صيامُ مسلمي أوروبا.. هل يُشكّل خطراً على المجتمع؟

أثارت إنغر ستويبرغ، وزيرة شؤون الهجرة والاندماج الدنماركية جدلاً واسعاً بمقالها المنشور قبل بضعة أيام في صحيفة "بي تي" الدنماركية والذي "دعت فيه المسلمين إلى أخذ إجازة من العمل خلال شهر رمضان؛ لتفادي تداعيات سلبيَّة على بقية المجتمع الدنماركي، وتابعت: أتساءل عما إذا كان فرض ديني إسلامي عمره 1400 عام يتوافق مع المجتمع وسوق العمل في الدنمارك في العام 2018؟! 

وقالت: إن الصيام طوال يوم العمل يمثل تحديا للمجتمع الحديث، وأنها تخشى من أن يؤثر الصوم على السلامة والإنتاجية، وضربت مثالاً بسائقي الحافلات العمومية والعاملين في المستشفيات، مما يعني إمكانية أن يشكل الصيام خطراً على أشخاص آخرين". لا ولا نعرِف من طالَب المسلمين بالإفطار في رمضان لأجل العمل والانتاج سوى الرئيس التونسي الراحل الحبيب بورقيبة عام1961م، وقد ردَّ عليه وقتها الشيخ الطاهر بن عاشور قائلاً: صدق الله وكذب بورقيبة! 

وهذه التصريحات من وزيرة الاندماج تضر بقيم المواطنة، والعيش المشترك، وتشكل عدواناً صارخاً على الحرية الدينية للمسلمين التي كفلها لهم الدستور، وتدعم تيار العنف والتشدد، وتكدِّر السلم الاجتماعي. وقد أحسن الساسة والكتَّاب الذين رفضوا بوضوح تصريحات الوزيرة الدنماركية وانتقدوها، كما أكَّدت شركات الحافلات الدنماركية: أنه لا توجد لدينا مشاكل مع الصيام، وقالت شركة "أريفا" التي تدير عدداً من خطوط الحافلات في الدنمارك: إنها لم تتعرض قط لأي حوادث بسبب سائقين صائمين. وقالت "بيا هامرشوي" المتحدثة باسم الشركة: "الأمر لا يمثل مشكلة بالنسبة لنا" بل تساءل اتحاد "3 إف" لوسائل النقل في الدنمارك على لسان رئيسه "يان فيلادسن" عما إذا كانت الوزيرة تريد اختلاق مشكلة غير موجودة؟ 

أسئلة مشروعة

وأود هنا أن أتوجه بمجموعة من الأسئلة لوزيرة الهجرة الدنماركية: 

هل يتوافق طلبك للمسلمين بأخذ إجازة في رمضان مع طبيعة مسؤوليتك كوزيرة للهجرة التي تقتضي معرفتك بالآخر ومعتقده، وهل تخدم عملية الاندماج التي تضطلع بها وزارتك، وهل تتوافق مع الحرية الفردية للأشخاص المنصوص عليها دستورياً، وهل يمكنك مطالبة أي طائفة دينية أخرى غير المسلمين بالامتناع أو التوقف عن عبادتهم، وهل تقبلين أن يدعو وزير مسلم في بلد مسلم إلى عدم صيام المسيحين فيها، أو ترك الاحتفال بأعيادهم تحت أي مبرر، هل فكرتِ بصورة معكوسة وقلتِ: هل للصيام أثر إيجابي على العمل والمجتمع؟ ألم يكن الأولى المطالبة بمنع التدخين في العمل؛ لأن ضرره ملموس، ومحسوس، ومدروس؟

كلام غير علمي وغير واقعي ومنقوض بالتجربة

إن كلام الوزيرة غير علمي؛ لأنه لم يتأسَّس على دراسة علمية رصدية قامت بها جهة موثوقة توضح لنا كم سائق مسلم تسبب صومه في حادث سير، وكم طبيب مسلم أضر صومه بمرضاه، وكم معلم صائم قصَّر في عمله بسبب صومه، وهكذا. وإنما انطلقت الوزيرة من حكم مسبق في مخيلتها وحدها وهو ما يجعل حديثها فاقداً للمصداقية والموضوعية والعلمية. وكلامها كذلك غير واقعي وتنقضه التجربة العملية، فقد صام ملايين المسلمون في أوروبا صيفاً وشتاءً، صغاراً وكباراً، واستمروا في أعمالهم دون أدني ضرر، أو أثر سلبي للصيام عليهم، يؤكد هذا ما أوردناه من استنكار المسؤولين عن شركات الحافلات لطلب الوزيرة واعتبار حديثها هو عين المشكلة وليس الصيام. 

الأثر الإيجابي للصيام على العمل والمجتمع الأوروبي

لكن السؤال المعكوس المهم هو : هل يمكن أن يكون للصيام أثر إيجابي على العمل والإنتاج، أم أنه حقاً يشكل خطراً على المجتمع كما زعمتْ؟ الصيام نظرياً وعملياً له أثر إيجابي مهم على العمل والإنتاج، وإن وقع غير ذلك فمرجعه إلى فهم المسلمين وممارساتهم الخاطئة في شهر رمضان؛ إذ يعتبره البعض فرصة للنوم والكسل. وأدلل على ذلك بما يلي:

يوفر العامل الصائم وقتاً كثيراً يضيعه في وجبتين رئيستين هما: الفطور والغداء فضلا عن أوقات المشروبات والذهاب للخلاء، وهذا الوقت يتوفر للعمل وبالتالي يزيد الإنتاج.

من أهم مقاصد الصيام: المراقبة لله عز وجل؛ لأنه الفريضة الوحيدة السرية التي لا يعلمها إلا الله، ومراقبة الصائم لربه تجعله يراقب الله في عمله، ويحمِلُه حاله كصائم على الخوف من تضييع الوقت في العمل وأكل راتب حرام، وقد حدثني شاب مسلم مولود في ألمانيا يعمل مهندسا في شركة كبرى أن رئيسته في الشركة قالت له: لاحظتُ لعامين متتاليين ارتفاع معدل إنتاجك في العمل في شهرٍ واحدٍ على مدار العام دون بقية الأشهر، هل يمكن أن تخبرني بسِر ذلك؟

قال: أخذت ُ أفكر وأراجع فكانت مفاجأةً لي أن هذا الشهر هو شهر رمضان. وأرجعتُ ذلك إلى مراقبة الله عز وجل في العمل، والخوف من فقد الثواب الكامل للصيام حالة التقصير في عملي الذي أتقاضى عليه أجراً، وكذلك توفير وقت الطعام والشراب للعمل.

الصيام يعلم الصائم الانضباط في الوقت، فالدقيقة قبل الإفطار تضيّع صيام اليوم، وهذا الانضباط في العبادة ينتقل إلى العمل حضوراً وانصرافاً، والتزاماً وأداءً، وتجويداً وتحسيناً، ومعلومٌ ما يحدث من الموظفين في الشركات والمؤسسات من تفنن في تضييع الوقت وهدره، بما يقلل من الإنتاجية والقيمة الفعلية للعمل.

الصيام يعلم الصبر وقد سمى النبي صلى الله عليه وسلم رمضان" شهر الصبر"، فالصائم يصبر على الجوع والعطش والشهوة، فيتدرب في مدرسة الصيام لثلاثين يوما في العام على الصبر في العمل فيتعلم الجديد، ويصبر على مشقة العمل، ويصبر على زملائه في العمل، مما يضيف قيمة مهمة تفيد إنتاجيته ومعدلات أدائه ولا تضره كما يتوهم.

والصيام يعلم الإخلاص والتجرد؛ لأن أهم وسيلة لتحصيل الإخلاص هي عبادات السر، وأكثر ما تتضح السرية في الصيام، والعامل إذا كان مخلصاً في عمله سيؤديه على أكمل وجه، وسيكون وفياً للمؤسسة التي يعمل فيها حريصاً على رُقيها وتقدمها، يعطيها مثلما يأخذ منها.

الحقيقة الفعلية العلمية للصوم أنه مفيد للبدن، بل علاج لالتهاب المفاصل، أكثر الأمراض إضراراً بالعمل، فالعامل الصائم أكثر حيوية وصحة من غيره، وهناك مستشفى معروف في ألمانيا للعلاج بالصيام اسمه: (مركز الصوم العلاجي) وقد أُسس منذ 98 عاماً، وكان سبب تأسيسه أن صاحبه أصيب بالتهاب مزمن للمفاصل ولم يجد علاجا عند الأطباء، فنصحه زميل له بالصيام فصام تسعة عشر يوماً وكانت المفاجأة أنه شُفي تماماً ومن وقتها أسَّس هذا المركز وتوارثه أولاده وأحفاده، وكتب حفيده الذي يدير المركز الآن كتابا اسمه: الصوم الطريق الملكي للعلاج. وإن كان هذا الصيام يُسمح فيه بشرب القليل من الماء، إلا أن المشترك بينه وبين صيام المسلمين هو الامتناع عن الطعام لساعات طويلة وأيام معينة في السنة مع تقليل شرب الماء. فهل تجرؤ وزيرة الهجرة والاندماج على المطالبة بإغلاق هذا المشفى، أو وصف العلاج بالصوم أنه غير مناسب لأوروبا؟!

يغرس الصيام في نفس الصائم روح الجماعية، ببدء الإمساك والصيام في دقيقة واحدة من كل المسلمين في المدينة أو المسجد، وكذلك بالإفطارات الجماعية وترغيب الشارع في تفطير الصائم، وهذه الروح الجماعية مهمة جدا للعمل؛ حيث تتطور المؤسسات التي تعمل بروح الفريق أسرع من غيرها التي تعمل بالنظام الفردي.

ولو علمت وزيرة الاندماج أن الصيام يحقق هذه المقاصد للعمل لقالت: إن الصيام يمثل حصن أمان للمجتمع، ويضاعف الإنتاج، وعلى العمال غير المسلمين أن يتعلموا هذه القيم من المسلمين الصائمين، ولبادرتْ إلى تهنئة المسلمين برمضان كل عام؛ لتكون بحق وزيرة للاندماج.

جمالية الصيام ومناسبته للأماكن والأزمنة

إن الله تعالى لما فرض الصيام على المسلمين، فرضه متناغماً متناسباً مع حياتهم وأعمالهم، وخادماً لها لا مضراً بها؛ لأنه تبارك اسمه هو الذي خلقنا، وهو يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير، وشريعة الله صالحة لكل زمان ومكان، يستحيل فيها النقص أو الخلل أو عدم مناسبة زمان أو مكان، فهي شريعة خالدة؛ لهذا صام المسلمون منذ فرض الصيام في السنة الثانية للهجرة إلى يومنا هذا وستستمر هذه العبادة ما استمر الليل والنهار بإذن الله.

وقد شرع الله الرخص لأصحاب الأعذار فجوَّز لهم الفطر مع القضاء أو الفدية حسب حالتهم، كالمريض والمسافر، والحامل، والمرضِع، وأصحاب المهن الشاقة بطريق القياس، فاكتسبت العبادة بتلك الرخص جمالا خاصا؛ إذ صار الجميع مخاطبا بها مع رعاية وتقديم الحلول البديلة لأصحاب الأعذار، وقد أفتى المجلس الأوروبي للإفتاء والبحوث لمسلمي أوروبا مع طول النهار صيفاً: أن من وقع في مشقة شديدة بسبب طول النهار والعمل فمنعه الصوم من ممارسة حياته الطبيعية فله الفطر وعليه القضاء شتاء، كما جوَّز للطلبة الذين يؤدون الامتحانات التي لا يمكن تأجيلها الفطر، إنْ أضرَّ الصيام مباشرة بتحصيلهم وتركيزهم ووقعت لهم مشقة شديدة، وبهذا تتناغم الفريضة مع كل الناس ويرتفع الحرج بوجود تلك الرخص.

تعادل كوني

ولئن كان مسلمو أوروبا يصومون نهاراً طويلاً بين 18 إلى 20 ساعة فإن الله امتنَّ عليهم بعدم الشعور بالعطش، وبنهار قصير جداً شتاء، فنهارهم الطويل صيفاً، يعادل القصير شتاءً، والطويل صيفاً مع عدم الشعور بالعطش، يعادل القصير في المناطق الحارة مع الحاجة الشديدة للماء. فحدث بذلك هذا التعادل الكوني بين صيام النهار الطويل والقصير في أوروبا والعالم.

واجب الوقت على مسلمي أوروبا

إن واجب الوقت على مسلمي أوروبا اليوم هو القيام بالدراسات العلمية الطبية الرصدية الدقيقة على الصائمين العاملين في مختلف المهن والوظائف والأعمار والجنسيات، ليتأسس على هذه الدراسات القرار الصحيح للمفتي والسياسي، وليتمكن المسلمون من تقديم دينهم بعلمية تناسب عصرهم والبيئة التي يعيشون فيها.

"وَاللهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ"

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين