صيانة العلم وحفظه

مما لا شك فيه أن العلوم الإسلامية كانت في عهد السلف الصالح علماً واحداً، وكان يسمى بالفقه، فكل عالم من الصحابة ومن التابعين تراه موسوعة علمية في التفسير والفقه والحديث واللغة..، كأنه زجاجة عطر جمعت عطرها من كافة الزهور. 

ثم تخصصت العلوم وصار لها شيوخها وأساتذتها، فلا تجد علماً إلا... وله مئات الحراس من العلماء عبر القرون، يحمونه من الدخيل عليه، يقعدون قواعده، ويحددون إطاره العام والخاص، فصار علم التفسير والعقيدة والفقه والحديث..، وهذه من معجزات هذا الدين، ومن إخبار سيد المرسلين.

قال النووي والخطيب البغدادي والمناوي وابن تيمية رحمهم الله تعالى وغيرهم بعد أن استدلوا بحديث ((يَحْمِلُ هَذَا العِلْم مِنْ كُلِّ خَلَفٍ عُدُولُه؛ يَنْفُون عَنْه تَحْرِيف الغالين، وانْتِحَالَ المُبْطِلِيْن، وَتَأْوِيل الجاهِلِيْن)) [قال في قواعد التحديث ج1/ص48 : رواه من الصحابة غير واحد أخرجه ابن عدي والدار قطني وأبو نعيم وتعدد طرقه يقضي بحسنه..] 

قالوا: هذا إخبار منه صلى الله عليه وسلم بصيانة العلم وحفظه وعدالة ناقليه، وأنه تعالى يوفق له في كل عصر خلقاً من العدول يحملونه، وينفون عنه التحريف، وهذا تصريح بعدالة حامليه في كل عصر وهذا من أعلام نبوته، ولا يضر معه كون بعض الفساق يعرف شيئاً من العلم، بأن الحديث إنما هو إخبار بأن العدول يحملونه، لا أن غيرهم لا يعرف منه شيئاً، وفيه فضل العلماء على الناس وأنه يجب الرجوع إليهم والمعول في أمر الدين عليهم رضي الله عنهم، وفيه فضل الفقه على جميع العلوم)) [أكثر هذه العبارات من فيض القدير ج6/ص396]. 

فعلى الرغم من تعرض العلوم الشرعية إلى الفكر الظاهري ، والمعتزلي، والإرجائي وغيرها إلا أنها حافظت على هويتها، فلم يدخل فيها ما لم يقرره علماؤها، وهذا الشأن حاصل لجميع العلوم وأولها علوم التفسير والعقيدة، والحديث وأصول الفقه، والفقه.

إلى أن جاء هذا الزمن وتيتم علم الفقه فيه دون غيره، والذي استطاعت بعض الأفكار استباحة هذا العلم، كدعوى اللامذهبية الظالمة، فما عُدت تدري من أي مذهب جاءت فتواهم ولا دليلها، وإن أتي بدليل ترك غيره من الأدلة في المسألة نفسها، ليظهر ضلال الآخرين وخطئهم حسب ظنه الفاسد، تبعاً لهوى في نفسه.

لماذا لا يقولون باللامذهبية في علوم التفسير والأصول والحديث والعقيدة.. ويحملون الناس على المذهبية في العقيدة (إن صح لهم مذهب في العقيدة)!؟ يا للعجب 

كل العلوم تخصصت وتمذهبت، على مدى أربعة عشر قرناً فهناك مدرسة التفسير بالمأثور، ومدرسة التفسير بالرأي، وفي علم الأصول: منهج المتكلمين، ومنهج الحنفية، وفي العقيدة الأشعرية والماتريدية، وهكذا.. 

 

تلك العلوم كانت أغلب قواعدها في ذاتها فعسر عليهم خوضها ودعوى اللامذهبية فيها، بخلاف علم الفقه فأغلب قواعده في غيره، وهو علم أصول الفقه؛ المستمد من القرآن الكريم والسنة المطهرة..

 

وأول من قام بفصل علم الفقه عن علم أصول الفقه تدويناً هو الإمام الشافعي رحمه الله تعالى في كتابه الرسالة، وقد كان علم أصول الفقه مستقراً في ذهن الصحابة والتابعين.

وهذا الفصل من نعم الله تعالى على هذه الأمة في بيان كيفية طرق الاستدلال في الاستنباط.

 

وحتى البخاري رحمه الله تعالى لما كتب فقهه في تراجمه [عناوين الأبواب في صحيح البخاري] يظن بعض الناس أنه اعتمد مجردا ًعلى مادة الحديث فقط، وهذا من الجهل بمكان.

 

بل قرر القواعد الأصولية أولاً عموما وخصوصا والمستمدة من القرآن والسنة، ثم دون من الفقه بما يتناسب مع القواعد الأصولية التي استقرت في ذهنه، ولربما لم يذكر أحاديث صحيحة لأنها لا تتوافق مع المنهج الأصولي، 

 

ثم تراه يستدل بقاعدة أصولية كالقياس مثلا دون أن يشعر القارئ أنه اعتمد عليها، وإلا فما معنى أن البخاري رحمه الله انتقى حديث كتابه الصحيح من مئة ألف حديث صحيح ؟! كما أخرج عنه الحازمي رحمه الله تعالى قوله: ((أحفظ مئة ألف حديث صحيح، وأحفظ مئتي ألف حديث غير صحيح)) [شروط الأئمة الخمسة (تحقيق الشيخ عبد الفتاح أبو غدة رحمه الله تعالى) ص160].

ومثال ذلك: ما أخرجه البخاري رحمه الله تعالى وترجم عليه: بَاب الصَّلاةِ بَعْدَ الْجُمُعَةِ وَقَبْلَهَا؛ ثم أتى بحديث عبد اللَّهِ بن عُمَرَ رضي الله عنهما أنه قال: ((إَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كان يُصَلِّي قبل الظُّهْرِ رَكْعَتَيْنِ وَبَعْدَهَا رَكْعَتَيْنِ وَبَعْدَ الْمَغْرِبِ رَكْعَتَيْنِ في بَيْتِهِ وَبَعْدَ الْعِشَاءِ رَكْعَتَيْنِ وكان لا يُصَلِّي بَعْدَ الْجُمُعَةِ حتى يَنْصَرِفَ فَيُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ))( ).

قال بعض شراح صحيح البخاري: ((لم يقع ذكر الصلاة قبل الجمعة في هذا الحديث، فلعل البخاري أراد إثباتها قياساً على الظهر)) فتح الباري 2/426 ( ).

والبخاري رحمه الله تعالى لم يأت بالحديث الذي يصرح بسنية الصلاة قبل الجمعة، لأنه ضعيف، فالاعتماد على القاعدة الأصولية أولى من الاعتماد على الحديث الضعيف، والحديث أخرجه الترمذي رحمه الله تعالى وغيره عن ابن عَبَّاسٍ رضي الله عنهما أنه قال: ((كان النبي صلى الله عليه وسلم يَرْكَعُ قبل الْجُمُعَةِ أَرْبَعًا لا يَفْصِلُ في شَيْءٍ مِنْهُنَّ)).

 

فترى بعضهم قد تركوا سنة الجمعة القبلية جهلا مع أنها مقررة عند أغلب جمهور أهل العلم ومنهم الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله تعالى كما حدث عنه ولده عبد الله رحمهم الله [مطالب أولي النهى ج1/ص782] 

لذلك تجد الجاهل في علم الفقه وأصوله ينتقد الفقيه إذا ذكر حديثا ضعيفا أثناء الاستدلال بالأحكام الشرعية، وما علم بسبب جهله أن هذا الحديث الضعيف ليس عمدة الاستدلال، بل جيء به للاستئناس، فمن الطبيعي أن ترى في كتاب مثل الأم للشافعي رحمه الله تعالى العشرات من الأحاديث الضعيفة.

فيا من تصدر للفتوى من جماعة دولة الإسلام والجماعات السلفية المتشددة اتقوا الله تعالى في تصدير الأحكام الفقهية،

إذا أردت أن تصدر تفسيرا لآية فارجع إلى القواعد الأساسية في التفسير، 

 

وإذا أردتم أن تفسروا حديثا أو تحكموا عليه فارجعوا إلى قواعد التحديث ونقد الرجال،

 

وإذا أردتم أن تدلوا بآراء فقهية فارجعوا إلى قواعد علم أصول الفقه ولا يصح الاعتماد على الحديث الصحيح مجردا،

 

وإذا أردتم أن تصدروا حكما عقديا فيجب عليكم الإلمام بقواعد التفسير والحديث وعلم الفقه وعلم أصول الفقه وعلم اللغة العربية.

وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين