طلاقة الوجه

 
 
 
كامل محمد أبو العينين
 
عن أبي ذر رضي الله عنه قال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا تحقرن من المعروف شيئاً، ولو أن تلقى أخاك بوجه طليق) رواه مسلم.
في هذه الكلمات القليلة التي تحدث بها نبي الإسلام صلى الله عليه وسلم تنتظم نواميس الأخلاق، وتقود الحياة والأحياء إلى خير ما يتمناه المصلحون، فأنت ترى دعوة صريحة واضحة إلى المعروف، ومطالبة لكل إنسان في الحياة بعمل هذا المعروف، ونهى عن احتقار أي نوع من أنواع المعروف، وخاتمة توجيهية رائعة تبين أن كل مخلوق في استطاعته أن يبذل المعروف من غير أن يكلفه ذلك تضحية مال، ولا تضحية جاه، وذلك بأن يلقى أخاه بوجه طليق، وإني لمحدثك الآن عن طائفة من الناس، أغدق الله عليهم النعم و جعل حياتهم ميسرة لهم في ما يشاءون من رغد وصفو، يجري عليهم في الصباح وفي المساء بكل ما يريدونه، ولكنهم لم يذكروا آلاء الله، ولم يتدبروا في حكمته فأخذتهم النشوة، وغرقوا في المال، وعبوا من بحر هذه النعم، ثم عصبوا عيونهم، وصموا آذانهم فلم يبصروا طريق المعروف، ولم يسمعوا منادي الخير، ولم يبذلوا من مالهم، ولم ينفقوا من جاههم ما يحفظه لهم الوطن بالخير والإجلال، ويدخره لهم الله يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى له بقلب سليم.
تعرفهم هاربين من ميادين الصالحات ما دام ذلك يكلفهم البذل والإنفاق، فإن احتاجت القرية إلى بناء مسجد أو تشييد مؤسسة صحية، أو معاونة أسرة أخنى عليها الزمن وجارت عليها الأيام فأبدلتها بعد العز ذلاً، وحدت الفقراء يسارعون في الخيرات، وهم لها سابقون، ووجدت مع الخزي والأسى فريقاً ممن حدثتك عنهم ووصفتهم بالنعمة والرغد ينكمشون في بيوتهم، أو يفرون من بلادهم، حتى لا يشاركوا في هذا الخير، ولا يتعاونوا على ذلك البر، و ربما وجدت الواحد منهم يخزل الآخرين، ويسفه القائمين بالدعوة إلى المعروف، فلا هو أعطاهم مما أعطاه الله، ولا هو كف عنهم تعويقه وأذاه، أولئك قوم غلبت عليهم شقوتهم، وكره الله انبعاثهم للخير، فثبطهم وأصمهم، وأعمى أبصارهم.
وطائفة أخرى من الناس متعهم الله با لجاه والمجد، والمراكز الاجتماعية التي ترفع أقدارهم وتعلي شأنهم فهم يعيشون بين الناس كأنهم من خلق آخر غير هذا الخلق، كأنهم من معدن النور، وغيرهم من الماء والطين، يؤذيهم غاية الإيذاء أن يتقدم إليهم مظلوم يطلب مساعدتهم في الانتصاف، أو أن يتقدم إليهم فقير عاطل يرجو فتح باب من أبواب العمل يعود عليه برزقه ورزق أسرته من طريق حلال، فلا يجدون في جوانبهم قلوباً رحيمة، ولا نفوساً كريمة، وإنما يجدون سداً للأبواب المفتحة وتعويقاً عن الوصول إلى ما يعينهم على العيش ويحميهم من الذل والهوان، و ربما ضاق بعض أصحاب الجاه والمركز الاجتماعي الكبير بإنسان يمد يده للسلام، أو يحييهم بالابتسام، فيعتبرون ذلك جرأة واقتحاماً ما كان يليق بالمساكين أن يقدموا عليهم ولابد من إهمال رد التحية، وتتأسى تلك الأيدي المعدودة للمصافحة والسلام، ولو تدبر هؤلاء المغرورون لعلموا أن الله يعز من يشاء، ويذل من يشاء، وأنهم إنما يمهلهم حتى يلجوا في عثارهم، ويتخبطوا في ظلمات كبريائهم حتى إذا سلط عليهم بطشه أذلهم وأخزاهم، وأخذ بحق العباد المغلوبين المستضعفين.
ومن الناس من تدخل عليه بيته أو مكان عمله لا تبغي منه نفعاً ولا ترجو أن يدفع عنك شراً، فما يكاد يراك حتى ترى وجهه قد انقبض، وملامحه قد تغيرت، وبدا لك كأنه يستعد لمصارعة عدو في معركة قتال، إن سلم عليك فبأطراف أصابعه، وإن كلمك فإنما يتحرى الاختصار والاقتضاب، وإن سألته عن صحته الغالية، أو عن مزاجه العزيز تعمد أن يهمل الرد على ما تقول، وأحياناً يخاطبك وهو ملتفت إلى غيرك أو متصنع أنه يقرأ في صفحات ويكتب كلمات، مما يشيع في نفسك الشعور بالنقص والذل، ويكسر خاطرك، ويلزمك أن تقوم ذليلاً بعد أن دخلت عزيزاً كريماً، وتلك خسة في بعض النفوس تأبى إلا تشيع كما تشيع الرائحة الخبيثة فتؤذي الأنوف مهما حاولت أن تصب عليها خلاصة العطر أو أن تنثر عليها أوراق الزهر، نعم. هي خسة لا تزال بصاحبها حتى تنفر منه الناس ويهجره المجتمع ويتركه في الهاوية التي اختارها لنفسه وعاش من أنانيته وأحقاده في جب عميق.
ومن الناس من شرح الله صدره للهداية، ووفقه للخيرات، وأراد له أن يكون سعيداً محبوباً بين الناس فرزقه طلاقة الوجه، وحسن اللقاء، تدخل عليه في أي وقت من الأوقات فتجده مهذباً في استقبالك، كريماً في لقائك تنظر إلى وجهه فيغريك انطلاقه بانطلاق نفسك، وتسمع حديثه فإذا به يمتص آلامك ويزيح عنك أثقالك ويجمل لك الحياة، ويمدك بالقوة الروحية التي تدفعك دفعاً إلى الصبر والمثابرة وتمنحك الآمال... كل ذلك في غير تصنع ولا نفاق وإنما هي طيبة صافية تنبع من نفس صافية، مقتدياً في ذلك بنبي الإسلام عليه الصلاة والسلام، مهتدياً بقول القرآن الكريم في هذا النبي العظيم: [وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ القَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ] {آل عمران:159}. ومثل هؤلاء هم مصابيح الحياة، وهم الممتعون في الدنيا برضاء الناس ورضاء الله تعالى، ولهم جنات تجري من تحتها الأنهار [يَوْمَ لَا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئًا وَالأَمْرُ يَوْمَئِذٍ للهِ] {الانفطار:19}.
وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم.
المصدر: منبر الإسلام السنة الثامنة شوال 1371 العدد العاشر.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين