ضيق الخلق.. أنواعه وعلاجه

أثناءَ جُلوسي في ذلك البَهو الكبير، يَجرح صمتَ المكان صوتٌ متكررٌ طن...طن .... طن!!!! تتواطئُ مع هذا الصوت تكاتُ ساعتي. دقائقُ متكررة، ساعاتٌ ثقيلةُ الخُطى، هل عرفتم أينَ أنا الآن؟ انني انتظرُ دوري في المصرف حيثُ الدقيقةُ بساعة، والساعةُ بسَنة!

للشوارعِ المزدحمة وصالاتِ الانتظارِ أسلوبٌ عجيبٌ في انعاشِ المللِ داخلَ نفسي. وأنتم مالذي يشعركم بالملل؟

إحساسُ المللِ ظَل مُساءَ الفَهم ومبهمًا لفترةٍ طويلة، نقاومهُ بأشكالٍ مختلفة من التسلية والتنفيس. فهل الملل شعورٌ سيئ؟ وهل هناكَ وصفةٌ لعلاجهِ؟

اختلفت مسمياتُ المللِ في لهجاتنا الشعبيةِ، فهوَ طفشٌ أو زهقٌ أو ضجر وفي أسوأ أحواله قد يتحولُ الى قرف، وكلها تشيرُ الى حالةٍ ذهنيةٍ معينة تدلُ على نقصٍ بالتحفيز وتكرارٍ في المشاهِد دونَ ترقُبٍ أو تلهُفٍ لجديد. إنه المؤشرُ الأهم لانخفاضِ المتعةِ أثناء أداء نشاطٍ معينٍ ويدفعُنا للبحثِ عن الطريقة المُثلى للانجازِ المُمتعِ. فالمتعةُ تطفئُ المللَ كما يطفئُ الماء النار.

قد تعتقد أن للمللِ وجهًا واحدًا، لكن بحسب عالمِ الاجتماع الألماني مارتن هايدجر، هناك أربعةُ أنواع للملل وبحسب السبب يكون السلوك الملائم، أشهرها المللُ الظرفي: الذي يأتيك بغتةً في صالات الانتظار وفي الشوارع المزدحمة أو أثناء محاضرةٍ كئيبةٍ طويلة. عندها تتثاءب أو تنعس أو تقرر لحظتها أن هاتفك هو الحل. لكنه ليس الوحيد! فحيث تتوقع أن الملل ظرفي، كن جاهزاً بعُدّتك لمكافحة الملل، كتيبٌ صغير، كتابٌ مسموع، ممارسة هواية بسيطة كالرسم أو التحدث إلى أحد الأصدقاء – كلها خيارات تمتعك وتنقلك من الإحساسِ بضياع الوقت إلى السعادة باستثمارهِ.

أما النوع الآخر فهو ملل الاكتفاء: يصاحب وفرةَ الاختيارات. وهو تخمةُ الحصول على الشيءِ ذاته ويصبح ما رغبت بالحصول عليه يومًا شيئًا مألوفًا بل مكروهًا. كل ماعليك فعله هو تعلم الجديد و تطوير الأهداف وتجزئتها فتكون السعادةُ رفيقة الدرب وليست غايةً لا تُدرك.

النوع الثالث هو الملل الوجودي: يتواجد عند اختفاءِ المعنى من الحياة، هو شعور دائمٌ وعميق. تشعرُ بوجودهِ بثِقل الأيام وتلاشي الرغبات وفراغٍ في الرُوح، ويتحول العالم الى كتلةٍ غير معروفةِ الأبعاد بلا نكهةٍ او لونٍ او طعمٍ او حتى رائحة. أهم ما يمكنُ أن تفعله في حياتك إذا واجهت هذا النوع، هو البحث عن معنى وجودكَ وقيمته، والتأملُ في ذاتك لتجدَ القوة التي تدفعك للنهوض بعد العثرات. أقرأ كتاب "الإنسان يبحث عن معنى" للدكتور فيكتور فرانكل فهو مؤسس مدرسة العلاج بالمعنى.

أما النوع الأخير فهو الملل الإبداعي: فإذا كنت فنانًا او كاتبًا او موسيقيًا، فالملل عندك هو أسوأ شعور. هذا النوع يصيب المبدعين حصرًا. كنتيجةٍ لشحِ الإلهام بل انقطاعه، عندها فقط يحدقونَ بالجدران وبياضِ لوحاتهم وألوانهم المبعثرة. هذا النوع من البشر يعيشُ على الإلهام لتحقيق اهدافهم ونثرِ ابداعاتهم وتخليدِ افكارهم في صفحات التاريخ الى الأبد. فإن كنت يا صديقي مبدعًا في مجالٍ ما، تمَلّكْهُ، اعرف عنه كل شيء. وتذكر أن الالهامَ وحيُ الحياة، فأينما وجهتَ وجهكَ بعقلٍ متقدٍ وقلبٍ منفتح، وجدتَ ضالتك.

قد يبدو الملل صعبًا على الفهم، لكن إذا عُرف السبب بطل العجب. يشكّل المزيج من التكرار وغيابُ حالة الانغماس بِذْرة الإحساس بالملل. فالتكرار يعود أدمغتنا على رؤيةِ الأنماطِ وتوقع القادم. أما غياب حالة الانغماس يؤدي إلى سهولة الاستسلام للمشتتات وضعف الإنتاجية كماً و نوعاً. فالاستغراق في أداء المهام والشعور بلذة القيام بها هو نمطُ حياةٍ إيجابي أنيقٍ جدًا. كتابُ "قوة الآن" لكاتبه اكهارت تول و كتاب قوة الانغماس الكامل "The Power of Full Engagement" للكاتبين جيم لوهر وتوني شوارتز هي من أجود الكتب لجعل انجازاتكم ممتعة خالية من الملل.

إذا كان شعور الملل يطغى على يومك فلا تستسلم له واملأ حياتك فضولاً و متعةً.

وأخيراً، انهيت كتابة مقال الملل مع وصول دوري في المصرف وعدت إلى عملي منتصرًا على الملل وسعيداً بمقالي الجديد.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين