طرق حديث زمارة الراعي وعلله

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم وبارك على خاتم الأنبياء والمرسلين سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين..وبعد:

فهذا جزء لطيف وتصنيف ظريف ضمنته الكلام على طرق الخبر الوارد عن ابن عمر رضي الله عنهما في قصة زمارة الراعي والكشف عن علله ونقد أسانيده وفحص متونه، مجيبا سؤال من سأل عن تصحيح بعض أئمة هذا الشأن له كالعلامة الألباني رحمه الله وغيره.

وقد كنت كتبت تعقيبا على أحاديث من تعليق صاحبنا الشيخ المحدث الدكتور أحمد بن علي الحندودي الغامدي وفقه الله، على المعجم الصغير للحافظ الإمام أبي القاسم الطبراني رحمه الله نقدت فيه كلام صاحبنا الشيخ وتعقبته في تصحيحه للخبر، ثم جرى بيني وبين بعض الفضلاء بحث فيه وتكرر السؤال عن ثبوته أثرا ورواية، ودلالته نظرا ودراية، فأفردت هذا الجزء في الجواب عن ذلك وتحقيق هذه المسالك، وبالله التوفيق ومنه أستمد العون على التحقيق.

فصل في طرق الخبر وتخريج وجوهه

روى نافع أن ابن عمر رضي الله عنهما سمع صوت زمارة راع، فوضع أصبعيه في أذنيه وعدل راحلته عن الطريق وهو يقول: يا نافع أتسمع؟ فأقول نعم، فيمضي حتى قلت: لا، فوضع يديه وأعاد راحلته إلى الطريق وقال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وسمع صوت زمارة راع فصنع مثل هذا.

أخرجه أحمد 2/8/38 وأبو داود 4924 وا بن سعد 4/162 وابن حبان 693 والطبراني في (الأوسط)6767 و (الصغير) و (مسند الشاميين) 911 وابن أبي الدنيا في (ذم الملاهي) 67، وأبو بكر الاجري في (تحريم النرد) 64، وأبو أحمد بن عدي في (الكامل) 4/260 و أبو جعفر الطحاوي في (مشكل الآثار) 5237، وأبو بكر الخلال في (الأمر بالمعروف) 146 وتمام الرازي في (فوائده) 1237 كما في (الروض البسام) و أبو نعيم في (الحلية) 6/129، والبيهقي في (سننه الكبير) 10/222 و (الشعب) 4/5120 و أبو القاسم بن عساكر في (تاريخه) 37/35 وأبو الفرج بن الجوزي في (تلبيس إبليس) 232 و أبو الفضل بن طاهر في (السماع) 59 وغيرهم.

وقد صححه ابن حبان وأبو الفضل بن ناصر كما في (الرد على ابن حزم) للألباني وحسنه أبو الحسن بن القطان في (الوهم والإيهام) (4/577) وابن عبد الهادي كما في (عون المعبود) 13/167 وصححه ابن الوزير في (تنقيح الأنظار) (10/150) و صححه الشيخ العلامة أحمد شاكر في (تعليقه على المسند) رقم 4535 وحسنه الألباني في تصنيفه السابق في (تعليقه على المشكاة) رقم 4811.

وطعن فيه آخرون فقال أبو داود عقب روايته: هذا حديث منكر، و أعله أبو الفضل بن طاهر في (السماع) 59 بضعف سليمان بن موسى راويه عن نافع وتفرده به ونقل عن البخاري أنه قال فيه (عنده مناكير) ذكره في (تاريخه) 2/2/29.

فتعقبه الحافظ شمس الدين بن عبد الهادي بقوله (وليس كما قال سليمان من الحديث وثقه غير واحد من الأئمة و تابعه ميمون بن مهران عن نافع و روايته في مسند أبي يعلى و مطعم بن المقدام عن نافع و روايته عند الطبراني فهذان متابعان لسليمان بن موسى) أ. هـ. من (عون المعبود) 13/ 267.

فصل في الكلام على طرق الحديث وعلله

قد روي الحديث عن نافع من طرق:

الأول: وهو أشهرها، رواه سعيد بن عبد العزيز عن سليمان بن موسى عن نافع به وقد طعن فيه كما مر الحافظ أبو الفضل بن طاهر بقول البخاري السابق في سليمان بن موسى، وحكى الترمذي في (العلل الكبير) (2/666) عنه أنه قال: (سليمان بن موسى منكر الحديث أنا لا أروي عنه شيئا، روى سليمان أحاديث عامتها مناكر) وقال في (تاريخه الأوسط) (1/448) (عنده أحاديث عجائب) وقال النسائي: (هو أحد الفقهاء وليس بالقوي في الحديث في حديثه شيء) كما في (النبلاء 5/435) (الضعفاء والمتروكون للنسائي 267) (تهذيب الكمال 12/97).

ونص أبو حاتم كما في (الجرح والتعديل) لابنه (4/142 رقم 615) على أن في حديثه بعض الاضطراب، وحكى الحافظ أبو جعفر العقيلي في (الضعفاء) (2/ 632_ 140) عن ابن المديني أنه قال فيه: (مطعون عليه).

وتعقب هذا كله من يصحح الخبر بأن سليمان كما سبق عن ابن عبد الهادي قد وثقه غير واحد من الأئمة ويكفي فيه قول دحيم وهو أعلم الناس بالرواة الشاميين ومقدم فيهم على غيره: (أوثق أصحاب مكحول سليمان بن موسى) وقال أبو حاتم الرازي: (لا أعلم أحدا من أصحاب مكحول أفقه منه ولا أثبت منه) (الجرح والتعديل 4/142) ولذا أدخله الذهبي في (الرواة المتكلم فيهم بما لا يوجب الرد) (122).

وذكر الفاضل عبد الله الجديع في (كتابه المفرد في مسألة الغناء) 348/349) أن قول ابن المديني فيه لا يعتمد عليه لأنه جرح مجمل غير مسمى، وأن سبب الطعن عليه إنما هو لتفرده بأحاديث لا يشاركه فيها غيره، و نقضه بأن سليمان بن موسى في هذا شأنه شأن نظرائه من الثقات الحفاظ المكثرين لا يكاد أحد منهم يسلم من التفرد بسنة أو أكثر لا تعرف عن غيرهم، كذا قال.

و هو صحيح في الجملة ولكن لا يلزم منه قبول ما انفرد به على إطلاقه، بل الشأن في هذا راجع إلى قرائن واعتبارات تحكم قبول ما ينفرد به الثقة عن نظرائه، و قد رد الحافظ تفرد سويد بن سعيد الحدثاني بخبر العشق المعروف (النبلاء 11/418).

وهذا عبد الملك بن أبي سليمان المرزمي الذي كان شعبة يعجب من حفظه و كان الثوري و ابن المبارك يسميانه الميزان، قد أنكروا من حديثه ما تفرد به عن عطاء في خبر الشفعة عن جابر مرفوعا ولفظه (الجار أحق بشفعة جاره ينتظر بها و إن كان غائبا إذا كان طريقهما واحدا) أخرجه أحمد (3/303) وأبو داود (3518) والترمذي (1369) وقد أنكره أحمد والبخاري وابن معين وقال شعبة: (سها فيه عبد الملك فإن روى حديثا مثله طرحت حديثه)، وهذا كثير في صنيع الحفاظ الكبار، و إنما ينكرون من حديث الثقة ما تفرد به وقامت القرائن على وهمه فيه، فحديث العشق إنما أنكروا تفرد سويد به ولم يحتملوه منه لأنه منكر المعنى إذ ليس في العشق وكتمانه كبير فضل بحيث إن صاحبه يرقى لنيل الشهادة في سبيل الله، وقد تقرر في (علوم الاصطلاح) أن ترتب الفضل الكبير والأجر الجزيل على العمل الحقير دليل وهاء الخبر ونكارته.

وقد صنف الحافظ أبو العباس الغماري الكبير جزءا في الرد على من طعن في حديث سويد الذي تفرد به عن ابن عباس مرفوعا في العشق أسماه (درء الضعف عن حديث من عشق فعف) لم يأت فيه بطائل، وذكر ابن القيم أن مما يدل على بطلان هذا الخبر ونكارته أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم عدّ الشهداء في الصحيح فلم يذكر منهم العاشق يقتله العشق، وقد أخرج أبو محمد بن حزم عن ابن عباس أنه سئل عن الميت عشقا فقال: (قتيل الهوى لا عقل ولا قود)، و رفع إليه رضي الله عنه بعرفات شاب قد صار كالفرخ فقال: ما شأنه؟ فقيل: العشق، فجعل ابن عباس رضي الله عنهما عامة يومه يستعيذ من العشق كما في (الجواب الكافي لابن القيم) (175) فلو كان عند ابن عباس حديث العشق هذا لاستعمله في هذه الواقعة وأفتى به.

وخبر الشفعة إنما أنكره الأئمة لمخالفته المحفوظ عن جابر كما ذكره الشوكاني في (نيل الأوطار) (7/ ص 2966) ولما فيه من المشقة المترتبة على انتظار الجار الغائب مما قد يفوت عليه منفعة بيعه لغيره، ولهذا قد يقبل الحفاظ تفرد الراوي الثقة عن أقرانه إذا قامت قرينة تنبىء عن حفظه وضبطه له، أو وجد له فيه متابع من وجه صحيح ثابت لا مطعن فيه، فلا يكون التفرد من الثقة مقبولا بإطلاق ولا يرد بإطلاق.

وليس للأئمة المتقدمين في هذا الباب قاعدة مضطردة وإنما يحكمون في كل حديث بحسبه، وبقدر ما يتوافر عند الناقد منهم من القرائن المحتفة بالخبر إذا قوي في النظر صلاحيتها للتقوية.

ولا تكاد تجد حديثا أطبق الحفاظ المتقدمون من الأئمة العارفين بعلل الأخبار في أسانيدها ومتونها على إعلاله بتفرد الثقة أو غيرها من العلل، إلا وينتهي بك البحث المنصف إلى الإقرار بصواب رأيهم وصادق حكمهم الذي قلما ينخرم، حتى جزم مثل الحافظ ابن حجر في (نزهته) (ص 104) بأن دقة فهمهم وشدة فحصهم وقوة بحثهم وصحة نظرهم وتقدمهم في الحفظ والمعرفة والبصر بهذا الشأن يوجب المصير إلى تقليدهم والتسليم لهم فيه، وهذا لأنهم حفاظ أخذوا الفن من أفواه الرجال وصدورهم دون اقتصار على الكتب كما هو شأن الباحثين المتأخرين، فحذار من الهجوم والمسارعة إلى رد حكمهم بمجرد البحث في بطون الكتب مهما طال بك البحث، فإن الأمر عندهم أكبر من ذلك وهذا الفن لا يدرك إلا بالسهر والتعب والصبر وطول العمر وإدمان المذاكرة والفحص والنظر، كما قال الحافظ الكبير أبو الحسن بن المديني (ربما أدركت علة حديث عندي بعد أربعين سنة) كما في (الجامع) (2/257) للخطيب البغدادي الذي يقول: (من الأحاديث ما تخفى علته فلا يوقف عليها إلا بعد النظر الشديد ومضي الزمن البعيد).

وفي المقابل هم حفاظ يعرض لأحدهم ما يعرض للحافظ من النسيان والغلط الذي هو سمة البشر، فلا ينبغي للباحث الجمود على قول الواحد منهم في طعن أو توثيق أو إعلال أو تصحيح دون أن يعمل فيه النظر والفكر، ولذا لم يقبلوا من ابن معين تفرده بتضعيف الشافعي، ولا قبلوا تضعيف بعض المحدثين لأبي حنيفة على إطلاقه وقد خولفوا فيه، ولا كلام أحمد في المعلى الرازي وقد خولف فيه، ولا قبل النقاد من مالك روايته عن عبد الكريم بن أبي المخارق وقد تركه غيره، ولم يحتملوا من الشافعي روايته وتوثيقه لابراهيم بن أبي يحيى الأسلمي والجمهور على تضعيفه وغير ذلك.

وهكذا القول في إعلال الأخبار وتصحيحها، فإنه يجري عند اختلافهم فيه مجرى الاجتهاد في المسائل الفقهية، فهذا ابن معين قد أنكر على سويد بن سعيد حديثه عن أبي معاوية عن الأعمى عن عطية عن أبي سعيد أن النبي صلى الله عليه و سلم قال: (الحسن والحسين سيدا شباب أهل الجنة) وقال: (هذا باطل عن أبي معاوية لم يروه غير سويد) وجرحه لأجله، فقال الدارقطني: (لم نزل نظن أن هذا كما قال يحيى وأن سويدا أتى أمرا عظيما في رواية هذا، حتى دخلت مصر فوجدت هذا الحديث في مسند أبي يعقوب المنجنيقي وكان ثقة، رواه عن أبي كريب عن أبي معاوية فتخلص سويد وصح الحديث عن أبي معاوية، وقد حدث النسائي عن أبي يعقوب هذا. ذكره الذهبي في النبلاء (11/416)

وذكر الحافظ أبو بكر الخطيب أن أحمد قال: لم نزل ندافع أمر الواقدي حتى روي عن معمر عن الزهري عن نبهان عن أم سلمة مرفوعا (أفعمياوان أنتما) فجاء بشيء لا حيلة فيه، هذا حديث يونس ما رواه غيره عن الزهري، وكتب أحمد إلى ابن المديني يقول: كيف تستحل تروي عن رجل يروي عن معمر حديث نبهان مكاتب أم سلمة؟!

قال هذا أحمد وهو غير مدافع في الإمامة والجلالة، مع أنه قد رواه سعيد ابن أبي مريم عن نافع بن يزيد عن عقيل عن الزهري، فلم ينفرد به يونس عن الزهري كما قاله الإمام أحمد حتى قال الرمادي: لما حدثني سعيد بن أبي مريم بهذا ضحكت فقال: مم تضحك؟ فأخبرته بما قال أحمد وكتابه إلى ابن المديني فقال: إن شيوخنا المصريين لهم عناية بحديث الزهري، قال الرمادي: (هذا مما ظلم فيه الواقدي). تاريخ بغداد (3/18/19)_ النبلاء (9/455/456).

وخبر زمارة الراعي هو من هذا الضرب، فله حكم مختص به، ولراويه سليمان بن موسى ومن شركه فيه عن نافع حكم مختص زائد على مطلق توثيقهم، فإن أبا داود وأبا الفضل ابن طاهر إنما استنكراه مع علمهم بثقة رواته كسليمان بن موسى وغيره لتفرده به عن نافع، وهذا التفرد مما لا يحتمل منه، إذ لا يتصور أن ينفرد شامي برواية خبر عن حجازي كنافع في أمر مشهور ومسألة معلومة عندهم دون أن يشركه في روايته غيره من أضحاب نافع ولا سيما الكبار منهم كمالك وأيوب السختياني والعمري وغيرهم، وأين أهل المدينة وأهل مكة عن رواية خبر كهذا إن كان عالمهم نافع حدث به في مسالة مشهورة لعم بها البلوى عندهم أعني مسألة الغناء، فإن أهل الحجاز كما هو معلوم يستبيحون الغناء وهو أمر مشهور معلوم عنهم عند أهل العلم وفقهاء الأمصار، حتى قال الأوزاعي فيما أخرجه الحاكم في (علوم الحديث 65): (يُجتنب أو يترك من قول أهل العراق خمس، ومن قول أهل الحجاز خمس، من قول أهل العراق: شرب المسكر، والأكل عند الفجر في رمضان، ولا جمعة إلا في سبعة أمصار، وتأخير صلاة العصر حتى يكون ظل كل شيء أربعة أمثاله، والفرار من الزحف، ومن قول أهل الحجاز: استماع الملاهي، والجمع بين الصلاتين من غير عذر، والمتعة بالنساء، والدرهم بالدرهمين والدينار بالدينارين يداً بيد، وإتيان النساء في أدبارهن).

فلو قدر أن نافعا حدث بهذا عن ابن عمر كان يكون معلوما عند كبرائهم ولجرى البحث فيه بينهم واستعملوه وتداولوه.

ولما لم يوجد شيء من هذا علم أنه منكر عن نافع، و هذا من أقوى القرائن التي تعل بها الأخبار عند أئمة الحديث، و لهذا تجدهم يذكرون في كتبهم المصنفة في العلل أصحاب الرواي الكبار ممن لازموه وخبروا حديثه بحيث إنه يدور عليهم ولا يخرج عنهم في الجملة، كما يذكره الحافظ ابن رجب في (شرح علل الترمذي) وهذا لينبهوا على هذه النكتة وهو أن حديث الراوي إذا جاء عن غير أصحابه الكبار فهو محل نظر، نظيره عنعنة الراوي المعروف بطول الملازمة لشيخه كالأعمش في أبي صالح وابن جريج في عطاء ونحوهم، فإنها تغتفر منه إذا كان مدلسا، لمعرفته بحديثه بطول الملازمة له، فيبعد والحال هذه أن يفوته منه شيء بحيث يضطر فيه إلى التدليس كي لا يحدث به نازلا كما هو شأن المدلسين.

وقول دحيم وأبي حاتم أن سليمان بن موسى أثبت الناس في محكحول صحيح، ولكنه ليس مما نحن فيه بشيء، والعجب ممن يتعلق به لرد قول أبي داود أنه منكر، فإن هذا إنما يكون صحيحا مقبولا إذا كان في رواية سليمان بن موسى عن مكحول أو غيره من الشاميين، فهو مقيد بروايته عن هؤلاء، بدليل أننا أجمعنا على أنه ليس أثبت الناس في نافع، ولا يعد في جملة أصحابه المعروفين بالرواية عنه والملازمة له.

وهذه علة الخبر التي قصدها أبو داود وأبو الفضل بن طاهر وأعلاه بها، ومن فهم عنهم خلاف هذا فقد غلط عليهم فيه، وهذا وجه النكارة التي بينها أبو داود واعترضه فيها من لم يفهم غرضه ومراده كالعظيم آبادي في (عون المعبود) (12/267) بقوله: (هكذا قال أبو داود، ولا يعلم وجه النكارة، فإن هذا الحديث رواته كلهم ثقات، وليس بمخالف لروايته أوثق الناس).

وعلى هذا الوجه في بيان نكارة هذا الخبر وإعلاله بتفرد سليمان بن موسى به، يتوجه قول البخاري في سليمان بن موسى (عنده مناكير) وقول النسائي وكذا قول ابن المديني (مطعون عليه)، بدليل أنهم صححوا من حديثه غير هذا وقبلوه حيث ظهر لهم أنه لم ينفرد به على وجه يستنكر، كحديث النكاح بلا ولي وغيره.

فإن قيل إن قصة ابن عمر هذه في زمارة الراعي قد رويت من طريق مالك والعمري وهما من كبراء أصحاب نافع من أهل المدينة، فالجواب أنه لا يصح عنهما فهو منكر كما قال الدارقطني، وحكم عليه الذهبي بالوضع كما في (لسان الميزان) (5/87) وقال ابن رجب في (نزهة الأسماع) (47/48) لا يثبت عنهما.

الوجه الثاني: رواه خالد بن يزيد السلمي الدمشقي عن المطعم ابن المقدام حدثنا نافع به، وهو الذي جعله ابن عبد الهادي وغيره متابعا لرواية سليمان وقووه به، فغلطوا غلطا ظاهرا، و ذلك أنه منكر أيضا كما قاله أبو داود، تفرد به خالد هذا بهذا الوجه ولم يتابع عليه عن المطعم، وخالد بن يزيد السلمي لم يوثقه أحد بل ذكره ابن حبان في (ثقاته) (8/224) ولذا قال الحافظ في (التقريب) (1694) (مقبول) أي: إنه لين الحديث، فمثله إذا تفرد كان تفرده منكرا، كما أن ابنه محمود بن خالد تفرد به هو الآخر عن أبيه دون سائر من روى عنه على قلة روايته، وإلى هذا أشار الحافظ الكبير أبو القاسم الطبراني بقوله: (لم يروه عن المطعم إلا خالد تفرد به ابنه محمود...) ذكره في (المعجم الصغير).

فمن قوى حديث سليمان بن موسى عن نافع، بمتابعة المقدام فقد أخطأ خطأ بينا، لأنه إنما يقوي والحال هذه، المنكر بمثله، وهذا غلط فإن المنكر لا يزيد المنكر مثله إلا نكارة، كما قال الإمام أحمد في رواية ابن هانىء: (المنكر أبدا منكر) كما في (مسائله) (2/167).

وفي حديث الزمارة من هذا الوجه علة أخرى نبه عليها أبو داود فقال بعد أن ساق الخبر من طريق خالد عن المطعم: (أدخل بين مطعم ونافع، سليمان بن موسى) يريد أن خالد بن يزيد اضطرب فيه فتارة يرويه عن المطعم عن نافع، وتارة عن المطعم عن سليمان بن موسى عن نافع، وهذا اضطراب يعل به الحديث، وينبىء عن قلة ضبط راويه له على قلة روايته فلا يحتمل من مثله تفرده، فإنه بتقدير رجحان كونه عن خالد عن المطعم عن نافع فهو منكر، ولا يصلح شاهدا لرواية سليمان بن موسى، وبتقدير أن الصواب فيه الوجه الأخر، فقد عاد الحديث مداره على سليمان بن موسى، وقد تقدم بيان وجه نكارته، فلا متابعة، فلا تقوية أصلا.

الوجه الثالث: طريق أبي المليح عن ميمون بن مهران عن نافع به، وقد قال فيه أبو داود: (هذا أنكرها) فتعقبه من يصحح الخبر بأن وجه النكارة لا يتبين لثقة رواته كما في (عون المعبود) (12/269) وغيره.

قلت: وجه النكارة أنه رواه عبد الله بن جغفر عن أبي المليح بهذا الوجه، وعبد الله ابن جعفر هذا هو الرقي وهو ثقة لكن ربما خالف كما قاله أبو حاتم بن حبان وزاد: (كان قد اختلط سنة ثماني عشرة وبقي اختلاطه إلى أن مات ولم يكن فاحشا حتى كان لا يدري ما يخرج منه وكان قد عمي) (الثقات 8/351).

وقال الحافظ في (التقريب): (ثقة لكنه تغير بأخرة فلم يفحش اختلاطه) وقد خولف في هذا الخبر كما بينه الفاضل عبد الله الجديع في (تصنيفه المفرد في الغناء) (345/346)، خالفه عويس بن سالم الشاشي فرواه في (جزئه) عن أبي المليح عن ميمون قال بلغني عن رجل خرج مع ابن عمر يسير ومعه نافع فساق الخبر بنحوه، فدار الإسناد على مجهول لا يدرى ما حاله، على أن ميمون بن مهران قال: بلغني عن رجل، و هذا منقطع، فهاتان علتان.

وقد رجح الإسناد الجديع رواية عبد الله بن جعفر الرقي عن أبي المليح، بدعوى أنه بلديه وأنه أحفظ من عويس، وهو ذهول منه عما قيل في ابن جعفر من المخالفة وهي واقعة في هذا الخبر، وكذا عن اختلاطه، وهذا كله لم يقله أحد في عويس بل وثقه ابن أبي حاتم كما في (تعجيل المنفعة) (رقم 838) ووثقه الخطيب في (تاريخه) (11/161) وهو أشهر من عبد الله بن جعفر في الرواية عن أبي المليح عن ميمون، روى عنه عدة أخبار وآثار كما في ترجمة ميمون من (تهذيب الكمال) (29/216).

فروايته عن ابن المليح أرجح، والظاهر أنه اشتبه على عبد الله بن جعفر إسناده فجعله عن ميمون عن نافع، وهو من أثر اختلاطه اليسير بقرينة رواية عويس المخالفة لروايته.

فإن قيل: قد تابع عبد الله بن جعفر في روايته له على هذا الوجه، عمرو بن عثمان الرقي، أخرجه الطحاوي في (مشكل الآثار) (5237) مقرونا برواية عبد الله بن جعفر، وجوابه أنها متابعة واهية لا تصح، لأن عمرو بن عثمان متروك كما قال الأزدي والنسائي ولينه العقلي وقال أبو حاتم: يتكلمون فيه بحدث من حفظه بمناكير، وذكر ابن حبان له في (ثقاته) مع قول بن عدي فيه (له أحاديث صالحة) لا يغني مع قول هؤلاء الأئمة ولا سيما أبو حاتم الذي لقيه ولم يسمع منه، وقد بين الحافظ أحمد بن علي الآبار فيما نقله عن علي بن ميمون الرقي أنه كان يحدث من كتب رجل بالرقة مات يقال له أبو مطر، كما في (التهذيب) (8/67/68).

وبتقدير ترجيح رواية عبد الله بن جعفر على رواية عويس، فهي منكرة تفرد بها ابن جعفر الرقي ولم يتابع عليه بهذا الوجه عن أبي المليح، ومثله لا يحتمل منه التفرد، فلا يصح عد روايته هذه شاهدا لرواية سليمان بن موسى، فإن المنكر لا يتقوى بمثله فكيف بما تقدم من العلل.

ووقع في (سنن ابن ماجة) (1901) من طريق الفريابي حدثني ثعلبة عن ليث عن مجاهد به، بذكر الطبل دون الزمارة، وقد عده من يصحح الخبر شاهدا في الجملة لتصحيح القصة، وهذا خطأ، فإنه منكر جدا من جهة تفرد ليث بن أبي سليم به وهو كما في (التقريب)(5685) صدوق اختلط جدا ولم يتميز حديثه فترك، واضطرب في متنه بذكر الطبل، وخالف في سنده فذكره عن مجاهد، فمثل هذا لا يستقيم أن يعدّ شاهدا، والليث إذا تفرد فهو منكر الحديث، وذكر ابن حبان أنه كان يقلب الأسانيد ويرفع المراسيل ويأتي عن الثقات بما ليس من حديثهم) كما في التهذيب (8/418)، وشاهد صدق كلام ابن حبان في هذا الخبر كما ترى.

تنبيه: زعم الحافظ ابن رجب في (نزهة الأسماع) (48) وسبقه إليه ابن قدامة في المغني (12/40) أن قول أبي داود في هذا الحديث منكر لا يوجد في نسخ السنن المعتمدة، وهذه مجازفة منهما، فقد وقع ذكر هذا اللفظ في حديث سليمان بن موسى من نسخة السنن برواية أبي علي اللؤلؤي،كما في (تحفة الأشراف) (5/405) ووقع ذكر روايتي المطعم وميمون في نسخة ابن العبد وابن الأعرابي وابن داسة من (السنن).

وادعى ابن رجب رحمه الله أن أبا داود إنما أنكر رواية سليمان بن موسى قبل أن يتبين له أنه توبع عليه فلما تبين له أنه توبع عليه ـــ يعني من قبل المطعم وميمون ـــ رجع عنه، أي: عن الحكم عليه بالنكارة، وهذا لا يجيء أبدا فإن أبا علي اللؤلؤي ذكر عن أبي داود أنه استنكر حديث سليمان وهو كما قال أبو عمر الهاشمي الذي روى السنن عنه: (كان اللؤلؤي قد قرأ كتاب السنن على أبي داود عشرين سنة، وكان يدعى وراق أبي داود) أي: القاري للناس بلغة البصريين، والزيادات التي في رواية ابن داسة حذفها أبو داود لأمر رابه في الإسناد، انتهى من (النبلاء) (15/307).

فهذا صريح في أن أبا داود حذف روايتي المطعم وميمون أصلا من كتابه لأنهما ليستا في رواية اللؤلؤي، ولهذالم يذكرهما أبو القاسم بن عساكر في (أطرافه) كما أفاده الحافظ المزي في (تحفة الأشراف) (8/609ــــــ 629) ولهذا وقعت في نسخ غير اللؤلؤي لأنهم حملوا الكتاب بعدما سمعوه عن أبي داود وتفرقوا في الأمصار لروايته، ولم يبلغهم ما بلغ أبا علي اللؤلؤي الذي لازم المصنف، لم يبلغهم ما حذفه أبو داود منه فوقع الاختلاف والزيادة في نسخ السنن بين رواتها.

فإذا كان قد حذفه من كتابه كيف يقال إنه لم يتبين له أنه توبع عليه، بل إنما حذف أبو داود روايتي المطعم وميمون لكونهما منكرتين فلا يصلحان للمتابعة والتقوية، فحذفهما لئلا يغتر بهما من لا يدري فيقوى الحديث المنكر بهما، مع أنه بيّن نكارتهما، وأنهما أنكر من رواية سليمان بن موسى، ولهذا قدمها على تلك الروايتين، وهذا من حسن تصرف أبي داود ودقة صنيعه في كتابه فإنه يقدم الأرجح لديه، وقد ينبه بتصرفه هذا على الصواب في الحديث أو الوجه الأقوى، أو ينبه على علة ما بعده. والله أعلم

ووقع في جزء (الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر) (177) للحافظ أبي بكر الخلال أن الإمام أحمد رضي الله عنه سئل عن الرجل ينفخ في المزمار فقال: أكرهه؟ أليس به نهي عن النبي صلى الله عليه وسلم في حديث زمارة الراعي؟ فقلت: أليس هو منكر؟ فقال: سليمان بن موسى يرويه عن نافع عن ابن عمر.

وقد تعلق بهذا الشيخ زين الدين بن رجب رحمه الله لتصحيح الخبر، بدعوى أن الإمام أحمد استدل به ولم يصرح بنكارته، ولم يوافق على الحكم بذلك عليه، كذا قال.

وفيه نظر فأن سكوت الإمام لا يؤخذ منه أنه يصحح الحديث، ولا يحكم بنكارته لما عرف عنه من أنه لا يشدد في أحاديث الفضائل وما فيه سد للذريعة كهذا الحديث، ألا ترى إلى قول السائل له: (أليس هو منكر؟) وهذا يدل على أن المعروف عن أهل الحديث إذ ذاك من أصحاب أحمد وغيرهم أن هذا الخبر منكر، فإن هذا استفهام انكاري، كأنه أنكر على أحمد احتجاجه بهذا الخبر الذي عرف من هو دون أحمد نكارته، فنزع أحمد في الجواب إلى أصله في سد الذرائع، ولو كان هذا الحديث عند أحمد صحيحا لما تردد في الجزم بتصحيحه والإنكار على من أنكره، كما عرف عنه رحمه الله.

وأيضا: فإن الخلال وهو ناصر مذهب أحمد والناشر له في الأقطار، وما من حنبلي إلا ولأحمد منة عليه إلا الخلال، فإن له منة على أحمد لنشره مذهبه ونصرته له ورحلته في جمعه وتدوينه، وهو لم يفهم من هذه الرواية عن أحمد أنه يصح الحديث، بل إن من مذهب الخلال وهو قول غلامه أبي بكر عبد العزيز، جواز الغناء والطرب والرخصة فيه بشرطه كما في (المغني) (12/41) فلم يفهم من رواية أحمد وكلامه على هذا الخبر التحريم، فكيف تصحيح الخبر!.

وذلك لأن أحمد إنما كرهه، ولم يصرح بالتحريم، لا يقال إن الكراهة في عرفهم تطلق ويراد بها التحريم، لأن هذا ليس على إطلاقه في نصوص الأئمة، ولأن نص الحديث لا يساعد عليه لأنه مجرد فعل عنه عليه السلام، وقد تقرر في الأصول أن مجرد الفعل لا يدل إلا على الاستحباب كما يأتي، على أن الخلال كما ذكر ابن قدامة (12/41) كان يحمل الكراهة من أحمد على الأفعال المذمومة لا على القول بعينه، وصرح في رواية صالح أنه إنما كره الغناء لأنه قيل له إنهم يستعملون المنكر.

فصل في الكلام على متن الحديث ودلالته

احتج بهذا الحديث من يصححه لتحريم السماع مطلقا، ورد احتجاجهم به أبو الفضل بن طاهر بأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قد أقر الراعي ولم ينهه ولا أنكر عليه ولا نهى ابن عمر عن السماع ولم يأمره بسد أذنيه كما صنع هو عليه السلام، ولا أمر ابن عمر نافعا بذلك، فتعبقه الحافظ شمس الدين ابن عبد الهادي بأن هذا لا يدل على إباحة، لأن المحظور هو قصد الاستماع لا مجرد إدراك الصوت، لأنه لا يدخل تحت التكليف فهو كشم محرم طيبا، فإنما يحرم عليه قصده لا ما جاءت به ريح لشمه، وكنظر فجأة، بخلاف تتابع نظره فمحرم، وتقرير الراعي لا يدل على إباحة لأنها قضية عين فلعله سمعه بلا رؤيته أو بعيدا منه على رأس جبل أو مكان لا يمكن الوصول إليه، أو لعل الراعي لم يكن مكلفا فلم يتعين الإنكار عليه. انتهى من عون المعبود (12/269) ونحوه لابن قدامة في (المغني) (12/39/40).

وقد قلب المجوزون الدليل واحتجوا بهذا الخبر للجواز منهم الإمام الحافظ الحجة أبو محمد بن حزم رحمه الله في (رسالته في الغناء والملاهي) كما في (مجموع رسائل ابن حزم) (1/437) ووجه استدلالهم به ما سبق عن ابن طاهر قريبا، ووجهه الأستاذ عبد الله الجديع بأن سكوت النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن البيان لابن عمر وتركه يسمع مع احتياجه للبيان كحاجة الراعي إليه، واحتياج الأمة للبيان الذي ينقله ابن عمر من بعد، كل هذا دليل الإباحة وهي الأصل، ومجرد الترك النبوي للسماع لا يفيد التحريم بل الكراهة حيث لم توجد مناسبة تقتضي السماع، ولا ريب أنه يسن الاقتداء به عليه السلام كما صنع ابن عمر، لكن هذا لا يدل على التحريم بمجرده. أ ه ملخصا من كتابه في الغناء (ص 117/119).

والتحقيق أن الحديث بتقدير ثبوته لا يدل على الجواز ولا على التحريم، ولا يصح في النظر التعلق به من الطرفين، والحديث ليس من قضايا الأعيان كما زعم الإمام ابن عبد الهادي وغيره، بل هو من حكايات الأحوال التي إذا تطرق إليها الاحتمال كساها ثوب الإجمال فلا يتم بها الإستدلال كما قال الإمام الشافعي.

وحكاية الحال لا تعم مطلقا وبالتالي لا يصح التعلق بالخبر للجواز المطلق، ولا تختص بالشخص كقضايا الأعيان وبالتالي يخص الحديث بالراعي أو بابن عمر، لما سبق من الاحتمالات التي أوردها ابن عبد الهادي على الحديث، وإنما الشأن في حكايات الأحوال أنها تختص بالنوع والحال المحتف بالواقعة، أو الشخص الذي وقع له ذلك، فعمومها بدلي نوعي من جنس عموم المطلق وهو عموم الصلاحة، فلا تعم عموما شموليا ولا تختص بالشخص، وقد قررت هذا الأصل بشيء من البسط في كتابي (علل الأصوليين).

فإذا علم هذا فإن غاية ما يفيده هذا الخبر هو جواز الاستماع الذي لم يقصده المستمع وأنه لا إثم فيه لمن لم يتعمده، ولا يكلف من هذا حاله بسد أذنيه ونحو ذلك من الأعراض عن الاستماع، بدليل أنه لم يأمر ابن عمر بسد أذنيه، لأن فيه حرجا وتكليف ما لا يطاق فيعارض أصلا من أصول الشرع الكلية، وهذا كله إذا كان جنس المسموع محرما، فإن كان مباحا فلا يرد هذا الكلام.

وهذا اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية قدس الله روحه فإنه قال بعد أن أشار إلى الشك في صحة الحديث وثبوته: (من الناس من يقول بتقدير صحة هذا الحديث، لم يأمر ابن عمر بسد أذنيه، فيجاب بأنه كان صغيرا أو يجاب بأنه لم يكن يستمع وإنما كان يسمع، وهذا لا إثم فيه وإنما النبي صلى الله عليه وآله وسلم فعل ذلك طلبا للأفضل والأكمل، كمن اجتاز بطريق فسمع قوما يتكلمون بكلام محرم فسد أذنيه كي لا يسمعه فهذا حسن، ولو لم يسد أذنيه لم يأثم بذلك، اللهم إلا أن يكون في سماعه ضرر ديني لا يندفع إلا بالسد) أ. هـ كلامه من المجموع (11/567).

ومما يدل على وهاء هذا الخبر ما ذكره ابن حزم في (رسالة الملاهي) كما في (مجموع رسائله) (1/438) وفي (المحلى) (9/62/63) بأسانيد قال عنها (صحيحة) عن محمد ابن سيرين في قصة شراء عبد الله بن جعفر جارية تضرب بالدف أو العود، وابن عمر ينظر حتى قال له: (حسبك سائر اليوم من مزمور الشيطان) الخبر بطوله، فلو كان عند ابن عمر رضي الله عنهما خبر زمارة الراعي عن النبي صلى الله عليه وسلم، ما شهد ولا سمع وهو المعروف باتباعه وسلوكه في فتاويه سبيل الاحتياط، وبتقدير أن الحديث عنده فلم يفهم منه التحريم، وهذا ظاهر لمن تأمله وبالله تعالى التوفيق.

وعلى الجملة فالخبر لا يصح كما مر، وعلى التنزل في صحته لا ينتهض للدلالة على المنع، لأن الأصل استواء الناس في الأحكام إلا بدليل، وحيث لا دليل يستثني ابن عمر عن نافع في حكم الاستماع، فلا يخلو أن يكون ما يسمع يسيراً يغتفر مثله في الشرع، فيلزم استواء ابن عمر ونافع في جواز الاستماع، ويكون سد الأذن والحال هذه لا موقع له.

وإن قيل إن المسموع فاحش يحرم مثله، لزم استواؤهما في المنع، فيلزم نافعا سد أذنيه كما لزم ابن عمر، فيبطل التعلق بالحديث، والحال أن ابن عمر صنع ذلك على جهة الورع، بدليل أنه لم يلزم نافعا بسد أذنيه، ولو كان إنما سد أذنيه معتقداً تحريم السماع، لزمه ولابد أن يأمر نافعا بسد أذنيه، لأنه عبده ومناصحته لازمة له، لأنه كولي أمره، فهذا السؤال وارد على المانع، وبه ينتقض استدلاله به على المنع، فالتحقيق على تسليم صحة الخبر أنه لا يفيد منعا ولا إباحة، لما تقدم تحقيقه، والله أعلم.

فصل في ذكر طرف من تصانيف الأئمة

العلماء المفردة في هذه المسألة تتمة للفائدة

وقد أفرد جماعة من الفقهاء والحفاظ والأدباء مسألة الغناء والسماع بتصانيف مفردة نذكر منها ما يحضرنا، فمن ذلك:

الجامع في الغناء لأبي العباس المعتز بالله، وكتاب أبي عبد الله المرزباني وكتاب الفرق بين إبراهيم بن المهدي وإسحاق الموصلي في الغناء لأبي الحسن بن هارون، والدلالة على أسرار الغناء لأبي الفرج السرخسي، ولأبي العباس السرخسي كتاب اللهو والملاهي في الغناء، ورسالة الآجري في جواب سؤال عن حكم الغناء والمعازف، ورسالة الحافظ الإمام أبي محمد ابن حزم، وكتاب أبي محمد بن قتيبة، وللأستاذ أبي منصور البغدادي، ولعبد الملك بن حبيب عالم الأندلس، وكتاب كشف القناع عن مسألة الغناء للأستاذ أبي بكر الطرطوشي، وكتاب ذم الغناء للقاضي أبي يعلى الفراء البغدادي، وكتاب لأبي إسحاق إبراهيم بن المنصور العباسي في صفة الغناء، ولأبي القاسم بن خرداذبة كتاب أدب السماع واللهو، وصنف الحافظ عطية بن سعد الأندلسي كتابا في تجويز السماع فتحاماه لأجله أهل الأندلس، ولأبي المحاسن هبة الله بن أبي القاسم الحراني في رد السماع والرقص كتابا أسماه المعيار، وصنف أبو طالب المفضل بن سلمة اللغوي كتابا في أسماء الملاهي، ولأبي محمد بن قدامة فتيا في ذم الشبابة والغناء، وللصرخدي الحنفي كتاب تشنيف الأسماع، ولإدريس بن عبد الله التركماني كتاب الحجة والبرهان على فتيا هذا الزمان في تحريمه، وصنف الإمام برهان الدين ابن الفركاح كتاب حل القناع عن حل السماع، وكتاب السماع والغناء لعتيق بن داود اليماني الحنفي، ولبعض المالكية كتاب قرع الأسماع برخص السماع، وكتاب السماع لأبي الفضل بن طاهر، وقد نقضه عليه ابن المجد في مجلد اختصره الذهبي، والسماع وأحكامه لأبي العباس أحمد بن محمد الإشبيلي وكتاب معاهد الجمع في مشاهد السمع لمحمد بن أبي الحسن البكري الصديقي، والسماع للحافظ كتيلة واسمه عبد الله بن أبي بكر الحراني الحربي، ولشيخ الإسلام ابن تيمية وصاحبه المحقق ابن القيم فتيا في تحريمه، ولأبي علي الغوثي كشف القناع، ولابن عبد الهادي الحافظ في ذمه وتحريمه مجلد، وللشيخ بدر الدين القونوي كتاب بدر الشعاع، وتشنيف الأسماع للسيوطي، ولابن رجب نزهة الأسماع وكتاب في جوازه للإمام تقي الدين بن دقيق العيد واسمه اقتناص السوانح، والرخصة في الغناء والطرب بشرطه للحافظ الذهبي، ومزيل العناء في أحكام الغناء لابن زياد اليمني، وإيضاح الدلالات في سماع الآلات لعبد الغني النابلسي، وكتاب سفينة الملك ونفيسة الفلك لشهاب الدين محمد إسماعيل عمر وهو أول كتاب في فنه طبع بالعربية، وكتاب مجالس الغناء واستعمال آلآت الطرب والحكم فيه لسلطان المغرب سليمان بن محمد بن عبد الله العلوي، وكتاب اللطيفة أرجوزة في الغناء لملا علي القاري، وكتاب بيان الإجماع على منع الإجتماع في بدعة الغناء والسماع للبرهان البقاعي، والبلغة والإقناع في حل شبهة السماع للعماد بن كثير، ورسالة الشيخ قطب الدين أبي الخير محمد الخضري الشافعي مفتي الشام ذكر فيهما أنه لم يرد في تحريم الغناء وإباحته نص صريح، وهو كقول ابن حزم إن أحاديث ذم الغناء إما صحيح غير صريح أو صريح غير صحيح، وكتاب الكمال الادفوي مجلد في إباحة الغناء والمعازف بشرطها وهو أجل كتاب في هذا الباب وأكثره فوائد كما قال الشيخ تاج الدين ابن السبكي وقد لخصه أبو حامد المقدسي في تشنيف الأسماع، وكتاب في ذم الغناء والسماع للعارف بالله عماد الدين الواسطي، وللمهدي المرتضى من فضلاء الزيدية (القمر النوار في الرد على المرخصين في الملاهي والمزمار) رد فيه على السيد محمد بن إبراهيم الوزير، وكتاب الغناء وتحريمه للمحب الطبري، وإزالة التعب والعناء في معرفة الحال في الغناء للمقريزي، وكتاب الرد على من يبيح الغناء لعلي بن محمد العاملي الإمامي، وكتاب إبطال دعوى الإجماع على تحريم السماع للقاضي الشوكاني، وكتاب رياض الأزهار في حكم سماع الأوتار لمرعي الكرمي، وقوت الأرواح في السماع المباح لبدر الدين بن سالم المكي البصري، ورسالة منعة الإسماع لجمال الدين بحرق الحضرمي، وكف الرعاع لابن حجر الهيتمي المكي، وكشف القناع لمحمد سالم الدهلوي، وجمع الأستاذ عبد الله الجديع كتابا حافلا في الأحاديث والآثار الواردة في ذم الغناء والكلام عليها، وله أيضا كتاب الموسيقى والغناء، وللشيخ الألباني رسالة الرد على ابن حزم في مسألة سماع الغناء والطرب، وللدكتور يوسف القرضاوي فقه الغناء والموسيقى، وللدكتور محمد سالم الثقفي رسالة كبيرة في أحكامه وإباحته بشرطه، وللدكتور وليد سبن كتاب في اسعراض تاريخ الغناء والموسيقى، وللدكتور عبد الستار أبو غدة في حكمه، وكذا لمحمد عمارة الدكتور المعروف المتكلم، وليس هذا فنه، والغناء والموسيقى بين المبيحين والمجوزين للدكتور عبد العزيز الشبل، وكذا الأمين حسن عمر، وللشيخ علي الحلبي جزء في الكلام على حديث المعازف، وغيرهم كثير. والله أعلم

والحمد لله أولا وآخرا باطنا وظاهرا وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله كثيرا.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين