طرق التصنيف في أصول الفقه

بين المنهجية العلمية والاحتكار المذهبي ودعوى الأثر العَقَدِي على الخلاف الأصولي

بسم الله والحمد لله والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله وبعد:

علم الأصول ومنهج الاستدلال

علم أصول الفقه باعتباره لقباً هو العلم بالقواعد الكلية التي يتوصل بها إلى استنباط الأحكام الشرعية العملية من أدلتها التفصيلية.

وموضوعه: الأدلة الشرعية في صورتها الإجمالية، أما موضوع علم الفقه فهو فعل المكلف من حيث ما يثبت له من أحكام شرعية في عباداته وتصرفاته وأخلاقه، فالأصولي يبحث في الدليل الكلي والقواعد الكلية، بينما يبحث الفقيه في الأدلة الجزئية والتطبيق في الفروع.

وفائدته وثمرته: معرفة طرق استنباط الأحكام الشرعية من أدلتها ومعرفة ضوابط ذلك، من أجل الوصول إلى معرفة الأحكام الشرعية، في حين أن الفائدة من علم الفقه هي تصحيح الأعمال والأقوال وفق حكم الله تعالى(1).

ومما هو معلوم عند أهل هذا الفن أن علم أصول الفقه من حيث تطبيقاته كامنٌ في الكتاب والسنة، إذ أن طبيعة نصوصهما تحمل مسائل علم أصول الفقه؛ لأن نصوص القران والسنة متقدمة ومتأخرة وعامة وخاصة ومجملة ومبيّنة وناسخة ومنسوخة...وهذا هو اختصاص علم الأصول.

كما أن علم أصول الفقه من حيث استعماله: كامنٌ في ذهن المجتهدين الأوائل كالصحابة رضي الله عنهم والمجتهدين من التابعين ومن تبعهم قبل عصر التدوين، فحيث وُجد المجتهد فقد وُجد الأصول، والمجتهدون موجودون قبل تدوين علم الأصول، فالأصول موجود حيث هُمْ، إذ أنه لا يمكن لمجتهد أن يحكم إلا عبر قواعد وضوابط مهما تكاثرت بين يديه النصوص من الآيات والأحاديث، لذلك حذّر العلماء من اجتراء أهل الحديث على الفتيا والعمل بالأحكام مالم يكونوا فقهاء وهذا مشهور منثور في كتبهم رحمهم الله، قال ابن عيينة: "الحديث مضلة إلا للفقهاء"، وقال مثل ذلك بحرفه الإمام عبد الله بن وهب، وقال ابن وهب أيضاً: "لولا أن الله أنقذني بمالك والليث لضللت، قيل له: كيف ذلك؟ قال: أكثرت من الحديث فحيّرني"، وقال عبد الله بن وهب: " كل صاحب حديث ليس له إمام في الفقه فهو ضال ولولا أن الله أنقذني بمالك والليث لضللت، كنت أظن أن كل ما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم يُعمل به، وقال محمد ابن مزاحم: سمعت عبد الله بن المبارك يقول: لولا أن الله عز وجل أغاثني بأبي حنيفة، وسفيان كنت كسائر الناس.

وهذا دستور منهم رضي الله عنهم بأن العمل بالشريعة لا يكون إلا عبر منهج فقهي أصولي، فالمنهج الاستدلالي هو أصولي فحسب، وما يثيره المعاصرون قليلو الخبرة مثل "منهج المحدثين في الاستدلال" أو "على منهج المحدثين" فهذا باطل إن أريد به المنهج الحديثي، وإن أريد به منهج الفقهاء الأصوليين من المحدثين فهو تهافت ولا حاجة لهذا المصطلح لما فيه من التغرير والمصادرة لأن المحدث لا عبرة بدوره في الاستدلال والاستنباط إلا لكونه فقيها مجتهدا كما سبق بيانه ... فمن حيث الاستدلال فالمجتهد المحدث والمجتهد غير المحدث سواء لأن الضابط لذلك هو المنهج الأصولي للمجتهد وليس كثرة الأحاديث التي اعتنى بها أو رواها!!!

لذلك تجد أن الإمام مالك ترك العمل بأكثر من سبعين حديثا رواه في موطأه، والإمام أحمد استند في أكثر من تسعين مسألة على حديث ضعيف مع حفظه لألف ألف حديث غالبها صحيح... وترى في جامع الترمذي حديثاً ضعيفا يقول فيه: وعليه العمل عند أهل العلم!! بينما تجد حديثا صحيحاً يقول فيه: وليس عليه العمل عند الفقهاء!!

فلا يوجد لأهل الحديث منهجٌ خاصٌ في الاستدلال ألبتة، ولا حاجة لبرهان ذلك عند من له مسكة ثقافة في هذا الباب، غير أنه لا أدل على ذلك من أن المجتهدين من المحدثين أنفسهم اختلفوا في طرق الاستدلال فهذا المجتهد الفقيه المحدث مالك رحمه الله له منهج أصولي يختلف عن منهج المجتهد الفقيه المحدث الشافعي، وهما يختلفان عن منهج المجتهد الفقيه المحدث أحمد وهكذا!!!

فلو كان لأهل الحديث منهجاً حديثياً يعتمد على سند النص صحة وضعفاً لما اختلفت طرق استدلالاتهم وبالتالي لما اختلف فقهُهم، ولَتَشَكَّلَ لدينا مذهب واحد، أدلةُ فروعهِ كلُّها صحيحةُ الإسنادِ بالمصطلح الحديثي، ولكن هيهات!!

طريقة الكتابة في علم الأصول ومحاولة الاختطاف المذهبي

بدأ عصر التدوين للفقه الإسلامي في نهاية القرن الأول الهجري، ووصل إلى طور النضج والكمال في القرن الثاني عند ظهور الأئمة، بينما تأخر علم الأصول في الظهور كعلم خاص إلى القرن الثاني، ووضعت قواعده ومبادئه وتدوينه في نهاية القرن الثاني الهجري، وذلك لأنه عبارة عن موازين لضبط الاستنباط ومعرفة الخطأ من الصواب في الاجتهاد، فهو علم الضوابط لمادة الفقه، والضابط يأتي بعد وجود المادة في كل العلوم، فعلم النحو والإعراب الذي وضع أساسه الإمام علي رضي الله عنه وأبو الأسود الدؤلي، جاء متأخرًا عن النطق بالفصحى، وكذا علم العروض الذي وضع أصوله الخليل بن أحمد الفراهيدي جاء متأخرًا عن قول الشعر ومثل ذلك قل في علم المنطق وغيره من العلوم (2).

ومما هو معروف مشهور عند أهل هذا الفن أن الكتابة في علم أصول الفقه على ثلاثة طرق:

الطريقة الأولى: الطريقة النظرية، أو طريقة المتكلمين: حيث تحقق قواعد هذا العلم تحقيقًا منطقيًّا نظريًّا، وأصحابها يهتمون بتحرير المسائل وتقرير القواعد، وإقامة الأدلة عليها، ولم يربطوا القواعد الأصولية بالفروع حتى وإن خالفت هذه القواعد ما دوّنه أئمتهم.

ويكثر في هذه الطريقة أسلوب الفَنْقَلة، أي: "فإن قلت ... قلنا" على طريقة علماء الكلام، وتقل فيها الفروع الفقهية، لأن الأصول حاكمة على الفروع.

وهذه طريقة علمية في التصنيف مجردة؛ وقد سميت بطريقة الشافعية لأن غالب روادها شافعية، كما سميت بطريقة الأشاعرة لأن غالب روادها أشاعرة، وكذلك انتهجها المالكية، وهي كذلك طريقة المعتزلة لأنهم اتخذوها طريقة في التأليف، وكذلك اتخذها الزيدية طريقة في التأليف، واتخاذ هؤلاء لهذه الطريقة لا يعني أنها أصبحت طريقتهم أو أنها اكتسبت صفة عقدية أو مذهبية كما يظن أصحاب عقدة النظرة العقائدية !!

وأشهر الكتب فيها:

- من الشافعية: "البرهان" للجويني (ت478هـ)، و"المستصفى" للغزالي (ت505هـ)، و"الإحكام" للآمدي (ت631هـ)، و"المحصول" للرازي (ت606هـ).

- من المالكية: "التقريب والارشاد" للباقلاني (ت403هـ)، و"منتهى السول والأمل" لابن الحاجب (ت646هـ).

- من الزيدية: "المجزي" لأبي طالب الهاروني (ت424هـ).

- من المعتزلة: "المعتمد" لأبي الحسين البصري (ت463هـ).

الطريقة الثانية: طريقة الفقهاء أو الحنفية: تمتاز هذه الطريقة بأخذ القواعد الأصولية من الفروع والأحكام التي وضعها أئمة المذهب الحنفي، ويفترضون أنهم راعَوْا هذه القواعد عند الاجتهاد والاستنباط، فإن وجدوا فرعًا يتعارض مع القاعدة لجؤوا إلى تعديلها بما يتفق مع هذا الفرع.

والسبب في اللجوء إلى هذه الطريقة أن علماء الحنفية لم يعثروا على كتب في الأصول من وضع أئمتهم، كما عثر علماء الشافعية في "الرسالة"، فبحثوا عن القواعد الأصولية في الفروع الفقهية باعتبار أنها لا بد أن تكون قائمة على أساس أصولي كما ذكرنا في بداية المقال بأن الأصول كامنة في ذهن المجتهد اضطراراً لاستحالة استناد حكم المجتهد على الهوى والتشهّي، وبالتالي فإن الهدف من هذه الطريقة هي العثور على قواعد وأصول المجتهد صاحب المذهب وليس سرد التطبيقات لا على سبب وغاية!!! وكانت هذه الطريقة للدفاع عن المذهب الذي ينتمي إليه مؤلف الكتاب، ويجعل من الأصول مقاييس مقررة ومؤكدة له، وليست حاكمة عليه.

وأهم الكتب في هذه الطريقة:

كتاب الأصول للكرخي (ت340هـ)، وأصول الجصاص (ت370هـ)، وتأسيس النظر للدبوسي (ت430هـ)، وأصول السرخسي (ت490هـ)، وأصول البزدوي (ت482هـ)، والمنار للنسفي (ت710هـ)...الخ

وسميت طريقة الحنفية لأنهم أول من انتهجها وليست حكرا عليهم بل انتهجها بعض العلماء من المذهب المالكي والشافعي والحنبلي مثل القرافي المالكي (ت684هـ) في تنقيح الفصول، والإسنوي الشافعي (ت772هـ) في التمهيد، ومثل ابن تيمية الحراني وأحفاده في المسودة، وابن القيم الحنابلة فيما كتبوه في الأصول.

طريقة المتأخرين: وهي الكتب التي تجمع بين طريقة المتكلمين وطريقة الفقهاء، وسار عليها بعض العلماء من المذهب الحنفي والمذهب الشافعي، وأهمها:

بديع النظام للساعاتي الحنفي (ت694ه)، الجامع بين أصول البزدوي والإحكام، وتنقيح الأصول، لصدر الشريعة (ت747هـ)، وهو كتاب مختصر لخصه من كتاب البزدوي والمحصول للرازي، ومختصر ابن الحاجب، والسبكي (ت771هـ) في جمع الجوامع الذي جمعه مما يقرب من مئة مصنف كما يقول في مقدمته...الخ

وغالب رواد هذه الطريقة كانت تصانيفهم جمعاً واختصار لمصنفات كتب الطريقتين السابقتين ولم تكن طريقاً ثالثا مغايرا في الاستدلال والتأصيل...

مما تقدم نجد أن روّاد طريقة المتكلمين أو الفقهاء لم يحتكروا مسمّاها وذلك لأنها منهج علمي وليست مذهباً عقدياً فترى الشافعي والمعتزلي والزيدي وغيرهم يكتبون في طريقة المتكلمين، وترى الشافعي والمالكي والحنبلي يكتبون في طريقة الحنفية، وجميعهم يكتب في طريقة المتأخرين...

ولا فرق بين محدث وغيره في الكتابة في أصول الفقه بل لم يتميز المحدثون الفقهاء عن غير المحدثين من الفقهاء بطريقة مغايرة عن الطرق السابقة، وإنما يحصل التميز بطريقة العرض وإيراد الأمثلة التطبيقية لا في المنهجية والتأصيل...!!

وخلاصة الكلام أن محاولة توظيف الدرس العلمي، والمنهجية العلمية لأجل غايات مذهبية ليس مما علم من مناهج العلماء بالضرورة...

هل للاعتقاد أثر في اختلاف الأصوليين من أهل السنة؟

اغتر بعض الباحثين الجدد بعبارات ذكرها أساطين الأصول رضي الله عنهم تفيدُ موضوعَ علم الأصول واستمدادَه إلى غير ذلك من مبادئ العلوم، وفهموا منها بأن الأصول مرتبط بالاعتقاد ومن ثَمَّ فإن العقيدة والاعتقاد سبب رئيس في الخلاف الأصولي!!! وقد يصدق ذلك من وجوه إذا أريد بذلك الاعتقاد المطلق فأهل الاعتزال خالفوا أهل السنة في بعض مسائل الأصول لاختلافهم ببعض مسائل الاعتقاد، والمسائل التي تكلم فيها أهل الأصول من المعتزلة واختلفوا فيها مع أهل السنة هي: التوحيد ويدخل ضمنها الصفات وكلام الله تعالى، والعدل والوعد والوعيد والسمع والعقل..

وأما أن يتوهم متوهمٌ بأن أهل السنة والجماعة اختلفوا في الأصول فيما بينهم بسبب خلافهم في الاعتقاد فهذا باطل وتهافت لا صحة له ألبته، فأهل السنة والجماعة من الأشاعرة والماتريدية وأهل الحديث الذين هم امتداد لمعتقد القرن الأول لم يختلفوا في الاعتقاد اختلافاً حقيقياً أبداً وقد جَمَعَهُم مسمى أهل السنة، بل إن عقيدة التوحيد واحدة لا تتغير ولا تُنسخ ولا تتطور عند جميع الأنبياء، قال تعالى: إن الدين عند الله الإسلام آل عمران: 52. فالتوحيد موروثٌ من آدم عليه السلام إلى آخر موحّد من أهل الأرض.

وأما قولُ الأصوليين بأن علم الأصول مستفاد من علم الكلام، فالمراد به علم الآلة الذي هو الميزان العلمي الذي تتميز به الحجج والبراهين، قال حجة الإسلام الغزالي: "ولتعلم أن علوم الشرع ثلاثة الكلام والأصول والفقه ولكل واحد منها مادة منها استمداده، وإليها استناده... فأما علم الكلام فمادته المَيْزُ بين البراهين والأغاليط والميز بين العلوم والاعتقادات، والميز بين مجاري العقول ومواقفها، وأما مقصوده -أي علم الكلام- فهو الإحاطة بحدوث العالم وافتقاره إلى صانع مؤثر متصف بما يجب من الصفات منزه عما يستحيل تخيله صفة للذات قادر على بعثة الرسل وتأييدهم بالمعجزات"(3). فبيَّن أن علم الكلام هو ضوابط وموازين يتوصل بها إلى النظر والمعتقد الصحيح، وليس عبارة عن معتقدات.

ومن ثَم فإن العلاقة بين علم الكلام هذا وبين الأصول تتمثل بكون الأحكام الشرعية لا تُعرف طرق استنباطها من أدلتها إلا بالأصول، بينما لا تثبت الأحكام الشرعية إلا بالوحي والخبر الصادق حيث يكون ثبوته من شأن علم الكلام، وهذا ما أشار له الغزالي رحمه الله تعالى: "وأما الأصول فمادته الكلام والفقه واللغة ووجه استمداده من الكلام أن الإحاطة بالأدلة المنصوبة على الأحكام مبناها على تقبل الشرائع وتصديق الرسل ولا مطمع فيه إلا بعد العلم بالمرسل"(4). 

وقال أيضاً: " الكلام هو المتكفل بإثبات مبادئ العلوم الدينية كلها"(5). 

فالكلام آلة مجردة لفهم العلوم وتحصيلها وليس معتقدا، لذلك قال: " فإن قيل: فليكن من شرط الأصولي والفقيه والمفسر والمحدث أن يكون قد حصَّل علمَ الكلام؟ ... قلنا: ليس ذلك شرطا في كونه أصوليا وفقيها ومفسرا ومحدثا وإن كان ذلك شرطا في كونه عالما مطلقا مليئا بالعلوم الدينية، وذلك أنه ما من علم من العلوم الجزئية إلا وله مباد تؤخذ مسلمة بالتقليد في ذلك العلم ويطلب برهان ثبوتها في علم آخر(6).

وبالنظر إلى مادة علم الأصول فإننا نجد مسائلها لا تتعلق بالاعتقاد، فأبواب أصول الفقه هي كما عدها الجويني في الورقات: أقسام الكلام والأمر والنهي والعام والخاص والمجمل والمبين والظاهر والمؤول والأفعال والناسخ والمنسوخ والإجماع والأخبار والقياس والحظر والإباحة وترتيب الأدلة وصفة المفتى والمستفتى وأحكام المجتهدين(7). 

والكلام المراد هنا هو الكلمة باللغة العربية، فأقل ما يتركب منه الكلام اسمان أو اسم وفعل أو فعل وحرف أو اسم وحرف، والكلام ينقسم إلى أمر ونهي وخبر واستخبار وينقسم أيضا إلى تمنّ وعرض وقسم، ومن وجه آخر ينقسم إلى حقيقة ومجاز...

وقال أبو المظفر المروزي: " وأشار الشافعي رحمه الله أن جماع الأصول نص ومعنى فالكتاب والسنة والإجماع داخل تحت النص، والمعنى هو القياس، وقد ضم بعضهم العقل إلى هذه الأصول وجعله قسما خامسا"(8). 

فليس في مسائله مسألة عقدية كما رأيت، وإن من مسائل اللغة والأمر والنهي ومباحث الخطاب فيها التي هي من مفردات مباحث الأصول؛ تفرّع خلافٌ بين المعتزلة وأهل السنة ترجع جذور بعض فروعه لمسألة أزلية الخطاب وهل الحكم نفس الخطاب، وانسحب الخلاف لفظيا وتنظيرياً بين الأشاعرة وليس هذا بذي بال في علم أصول الفقه، وهو عبارة عن خلاف لفظي كغالب الخلافات اللفظية عند أهل السنة والجماعة غير أن من لا يُقر بنظم عقد أهل السنة من الأشاعرة والماتريدية يُبرِز هذا الخلاف الشكلي على أنه خلاف عقدي، وخلاصة المسألة بين الأشاعرة -في كلام الله هل يطلق عليه خطاب- هي خلاف في اللفظ ومنازعة في الاصطلاح؛ لاتفاق الجميع على أزلية كلام الله تعالى وحكمه، إلا أن بعضهم أجاز تسمية كلامه خطاباً حقيقة، وبعضهم منعها حقيقة وأجازها مجازاً: إما لأن المراد بها اسم المفعول الذي هو الكلام المخاطب به، وإما لكون الخطاب عندهم له معنى آخر لا يستقيم على مذهب الجميع في كلام الله تعالى وأزليته، ولهذا قال الكوراني: «اختلف في الكلام في الأزل، أي: المعنى القديم القائم بذاته تعالى، هل يسمى خطابا أم لا؟ وهذا بحث لفظي، إذ هو مبني على تفسير "الخطاب"»(9)، وقال الأصفهاني في شرحه على كلام الرازي: «وأما قوله: "المخاطبة إنما تتصور بين المخاطِب والمخاطَب"، قلت: والمعني بالخطاب المعنى القائم بالذات، واستعمال هذا اللفظ في هذا المعنى من باب الاصطلاح، ولا مناقشة في الاصطلاحات ولا حجر»(10). 

وحتى الخلاف في تعريف الحكم بين الأصوليين والفقهاء هو خلاف لفظي ليس له أثر معتبر، ولست بصدد تفصيل هذه المسائل المألوفة عند أهلها والمشهورة في مضانها، لأن الحكم وأثره شيء واحد بالذات مختلفان بالاعتبار لأن الخطاب صفة للحاكم متعلق بفعل المكلف، فباعتبار إضافته إلى الحاكم سمي إيجابا، وإلى الفعل سمي وجوبا، والحقيقة واحدة والتغاير اعتباري كما أفاده التفتازاني في شرح التلويح، وقال الأستاذ الدكتور النملة: الخلاف بين أصحاب المذهب الأول –وهم الأصوليون القائلون: إن الحكم الشرعي هو خطاب الله- وبين أصحاب المذهب الثاني –وهم الفقهاء القائلون: إن الحكم الشرعي هو أثر خطاب الله- خلاف اللفظي لا أثر له يرجع إلى تفسير وبيان المراد من الحكم الشرعي والنظر إليه.

ومن النصوص التي اغتر بها هؤلاء أيضاً قول الإمام علاء الدين السمرقندي الحنفي في ميزان الأصول: " اعلم أن علم أصول الفقه والأحكام فرع لعلم أصول الكلام، والفرع ما تفرع من أصله، وما لم يتفرع منه فليس من نسله، فكان من الضرورة أن يقع التصنيف في هذا الباب على اعتقاد مصنف الكتاب"(11). 

ويريد بذلك اعتقاد أهل السنة بمقابل اعتقاد أهل الزيغ والضلال من المعتزلة والرافضة وغيرهم، وأما أهل السنة من الأشاعرة والماتريدية وأهل الحديث الذين هم امتداد لاعتقاد السلف الصالح فلا خلاف بينهم حقيقي في الاعتقاد ألبتة، وإنما وقع الخلاف في الفروع فقط.

ثم بيّن ذلك بقوله: " وأكثر التصانيف في أصول الفقه لأهل الاعتزال المخالفين لنا في الأصول، ولأهل الحديث المخالفين لنا في الفروع، والاعتماد على تصانيفهم إما أن يفضي إلى الخطأ في الأصل، وإما إلى الغلط في الفرع، والتجافي عن الأمرين واجب في العقل والشرع"(12). 

ويريد بذلك أصول الحنفية المخالفة لأصول الشافعية والحنابلة والمالكية وكلٌ يخالف أصول الآخر لأن كل واحد منهم مجتهد فيلزم أن تكون له قواعد وضوابط خاصة به.

وهذا يعني أن أهل الحديث يخالفوننا في الفروع وليس في الأصول، بينما المعتزلة الخارجين عن نهج أهل السنة فإنهم يخالفوننا في الأصول، فافهم.

وحديثنا نحن عن توهم أثر الاعتقاد عند أهل السنة في الخلاف الأصولي بينهم إذ أنه لا خلاف عقدي حقيقي عند أهل السنة بمختلف مذاهبهم الفقهية.

وهذا يقتضي بطلان المحاولات الحثيثة الداعية إلى تلفيق منهج أصولي على هوى المدرسة السلفية المعاصرة التي تُخرج الأشاعرة والماتريدية من مسمى أهل السنة وبالتالي تُخرج أساطين علم الأصول ومؤسسيه الأوائل وواضعي رسمه ومبيني مسائله، وهذا يعني إلغاء الطرق الثلاثة في التصنيف في أصول الفقه التي درج عليها جمهور من كتب في الأصول ممن سلف لأن المدرسة الأولى أشعرية والثانية ماتريدية والثالثة جمع بينهما..!!! 

فمن أراد أن يغاير فعليه بتأسيس قواعد وضوابط مختلفة تستند على معتقده وإلا فهو ضربُ تهافتٍ وحَنَقٍ طائفي مذهبي لا أثر علمي له...

(1) الوجيز في أصول الفقه للزحيلي، 1/33.

(2) أصول الفقه، أبو زهرة، ص13.

(3) المنخول، ص59.

(4) المنخول، ص60.

(5) المستصفى، ص7.

(6) المستصفى، ص7.

(7) الورقات للجويني، ص10.

(8) قواطع الأدلة، 1/23.

(9) الدرر اللوامع، 1/300.

(10) الكاشف على المحصول، 1/211.

(11) ميزان الأصول، 1/2.

(12) ميزان الأصول، 1/2.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين