَ العُلَما=ليُخرجونا من الظلماء للنورِ

ما ضرّهم عُجْمةٌ تبدو بمَنْطِقِهمْ=وأن علمَهُمُ حَسْوُ العصافيرِ

وحسبُهم أنهم قد أبدعوا لغةً=ما فرّقتْ بين منصوبٍ ومجرورِ

وأنهم علّمونا أنّ ما تركَ=الأجدادُ فَهْوَ خرافات الأساطيرِ

فَكِلْ بمِكيالِ (كَيّالي) إذا اشتبهتْ=لكَ الأُمورُ وبِعْ عُسراً بتيسيرِ

وفي الكتاب إذا ما آيةٌ غَمَضتْ=عليكَ يوضِحُها تغريدُ (شحرورِ)

هذا الجديدُ فدعْ عنكَ القديمَ وخُذْ=فرائدَ العلمِ من تخليطِ مخمورِ

 

جميع المواد المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين