طاعة الأبوين وبرهما

تحدثت بها صبيحة يوم السبت 8 من شعبان 1376 من إذاعة حلب

أيها المستمع الكريم، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد.

فعنوان حديثي إليك اليوم: طاعة الأبوين وبرهما.

قال الله تعالى في كتابه العزيز في سورة الإسراء: ﴿وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاهُمَا فَلاَ تَقُل لَّهُمَا أُفٍّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلاً كَرِيماً * وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُل رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيراً * رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا فِي نُفُوسِكُمْ إِن تَكُونُوا صَالِحِينَ فَإِنَّهُ كَانَ لِلأَوَّابِينَ غَفُوراً﴾.

يوصينا الله عز وجل في هذه الآيات الكريمة بالوالدين إحساناً وخيراً، ويدعونا إلى طاعتهما وإكرامهما، ويكفي بياناً لعِظَم حقهما أن الله تعالى قَرَنَ الوصية بهما بالأمر بتوحيده وعبادته، وحكى من أحوالهما ما يدفع إلى برهما والتواضع لهما على أحسن وجه وأطيب احترام.

وقد جاءت آيات كثيرة في القرآن الكريم، تحض على طاعة الأبوين وتأمر بأداء حقوقهما والقيام برعايتهما ومصاحبتهما على خير تكريم وإحسان، حتى ولو كانا مشركين، قال الله تعالى في سورة العنكبوت: ﴿وَوَصَّيْنَا الإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْناً وَإِن جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلاَ تُطِعْهُمَا إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ﴾، وقال أيضاً في سورة لقمان: ﴿وَوَصَّيْنَا الإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْناً عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ المَصِيرُ * وَإِن جَاهَدَاكَ عَلَى أَن تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلاَ تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفاً وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ﴾.

نزلت هذه الآيات الكريمة، في سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه حين إسلامه، قال سعد: كنت رجلاً بَرَّاً بأمي، فلما أسلمتُ قالت لي: يا سعد، ما هذا الدين الذي قد أحدثت؟! لتَدَعَنَّ دينَك هذا أو لا آكل ولا أشرب حتى أموت فتُعيَّرَ بي فيقال: يا قاتل أمه! قلت: يا أماه لا تفعلي، فإني لا أدع ديني هذا لشيء. قال: فمَكَثَتْ يوماً لا تأكل، ثم أصبحت وقد جَهَدَت - أي ضعفت - ثم مَكَثَتْ يوماً آخر وليلة لا تأكل فأصبحت وقد اشتد جَهْدُها، فلما رأيت ذلك قلت لها: تعلمينَ يا أماه، والله لو كانت لك مئة نفس، فخَرَجَتْ نَفْسَاً نفساً، ما تركت ديني هذا لشيء، فإن شئتِ فكُلي وإن شئت فلا تأكلي. قال: فلما رأت ذلك أكلت. فأنزل الله فيه هذه الآيات ونهاه الله فيها عن الشدة في خطابه، وأمره أن يُداري والدته، ويترضاها بالإحسان في المعاملة والصحبة، وألاّ يطيعها في الشرك بالله تعالى.

وقد استنبط العلماء من قوله تعالى ﴿وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا﴾ وجوبَ محاسنة الأبوين في المعاملة، ولزوم الإنفاق عليهما ولو كانا مشركين عند حاجتهما إلى النفقة، فحقُّ الأبوين حقٌّ خطير جداً، وحسبك أن تعلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جعله مُقَدَّماً على الهجرة والجهاد في سبيل الله في بعض الأحيان، روى عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما، أن رجلاً جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يبايعه على الهجرة، وترك أبوين يبكيان، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: ارجع إليهما وأضحِكْهُما كما أبكيتَهُما.

وروى البخاري عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فاستأذنه في الجهاد، فقال: أحَيٌّ والداك؟ قال: نعم. قال: ففيهما فجاهد. أي في برهما وطاعتهما فجاهد. فالإحسان إلى الوالدين ورعايتهما واسترضاؤهما بما يرضي الله عز وجل، يُعَدُّ جهاداً وهجرة إلى الله ورسوله. وقد قال العلماء: لا يجوز للرجل أن يخرج إلى الجهاد في سبيل الله بغير إذن والديه، ما لم يكن هناك نفير عام، أو ضرورة تحتم عليه فرض الجهاد، فإن وقعت تلك الضرورة، فلا حاجة لإذنهما.

ولقد بلغ من إعظام حقِّ الأبوين في نظر الإسلام، أن الله تعالى قَدَّم حقَّهما على حقِّ الله تعالى سبحانه، فأوجب على الابن، إذا ناداه أحد أبويه وهو يصلي الصلاة النافلة، وكان أبوه لا يعلم أنه في صلاة، أوجب عليه قطع الصلاة النافلة، وإجابة نداء أبيه[1]، وفي هذا من التكريم للأبوين والاحترام والتقدير، ما ليس بعده تقدير أو احترام، وقد صوّر الرسول الكريم عليه الصلاة والسلام في حديث آخر حق الأبوين، صورة رائعة وافية حين قال: "لا يجزي ولدٌ والده إلا أن يجده مملوكاً فيشتريه فيعتقه".

فيا أيها المؤمن: أكرم والديك، وجاهد في برهما، وأعطهما حقهما من عطفك وإحسانك، وكن بهما رحيماً رقيقاً، ولا تقابلهما بمكروه أو جفاء، وتلطف في خطابهما ولقائهما، وأنفق عليهما مما أنعم الله به عليك سخياً كريماً مبتهجاً مسروراً، وابذل نفسك في خدمتهما إلى أبعد غاية، ولا تظن في نفسك أن ذلك امتهان لكرامتك وهبوط من عليائك، كلا! بل هو فخر عظيم وشرف رفيع تتحلى به حينما تخدمهما، فأنت لولاهما لما كنت شيئاً مذكوراً، فقد رعياك صغيراً وأنت قطعة لحم، وتعهداك باذلين كل ما في وسعهما لتكون على خير ما يتمنيان، وبذلا في تنشئتك النفس والنفيس، وسهرا الليالي الطويلة في جلب راحتك، ووجدا عذابهما في راحتك عذاباً حبيباً، وإذا حل بك مرض، أو نزلت بك شدة، وَدَّا أن تكون تلك الشدة مُلِمَّةً بهما دونك.

فحذار أن تظنَّ بنفسك أنك إذا حُزْتَ منزلة، أو كسبت شهادة، أو ارتقيت منصباً، أو ملكت معرفة وعلماً، أنك إنما كسبت هذا بجهدك الفذ، وعصاميتك المستقلة، فلولا رعايتهما لك، وعنايتهما بك، مرحلةً مرحلةً من حياتك، لما أُتيحت لك تلك المنزلة، ولا تهيأت لك تلك المعرفة والشهادة، ولا حزت ذلك المنصب الحميد، ولا كنت ذلك الإنسان المرموق.

وإذا كنت ترى أنَّ من واجب الإسلام عليك أن تكون بَراً بإخوانك ومعارفك، تبسط لهم بِشْرَكَ ولطفك، وتتحفهم بأنسك وأدبك، وتلين لهم القول والخطاب، وتبتسم لهم عند اللقاء والتحية، وتقدمهم في المسير عليك، وتكرمهم بالنداء والتسمية، وتصغي لهم عند الحديث والمناقشة، وتتغاضى عن بعض هفواتهم، وتتجمل لهم في كل شؤونك، فإن أحق الناس منك بهذه المعاملة أبواك اللذان كانا لك الظل الظليل، والكنف الوادع، والموئل الرحيم، والمدرسة والمجتمع.

وإياك أن تتساهل في تكريمهما واحترامهما، زاعماً أنه لا كلفة بين الأب وابنه، والأم ونجلها، فقد جاء رجلٌ إلى سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، مَنْ أحقُّ الناس بحسن الصحبة مني؟ قال: أُمُّك. قال: ثم من؟ قال: أمك. قال: ثم من؟ قال: أمك. قال: ثم من؟ قال أبوك، ثم أدناك أدناك. أي الأقربُ فالأقرب.

فيا أيها الأبناء، ارعوا حقوق الوالدين وبروهما أتم البر، وتجنبوا العقوق والقطيعة والتقصير معهما، فإنَّ كل ما تفعلوه معهما يُؤدى لكم من أبنائكم في الكبر، فإن أحسنتم أحسنتم لأنفسكم، وإن أسأتم فلها، وما تفعلوا من خير يُوَفَّ إليكم وأنتم لا تظلمون.

والسلام عليكم ورحمة الله.

من كتاب" أيها المستمع الكريم" إعداد ومراجعة محمد زاهد أبو غدة

[1] أخذاً من حادثة جريح العابد حين جاءته أمه ونادته وهو في صلاته فاستمر ولم يجبها وخطئ في استمراره وعدم إجابتها.

جميع المواد المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين