صورة جامعة شامِلة عن شخصيّته العظيمة وشمائله الكريمة

عظمة الشخصيّة النبويّة:

إنّ الناظر في التاريخ الإنسانيّ القديم والحديث، وسير الأنبياء والرسل، والملوك والأمراء، وأصحاب المذاهب والدعوات، يجد أنّهم يتمتّعون بشخصيّات قويّة، تفرض آراءهم على من حولهم، وتجعل كلامهم مسموعاً، وأمرهم مطاعاً.

وقد يكون من أسبَاب هذه الشخصيّة القويّة: التجبّر والتكبّر، والبطش بمن يخالفهم، أو يحاول أن يخالفهم في الآراء، أو يساميهم في المركز والسلطان، وقد يكون من أسبَابها ما يكون عليه الإنسان من بسطة في الجسم، وما يمتاز به من قوّة وشجاعة وبطولة، ولا سيّما في الحروب، وعند لقاء الأبطال.

وقد يكون مبعثها ما أسبغ الله على صاحبها من هيبة ووقار، وما يمتاز به من عظمة الخلق، وما يتحلّى به من الفضائل، التي تفرض احترامه على الناس، وما يتمتّعون به من عدل ورحمة، وبرّ وإحسان، وقد يكون مبعثها أنّه من بيت عريق، يتوارث أصحابُه المجد صاغراً عن كابر.. إلى غير ذلك من الأسباب والبواعث.

ورسل الله عليهم الصلاة والسلام قد أضفى الله عليهم من الهيبة والوقار، والكمال الخِلقيّ والخُلُقيّ، واختارهم من خيار الناس وأشرافهم، وجعل لهم شخصيّات عظيمة مهيبة.

وفي الذروة من كمال الشخصيّة وعظمتها نبيّنا محمّد صلى الله عليه وسلم، فقد حاز صلى الله عليه وسلم من الشرف، وكرم النسب، وزكاء الأصل، وجمال الجسم وكماله، وعظمة الأخلاق ما لم يحزه أحد قطّ.

لقد كانت له شخصيّة فذّة فريدة، مع ما كان عليه من رقّة القلب، ولين الجانب، وسماحة النفس، والحياء الفائق، حتّى إنّه كان أشدّ حياءً من العذراء في خدرها، وكان يبغض العجب والغرور، والتجبّر على الناس والتكبّر. وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء.

ولم يكن النبيّ صلى الله عليه وسلم يتّخذ من عظمة شخصيّته، وما يعلوه من الهيبة والوقار وسيلةً إلى فرض سيطرته على الناس وتخويفهم، أو الحطّ من أقدارهم، أو استخدامهم في مصالحه الخاصّة، وإنّما كان على العكس من ذلك.. كان متواضعاً لجميع الناس، قريباً منهم، يخدم نفسه، ويخدم أهله، ويجالس الضعفاء والمساكين، ويباسطهم ويؤانسهم، ويداعب الأطفال ويمازحهم، ويخفّف من رعب من أدركته الهيبة النبويّة فخاف وارتعد، فيهدّئ نفسه، ويطمئن قلبه.. إنّه ليس بملك، ولم يتّخذ شيئاً من أبّهة الملوك وتعاظمهم، ولكنّ الملوك تهابه، وتقف متواضعة ببابه.. إنّه سيّد الأوّلين والآخرين، والرحمة المهداة للعالمين.

إنّ الماء الذي فجّره رسول الله صلى الله عليه وسلم للإنسانيّة بإذن الله، عذباً زلالاً، صافياً رقراقاً، لا يزال كأوّل عهده بنور السماء يفيض بالخير، يحيي القلوب، ويسعد المجتمعات، ويغيث كلّ من يرد مَنهله، ويفيء إلى ظلّه..

ولقد حبا الله نبيّه صلى الله عليه وسلم التأييد والعزّ المكين، والنصر المبين، وبشّره أوّل عهده بالنبوّة بقوله سبحانه: {وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى}[الضُّحى:5]، ورفع له ذكره في العالمين، فالثناء المحمود عليه كلّ آن، وبكلّ لسان: {وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَك}[الشَّرح:4]، فهل ترى عطاء لله أوسع من عطاء الله له في حياته، وخلال هذه القرون المتطاولة.؟!

وأخزى الله عدوّه، وكبته وكفاه شرّه فقال سبحانه: {إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِين}[الحِجر:95]، وقطع أثر مبغضه اللئيم فقال سبحانه: {إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الأَبْتَر}[الكوثر:3].

صِفَةُ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فِي التَّوْرَاةِ:

لقد عرّف الله أهل الكتاب في كتبهم، بأخلاق النبيّ صلى الله عليه وسلم، وأهمّ شمائله وصفاته، ليكونوا على بيّنة من أمره إذا بعث، فيؤمنوا به ويتّبعوه، ففي الحديث الصحيح عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ قَالَ: لَقِيتُ عَبْدَ اللهِ بْنَ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قُلْتُ: أَخْبِرْنِي عَنْ صِفَةِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فِي التَّوْرَاةِ، قَالَ: أَجَلْ وَاللهِ، إِنَّهُ لَمَوْصُوفٌ فِي التَّوْرَاةِ بِبَعْضِ صِفَتِهِ فِي الْقُرْآنِ: " يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً، وَحِرْزاً للأُمِّيِّينَ، أَنْتَ عَبْدِي وَرَسُولِي، سَمَّيْتُكَ المتَوَكِّلَ، لَيْسَ بِفَظٍّ، وَلا غَلِيظٍ، وَلا سَخَّابٍ فِي الأَسْوَاقِ، وَلا يَدْفَعُ بِالسَّيِّئَةِ السَّيِّئَةَ، وَلَكِنْ يَعْفُو وَيَغْفِرُ، وَلَنْ يَقْبِضَهُ اللهُ حَتَّى يُقِيمَ بِهِ المِلَّةَ الْعَوْجَاءَ، بِأَنْ يَقُولُوا: لا إِلَهَ إِلاّ اللهُ، وَيَفْتَحُ بِهَا أَعْيُناً عُمْياً، وَآذَاناً صُمّاً، وَقُلُوباً غُلْفاً) [رواه البخاريّ في كتاب البيوع برقم /1981/، غُلْفٌ: كُلُّ شَيْءٍ فِي غِلافٍ، سَيْفٌ أَغْلَفُ، وَقَوْسٌ غَلْفَاءُ، وَرَجُلٌ أَغْلَفُ، إِذَا لَمْ يَكُنْ مَخْتُوناً].

فانظر أيّها العاقل هذه الدلائل القاطعات، والآيات البيّنات بعين الوعي والبصيرة، وإيثار الصدق وحبّ الحقيقة تكن من أهل السعادة والزيادة.!

واعلم أخي المؤمن وفّقنا الله وإيّاك: أنّه مهما تعدّدت جوانب العظمة في حياة الرسول صلى الله عليه وسلم وتحدّث الناس عنها، وأفردوها بالبحث والعناية فإن مردّها جميعاً إلى العظمة النفسيّة التي جبله الله عليها، وأودعها في فطرته، وجعله سيّد ولد آدم بما خصّه من خصائص، وما حباه من مكرمات، وقد أشار الله تبارك وتعالى إلى ذلك في قوله سبحانه: {وَإِذَا جَاءتْهُمْ آيَةٌ قَالُواْ لَن نُّؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتَى مِثْلَ مَا أُوتِيَ رُسُلُ اللهِ اللهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ سَيُصِيبُ الَّذِينَ أَجْرَمُواْ صَغَارٌ عِندَ اللهِ وَعَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا كَانُواْ يَمْكُرُون}[الأنعام:124].

وإنّ عظمة محمّد صلى الله عليه وسلم تتجلّى في أخلاقه الشريفة، وشمائله الكريمة، التي انبثق عنها كلّ ما اتّصل بشخصيّته من فضائل ومكارم، وثمرات طيّبة مباركة، ودلّ عليها ما جاء به صلى الله عليه وسلم من مبادئ سامية، وقيم رفيعة، وما قام به من أعمال جليلة، وتغيير عظيم في حياة الأمّة التي بعث فيها، ثمّ الإنسانيّة كلّها، حتى تحقّق فيه بصدق أنه أخرج الناس من الظلمات إلى النور بإذن ربّهم، كما أخرج للناس جيلاً قياديّاً صالحاً، قاد البشريّة بشريعة الله، وأقام فيهم موازين الحقّ والعدل، وأنشأ حضارة إنسانيّة فاضلة سعدت بها البشريّة قروناً متطاولة..

وإنّ خصال الكمال والجمال في البشر نوعان:

ـ النوع الأول: ضروريّ دنيويّ اقتضته الجِبِلّة وضرورة الحياة الدنيا، وليس للمرء فيه اختيار ولا اكتساب، ككمال الخلقة، وجمال الصورة، وقوّة العقل، وصحّة الفهم، وفصاحة اللسان، وقوّة الحواسّ وسلامة الأعضاء، وشرف النسب وعزّة القوم..

ويلحق بهذا النوع ما تدعو إليه ضرورة الحياة، من المأكل والمشرب، والملبس والمسكن، والنوم والمنكح، والمال والجاه.

وقد تلحق هذه الخصال الأخيرة بالنوع الثاني إذا قصد بها التقوى، ومعونة البدن على سلوك طريق الآخرة، وكانت بحدود الحاجة ووفق الشريعة.

ـ والنوع الثاني: مكتسب دينيّ، وهو ما يحمد فاعله، ويقرّب إلى الله زلفى، كالأخلاق العليّة والآداب الشرعيّة: من الدين والعلم، والحلم والصبر، والشكر والعدل، والعفّة والجود، والعفو والشجاعة، والحياء والمروءة، والرفق والرحمة، وحسن الخلق ولطف المعاشرة..

وقد يكون لبعض الناس من هذه الأخلاق ما هو في الغريزة وأصل الجِبلّة، وبعضهم لا تكون فيه فيكتسبها.

فإذا كانت خصال الكمال والجمال ما ذكرنا، ووجدنا الواحد من الناس يشرف بواحدة منها أو اثنتين، حتّى يعظم بين الناس قدره، ويضرب باسمه المثل، فما ظنّك بعظيم قدر من اجتمعت فيه كلّ هذه الخصال، إلى ما لا يأخذه عدّ، ولا يعبّر عنه مقال، ولا ينال بكسب ولا حيلة، إلاّ بتخصيص الكبير المتعال؛ مما خصّ الله به نبيّنا صلى الله عليه وسلم، من فضيلة النبوّة والرسالة، والخلّة والمحبّة، وختم النبوّة به وعموم دعوته، وإعطائه الشفاعة والوسيلة، وشرح الصدر، ووضع الوزر، ورفع الذكر، وعزّة النصر، وإجابة الدعاء، وإعطاء السؤل وتمام الفضل، ونزول السكينة، والتأييد بالملائكة، وإيتاء الكتاب والحكمة، والسبع المثاني والقرآن العظيم، والتأييد بالمعجزات، ونبع الماء من بين أصابعه، وتكثير الطعام القليل ببركته، وانشقاق القمر، والإسراء والمعراج، والعصمة من الناس [الشفا للقاضي عياض 1/77 وما بعد، بتصرّف واختصار].

وبالجملة فإنّه صلى الله عليه وسلم أعلى الناس قدراً، وأرفعهم ذكراً، وأكملهم محاسن وفضلاً.

عَنْ سَعْدِ بْنِ هِشَامٍ قَالَ: سَأَلْتُ عَائِشَةَ فَقُلْتُ: أَخْبِرِينِي عَنْ خُلُقِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم؟ فَقَالَتْ: (كَانَ خُلُقُهُ الْقُرْآنَ) [رواه أحمد في المسند /24139/].

وفي رواية قَالَ: أَتَيْتُ عَائِشَةَ، فَقُلْتُ: يَا أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ أَخْبِرِينِي بِخُلُقِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم؟ قَالَتْ: (كَانَ خُلُقُهُ الْقُرْآنَ، أَمَا تَقْرَأُ الْقُرْآنَ: قَوْلَ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ: {وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيم}[القلم:4]؟ قُلْتُ: فَإِنِّي أُرِيدُ أَنْ أَتَبَتَّلَ قَالَتْ: لا تَفْعَلْ، أَمَا تَقْرَأُ: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ... }[الأحزاب:21]، فَقَدْ تَزَوَّجَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَقَدْ وُلِدَ لَهُ [ـ رواه أحمد في المسند /23460/].

وفيما يلي نحبّ أن نقدّم جُمَلاً موجزة جامعة، تقدّم للقارئ الكريم صورة متكاملة قدر المستطاع، عن شخصيّة هذا النبيّ المصطفى صلى الله عليه وسلم من جميع جوانبها، وسيأتيك من هذا الإجمال تفصيل وبيان.

فهل عرفت قريش فتىً أطهر سيرة، وأزكى سريرة، وأشرف نسباً، وأكرم حسباً، وأعظم خلقاً من محمّد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم.؟

لقد لقّبته الأمين، وأجمع على ذلك عقلاؤها، ولو عرفت أحداً من زعمائها بذلك لما ضنّت عليه بتلك الصفة العظيمة، واختصّت بها محمّداً صلى الله عليه وسلم من دونه.

ووصفته زوجه العاقلة الحكيمة، السيّدة خديجة رضي الله عنها، وقد عاشت معه خمس عشرة سنة، خبرت خلالها شخصيّته وأخلاقه، فقالت له أول عهده برسالة السماء، وقد داخله الخوف مما جرى معه: " كلا ! واللهِ لا يُخزيكَ اللهُ أبداً؛ إنّكَ لَتَصِلُ الرحِمَ، وتحمِلُ الكَلّ، وتَقري الضيفَ، وتَكسِبُ المَعدُومَ، وَتُعينُ على نَوائِبِ الحقِّ ".

ولقد لخّص صلى الله عليه وسلم الغاية من بعثته، والأهداف العليا لرسالته بقوله صلى الله عليه وسلم: (إنما بعثتُ لأتمّمَ مكارمَ الأخلاق).. فهل ترى في شيء من رسالته وهديه ما ينزل عن أكمل الأخلاق، وأكرم الشمائل، وأحسن الآداب.؟ وتأمّل هذا التناغم العجيب بين ما وصفه به قومه، وما وصفته به زوجه، وما لخّص به رسالته، والغاية من بعثته..

لقد كان صلى الله عليه وسلم دائم السؤال لله عزّ وجلّ، كثير الضراعة والابتهال، أن يزيّنه الله بمكارم الأخلاق والآداب، وكان صلى الله عليه وسلم يقول: (اللهمّ كما حسّنت خَلقي فحسّن خُلُقي)، فكان خلقه القرآن يرضى لرضاه، ويغضب لغضبه ألا تقرءون القرآن.؟

لقد كان الصورة الحيّة للحقّ الذي بعثه الله به، واصطفاه لنشره وإحيائه، وإنّك لن ترى شيئاً من آداب القرآن إلاّ وكانت صورتَه العمليّةَ حياةُ محمّد صلى الله عليه وسلم: {... وَأَنزَلَ اللهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا}[النساء:113].

لقد كان صلى الله عليه وسلم حسن العشرة، كريم الصنيعة، ليّن الجانب، يحبّ اليسر ويؤثره، فما خيّر بين أمرين إلاّ اختار أيسرهما ما لم يكن إثماً، فإن كان إثماً كان أبعد الناس عنه، بعث بالحنيفيّة السمحة، وأرسله الله رحمة للعالمين، وبشرى للمؤمنين.

لقد رفع رسول الله صلى الله عليه وسلم همم أمّته ليكونوا عندما يحبّه الله لهم ويرضاه؛ فبيّن لهم أن الله تعالى يحبّ معالي الأمور، ويكره سفسافها.

وكان صلى الله عليه وسلم يحبّ بذل المعروف، ويدعو إلى خصال الخير كلّها، كإطعام الطعام وإفشاء السلام، وعيادة المريض، وتشييع الجنائز، وخدمة الضعيف، وإغاثة اللهفان، وإجابة الدعوة.

وكان صلى الله عليه وسلم يجيب دعوة الحرّ والعبد، ولا يأنف عن إجابة الضعيف المسكين، أو العبد أو الأمة.

وكان صلى الله عليه وسلم يدعو أصحابه إلى ما يهدى إليه من طعام، ويؤثرهم على نفسه وأهله، ويتفقّد أهل الفاقة من أصحابه، ويحسن إليهم ويواسيهم، ولا يختصّ دونهم بشيء.

وكان صلى الله عليه وسلم يحبّ العفو، ويسعى في الإصلاح بين الناس، ويحرص على جمع القلوب على الحقّ والهدى.

وإنّ المجتمعات القبليّة هي أشدّ المجتمعات حفاظاً على التقاليد والعادات، وأعتاها في الخصومة والبغضاء، وأعصى على التطويع، وأبعد عن التأليف والتجميع، ومع ذلك كلّه.. وغيره وغيره.. فقد ذابت بدعوة رسول الله صلى الله عليه وسلم عصبيّة الجاهليّة وطغيانها، وامّحى عنفوانها ونعراتها في مدّة لا تزيد عن عقدين من الزمن، ما هما إلاّ كلمحتين من نظر التاريخ ووعيه وتطوّره وتقلّب أحداثه.. فهل رأيت عظيماً من عظماء الدنيا كلّها استطاع أن يجمع القلوب النافرة، والنفوس الجامحة، بقوّة الحبّ، وسلطان الحقائق الإنسانيّة الخالدة التي أحكمت بالدين، ثمّ فصّلت على ثوب الفطرة فكانت صبغة الله، ومن أحسن من الله صبغة.؟!

فما استطاع أحد أن يجمع القلوب المتنافرة، ويؤلّف بين النفوس المتباينة كما استطاع ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم بإذن الله تعالى وتوفيقه، ومنّته وعنايته: {وَإِن يُرِيدُواْ أَن يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللهُ هُوَ الَّذِيَ أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ * وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً مَّا أَلَّفَتْ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَـكِنَّ اللهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيم}[الأنفال:62 ــ63].

لقد وقف رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلن إعلاناً لم يكن شعاراً يرفع، ولا دعوى يتمنّى بلوغها المصلحون، ولا يبلغونها، أو يطمح إليها الطامحون، ولا ينالونها، وإنما كانت حقيقة ناصعة، توّجت جهاد عقدين من الزمن، وترجمت انتصار دينه، ونجاح دعوته، وأهداف رسالته، وكأنها صورة من صور الشكر والثناء على الله تبارك وتعالى بما أنعم وتفضّل.. وقف المصطفى صلى الله عليه وسلم ليقول في حجّة الوداع: (إنّ كلّ شيء من أمر الجاهليّة موضوعٌ تحتَ قدميّ هاتين..)..

فانظر: أكانت تلك شعاراً ودعوى أم أنها حقيقة عليا بلغتها الدعوة.؟!

لقد كانت ساعات عمره شهوراً، وشهوره أعواماً، وأعوامه تحتضن أجيالاً، هي مجمل ما قدّر الله من عمر للإنسانيّة إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها؛ فكان يجاهد بلسانه وسيفه، ويرشد أصحابه ويؤدّبهم، ويعلّمهم الكتاب والحكمة ويزكّيهم، بأقواله وأفعاله وأحواله، ويأمرهم بالمعروف، وينهاهم عن المنكر..

وكان صلى الله عليه وسلم يتقدّم أصحابه في ساحات الوغى، فما يكون أحد منهم أقرب إلى العدوّ منه، وإن الشجاع منهم من يستطيع أن يحاذي به في ساعات القتال، وكان يصفّهم للقتال كما يصفّهم للصلاة، ويحثّهم على تسوية الصفوف كما تصفّ الملائكة.

وكان صلى الله عليه وسلم أشجع الناس، وأثبت الناس، وأصبر الناس..

وكان إذا اشتدّ البأس، واحمرّت الحدق، اتّقى أصحابه به، فما يكون أحد أقرب إلى العدوّ منه، وكان يعلن عن نفسه في أرض المعركة ولا يستتر:

أنا النبيّ لا كذب ** أنا ابن عبد المطّلب

وكان صلى الله عليه وسلم ينظّم الجيوش، ويصدر الأوامر للقوّاد، ويحثّهم على الصبر والجهاد، وكان يستشيرهم في كلّ شأن لم ينزل فيه وحي، وينزل على ما يراه صواباً من آرائهم، وكان يدبّر لهم الخطط الحربيّة، ويدرّبهم على القيادة والحزم في أمورهم..

وكان صلى الله عليه وسلم إذا خطب احمرّت عيناه، وعلا صوته، واشتدّ غضبه، كأنّه منذر جيش يقول: صبّحكم.. مسّاكم..

وكان صلى الله عليه وسلم إذا دخل بيته يكون في مهنة أهله: يخدمهم، ويخدم نفسه؛ فيرقع ثوبه، ويخصف نعله، ويتلطّف في عشرة أهله، ويحسن معاملتهم؛ فيداعب الصغير، ويؤنس الكبير، ويغضي عن الهفوة، ويؤلّف بين نسائه، ويخفّف من غيرتهنّ، ويمازحهنّ، ويرفق بهنّ..

وما ضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده خادماً ولا امرأة إلاّ أن يجاهدَ في سبيل الله تعالى.

وكان ربما غفل الخادم عن الأمر يطلبه منه فلا يرضى لأحد من أهله أن يعنّفه، ويقول: (دعوه، فلو قُدّر أمرٌ لكان).

خدمه أنس بن مالك رضي الله عنه عشر سنين، " فما قال له لشيء فعله: لم فعلته.؟ ولا لشيء تركه لم تركته.؟ ".

كان صلى الله عليه وسلم إذا حضرت الصلاة خرج إلى الصلاة، لا يشغله عن طاعة ربّه شيء، وإذا خلا إلى نفسه انقطع إلى عبادة الله تعالى، والضراعة إليه، لا يطيق أحد ـ مهما اجتهد ـ أن يجاريه في صلاته ودعائه، وصيامه وعبادته؛ فكان يقوم من الليل حتّى تتفطّر قدماه، وكان يقوم نصف الليل، أو يزيد عليه، أو ينقص منه، ثمّ يكون في النهار في رعاية أصحابه وتعليمهم، وفي جهاد الدعوة، وقيادة الأمّة.

وكان صلى الله عليه وسلم يصوم حتّى يقول أهله: " لا يفطر " لكثرة صيامه، ويواصل الصوم يومين وثلاثة أيام أو أكثر، مع ما يتجمّل من أعباء جسام.. وينهى أصحابه عن ذلك رحمة بهم، وشفقة عليهم، لأنّهم ليسوا مثله، فهو يبيت عند ربّه، يطعمه ربّه ويسقيه.

وكان صلى الله عليه وسلم أسخى الناس كفّاً، ما سئل شيئاً قطّ فقال: لا..

وكان أجود بالخير من الريح المرسلة، وكان ربّما يسأل العطاء فلا يجده، فيقول لسائله صلى الله عليه وسلم: (استدن عليّ، حتّى يأتينا مال فنقضيه).

وكان يُعطي عطاءَ من لا يخشى الفقر، ولم يزل يُعطي المؤلّفةَ قلوبهم، حتّى أحبّوه أعظم الحبّ، وأصبحوا يؤثرونه على أنفسهم وأهليهم.

وكان صلى الله عليه وسلم يعطي العطايا الجزيلة، ويبيت طاوياً هو وأهله، لم يخصّ نفسه بشيء، ولم يحمل إلى بيته درهماً مما يأتيه.

وكان صلى الله عليه وسلم يعفو عمّن ظلمه، ويصل من قطعه، ويعطي من حرمه، ولم يكن يغضب لنفسه، ولا ينتصر لها، وإنما يغضب إذا انتهكت حرمات الله، فإذا انتهكت حرمات الله تعالى لم يقم لغضبه شيء.

ولقد أوذي في الله تعالى أشدّ الإيذاء، فلم يدع على قومه، ولم يتطلّع إلى الانتقام منهم، وإنما كان يقول: (اللهمّ اهدِ قومي فإنهم لا يعلمون).

وعندما ناله صلى الله عليه وسلم منهم أشدّ الأذى عُرض عليه عذابهم وهلاكهم، فقال: (لا، بل أرجو أن يخرج الله من أصلابهم من يعبد الله، لا يشرك به شيئاً).

وكان صلى الله عليه وسلم أحلم الناس، وأشجع الناس، وأعدل الناس، وأعفّ الناس، لم تمسّ يده يد امرأة لا تحلّ له..

وكان صلى الله عليه وسلم أسمى الناس أدباً، وأشدّهم حياءً، وكان أشدّ حياءً من العذراء في خدرها..

وكان لا يثبت بصره في وجه أحد، يُغضي عمّا يكره، ويتغافل عمّا لا يَشتهي.

وكان صلى الله عليه وسلم يقبل الهديّة، ويثيب عليها بأكثر منها، ويأكل الهديّة، ولا يأكل الصدقة.

وكان صلى الله عليه وسلم يعصب الحجر على بطنه من الجوع، وربما عصب الحجرين، وإذا لم يجد ما يأكل أتمّ يومه صائماً.

وكان صلى الله عليه وسلم يأكل ما حضر، ولا يأكل متّكئاً، ولا على خوان..

وكان إذا تغدّى لم يتعشّ، وإذا تعشّى لم يتغدّ، ولم يشبع من خبز الشعير ثلاثة أيام متتالية حتّى لقي الله عزّ وجلّ، زهداً في الدنيا، وإيثاراً للآخرة على الأولى، لا فقراً ولا بخلاً..

وكان يمرّ الهلالُ والهلالُ والهلالُ، ثلاثةُ أهلّةٍ في شهرين، وما يوقد في أبيات رسول الله صلى الله عليه وسلم نار، وإنما كان طعامهم الأسودان: التمر والماء.

وكان صلى الله عليه وسلم ربما يأتيه الضيف يريد أن يطعمه، فيرسل إلى زوجاته هل عندكنّ من طعام.؟ فتقسم كلّ واحدة منهنّ أن ليس لديها من طعام، فيأخذ الضيفَ بعضُ أصحابه.

وإنما كان هذا الحال اختياراً منه صلى الله عليه وسلم، فقد خيّره الله تعالى بين أن يكون نبيّاً عبداً، أو يكون نبيّاً ملكاً، فاختار أن يكون عبداً نبيّاً، وقال: (أجوع يوماً فأصبر، وأشبع يوماً فأشكر).

وكان أحسن الناس وجهاً، وأظهرهم بشراً، وأكثرهم تواضعاً، قد أعطاه الله جوامع الكلم، وشوارد الحكم، واختصر له الكلام اختصاراً..

وكان صلى الله عليه وسلم لا يهوله شيء من شئون الدنيا، إذا رأى ما يعجب منها قال: (اللهمّ لا عيشَ إلاّ عيش الآخرة..)، لا يمدّ عينيه إلى شيء من زينة الدنيا وزهرتها، وكان يقول: (ما لي وللدنيا.؟! ما أنا في الدنيا إلاّ كراكب استظلّ تحت شجرة، ثمّ راح وتركها).

وكان صلى الله عليه وسلم يلبس ما وجد، ويركب ما تيسّر له من فرس، أو بغلة، أو حمار، أو بعير، ويردف خلفه عبده أو غيره، وكان يمشي راجلاً، حافياً أو بنعلين أو خفّين، وربما مشى بغير رداء، ولا عمامة ولا قلنسوة.

وكان صلى الله عليه وسلم يحبّ الطيب، ويأمر أصحابه بحسن المظهر، ويكره لهم الرثاثة، ويكره كلّ رائحة كريهة، ويجالس الفقراء، ويؤاكل المساكين، ويقبل على جليسه حتّى يرى أن ليس أحد أفضل عنده منه، ويكرم أهل الفضل ويدنيهم، وينزلهم منازلهم، ويعرف للناس أقدارهم، ويتألّف أهل الشرف بالبرّ بهم، ويصل رحمه، ولا ينساهم، غير أنه لا يؤثرهم على من هو أفضل منهم، ويقبل المعذرة، ولا يجفو في وجه أحد، قد وسع الناسَ حلمُه وبرُّه، وفضلُه وكرمُه..

وكان صلى الله عليه وسلم يمازح أصحابه ونساءه، ويداعب الأطفال غير أنّه لا يقول في ذلك كلّه إلاّ حقّاً، ولا ينطق إلا صدقاً، وكان جُلّ ضحكه التبسّم، وربما ضحك من غير قهقهة.

وكان صلى الله عليه وسلم متواصل الأحزان، خشيةً لله وإجلالاً، وتفكّراً في الآخرة واهتماماً، وتحمّلاً لمسئوليّة الدين والدعوة، دائم الفكرة ليست له راحة، ولا يتكلّم في غير حاجة، طويل السكوت، يفتتح الكلام ويختتمه بأشداقه ـ لا بأطراف فمه ـ ويتكلّم بجوامع الكلم فصلاً لا فضول فيه، ولا تقصير، دمثاً ليس بالجافي ولا بالمهين، يعظّم النعمة وإن دقّت، ويشكرُ المعروف، ويُثني على صاحبه، ولا يذمّ شيئاً ولا يعيبه، ولم يكن صلى الله عليه وسلم يذمّ طعاماً، ولا يمدحه، إن اشتهاه أكله، وإن كرهه تركه.

وكان صلى الله عليه وسلم لا يغضب لنفسه، ولا ينتصر لها، وإذا انتهكت حرمات الله لم يقم لغضبه شيء حتى ينتصر له، إذا أشار أشار بكفّه كلّها، وإذا تعجّب قلبها، وإذا غضب أعرض وأشاح، وإذا فرح غضّ طرفه، جُلّ ضحِكِه التبسّمُ، ويَفترّ عن مثل حبّ الغمام..

وكان صلى الله عليه وسلم لا يثبت نظره في وجه أحد، خافض الطرف، نظره إلى الأرض أكثر من نظره إلى السماء، جلّ نظره الملاحظة، ولا يشافه أحداً بما يكره، وإذا بلغه عن أحد أو قوم ما يكرهه قال: (ما بال أقوام يفعلون كذا وكذا؟!).

وكان صلى الله عليه وسلم يخزن لسانه عما لا يعنيه، يؤلّف أصحابه ولا ينفّرهم، ويجمعهم ولا يفرّقهم، يكرم كريم كلّ قوم، ويولّيه عليهم، ويحذر الناس، ويحترس منهم، من غير أن يطوي عن أحد بِشره..

وكان صلى الله عليه وسلم يتفقّد أصحابه، ويسأل الناس عما في الناس ويحسّن الحسن ويصوّبه، ويقبّح القبيح ويوهنه، معتدل الأمر غير مختلف، لا يغفل مخافة أن يغفلوا أو يملّوا، لكلّ حال عنده عتاد، لا يقصر عن الحقّ ولا يجاوزه، يليه من الناس خيارهم، وأفضلهم عنده أعمّهم نصيحة، وأعظمهم عنده منزلة أحسنهم مواساة ومؤازرة.

وكان صلى الله عليه وسلم لا يجلس ولا يقوم إلاّ على ذكر، ولا يوطّن الأماكن ـ أي لا يميّز لنفسه مكاناً خاصّاً ـ وينهى عن توطينها، وإذا انتهى إلى القوم جلس حيث ينتهي به المجلس، ويأمر بذلك، ويعطي كلّ جلسائه نصيبه، حتّى لا يحسب جليسه أنّ أحداً أكرم عليه منه، من جالسه أو قاومه لحاجة صابره حتّى يكون هو المنصرف عنه، ومن سأله حاجة لم يردّه إلاّ بها أو بميسور من القول، قد وسع الناس بسطه وخلقه؛ فصار لهم أباً، وصاروا عنده في الحقّ سواء، يتفاضلون عنده بالتقوى، مجلسه مجلس حلم وحياء، وصبر وأمانة، لا ترفع فيه الأصوات، ولا تُؤبَن فيه الحرم، ولا تخشى فلتاته، يوقّرون فيه الكبير، ويرحمون الصغير، ويرفدون ذا الحاجة، ويؤنسون الغريب..

وكان أحبّ إليهم أن يقوموا إليه إذا حضر إليهم، إلاّ أنهم كانوا لا يقومون لما يعلمون من كراهته لذلك..

وكان ينهاهم أن يطروه كما أطرت النصارى عيسى ابن مريم عليه السلام، ويقول لهم: (قولوا: عبد الله ورسوله).

وكان صلى الله عليه وسلم يقول: (إنما أنا عبدٌ، أجلِسُ كما يجلِسُ العبدُ، وآكلُ كما يأكُلُ العبدُ).

وقال صلى الله عليه وسلم مرّة لرجل هابه حتّى ارتعدت فرائصه: (هوّن عليكَ، إنما أنا ابنُ امرأة كانَت تأكُلُ القَديدَ بمكّةَ).

وكان صلى الله عليه وسلم دائم البشر سهل الخلق، ليّن الجانب، ليس بفظّ، ولا غليظ، ولا صخّاب، ولا فحّاش، ولا عيّاب، ولا مدّاح، ولا يجزي بالسيّئة السيّئة، ولكن يعفو ويصفح، يتغافل عمّا لا يشتهي، ولا يُقنط منه، قد ترك نفسه من ثلاث: الرياء، والإكثار، وما لا يعنيه، وترك الناس من ثلاث: لا يذمّ أحداً، ولا يعيّره، ولا يطلب عورته.

وكان صلى الله عليه وسلم لا يتكلّم إلاّ فيما يرجو ثوابه، وإذا تكلّم أطرق جلساؤه كأنما على رءوسهم الطير، وإذا سكت تكلّموا، لا يتنازعون عنده الحديث، من تكلّم عنده أنصتوا له حتّى يفرغ، حديثهم حديث أوّلهم، يضحك مما يضحكون منه، ويعجب مما يعجبون منه، ويصبر للغريب على الجفوة في المنطق، ويقول: (إذا رأيتُم صاحبَ الحاجة فأرفِدُوه)، ولا يطلب الثناء إلاّ من مكافئ.

وكان صلى الله عليه وسلم أوقرَ الناس في مجلسه، لا يكاد يخرج شيئاً من أطرافه..

وكان كثير السكوت، لا يتكلّم من غير حاجة، ويُعرض عمّن تكلّم بغير جميل.

وكان صلى الله عليه وسلم ضحكه تبسّماً، وكلامه فصلاً، لا فضول ولا تقصير..

وكان صلى الله عليه وسلم إذا تكلّم رؤي كالنور يخرج من بين ثناياه.

وكان صلى الله عليه وسلم أحسن الناس وجهاً، وأحسنهم خلقاً، لو رأيته رأيت الشمس طالعة..

وكان صلى الله عليه وسلم إذا سرّ استنار وجهه حتّى كأنّه قطعةُ قمر.. يقول أبو هريرة رضي الله عنه: " مَا رأيتُ شَيئاً أحسَنَ مِن رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم كأنّ الشمسَ تَجري في وَجهِه، وَمَا رَأيتُ أحداً أسرَعَ في مَشيِه مِن رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، كأنما الأرضُ تُطوَى له، وإنّا لنُجهِدُ أنفسَنا، وإنّه لَغيرُ مُكترِثٍ ".

وكان صلى الله عليه وسلم إذا مشى تقلّع، كأنما يمشي في صبب، أو تكفّأ تكفّياً، كأنما ينحطّ من صبب، وإذا صمت علاه الوقار، وإذا تكلّم علاه البهاء، أجملَ الناس وأبهاهم مِن بعيد، وأحسنَهم وأحلاهم مِن قريب، حلوَ المنطق، لا نزر، ولا هذر، كأن منطقه خَرَزاتٍ، نظمنَ، يتحدّرنَ.

وكان صلى الله عليه وسلم إذا التفت التفت معاً..

وكان أجودَ الناس كفّاً، وأجرأ الناس صدراً، وأصدق الناس لهجة، وأوفى الناس ذمّة وألينهم عريكة، وأكرمهم عشرة، مَن رآه بديهةً هابَه، ومَن خالطَه معرفةً أحبّه، يقولُ واصفُه: (لم أرَ قبلَه، ولا بعدَه مثلَه).

وكان يتكلّم بالكلام الفصل البيّن، لو عدّه العادّ لأحصاه، ولم يكن يسرد الحديث سرداً.

وكان يعيد الكلمة ثلاثاً لتعقل عنه.

ولم يُرَ صلى الله عليه وسلم قطّ مادّاً رجليه بين أصحابه، وما دعاه أحد من أصحابه إلاّ قال: (لبّيك.. لبّيك..).

وكان صلى الله عليه وسلم يكره أن يتميّز على أصحابه.

وكان صلى الله عليه وسلم يمازح أصحابه ويخالطهم، ويحادثهم، ويؤنسهم، ويأخذ معهم في تدبير أمورهم، ويسألهم عن خاصّة شئونهم، ليعينهم على حاجاتهم، ويداعب صبيانهم، ويمازحهم، ويجلسهم في حجره، فربّما بال الصبيّ في حجره، فلا يزيد على أن ينضح الماء على بوله، ولا يتغيّر.

وكان صلى الله عليه وسلم يصلّي ولجوفه أزيز كأزيز المرجل من البكاء..

وكان صلى الله عليه وسلم يقول: (إني لأخشاكم لله، وأتقاكم له).

وكان صلى الله عليه وسلم لا يخصّ أهل بيته دون الناس، بل كان لا يساويهم بهم، ويؤثر أصحابه بالعطاء دونهم، تعليماً لهم على الزهد في الدنيا، وإيثار الآخرة عليها، أتاه مرّة سبي كثير فشكت إليه ابنته فاطمة رضي الله عنها ما تلقى من عناء خدمة البيت، وطلبت منه خادماً يكفيها مئونة بيتها، فأمرها أن تستعين بالتسبيح والتكبير والتحميد، وقال لها صلى الله عليه وسلم: (لا أعطيكِ، وأدعُ أهلَ الصفّة تَطوي بُطونُهم من الجوع).

وكانت مجالسه صلى الله عليه وسلم مع أصحابه مجالس تذكير بالله سبحانه وتعالى، وتعليم، وترغيب وترهيب، وإنذار وتبشير، مما يوجب لهم رقّة القلوب، والزهد في الدنيا والإقبال على الآخرة، والخروج عن حظوظ النفس وأهواء البشر.

وكان صلى الله عليه وسلم يوصي أصحابه بتقوى الله عزّ وجلّ، وصدق الحديث، والوفاء بالعهد، وأداء الأمانة، وترك الخيانة، ورعاية حقّ الجار، والإحسان إليه وإكرام الضيف، ورحمة اليتيم، ولين الكلام، وبذل السلام، وإطعام الطعام، وتوقير ذي الشيبة، والعفو والإصلاح بين الناس، وكظم الغيظ، والبعد عن الغضب، وكثرة الذكر، والاستغفار.

وكان أصحابه ربما عدّوا له في المجلس الواحد أكثر من سبعين مرّة يستغفر الله تعالى، ويتوب إليه.

ولقد أبطل بدين الإسلام كلّ عادات الجاهليّة، وأخلاقها ومفاسدها؛ فأبطل الغناء والمعازف، وكلّ ذي وتر، وحرّم الكذب والغيبة، والبخل والشحّ، والمكر والخديعة، وسوء الظنّ، وفساد ذات البين، وقطيعة الأرحام، والكبر وسوء الخلق، والفخر والاختيال، وقول الزور وشهادة الزور، والحقد والحسد، والسحر والطيرة، والبغي والعدوان، والبهت والنميمة، والظلم وأكل أموال الناس بالباطل.

ولم يكن شيء أبغض إليه من الكذب، وكان إذا اطّلع على كذبة من بعض أهله لم يزل متغيّر الوجه معه حتّى يحدث توبة من ذلك.

وكان صلى الله عليه وسلم إذا أوى إلى منزله جزّأ دخوله ثلاثة أجزاء: جزءاً لله تعالى، وجزءاً لنفسه، وجزءاً لأهله، ثمّ جزّأ جزأه بينه وبين الناس، فيردّ ذلك بالخاصّة على العامّة، ولا يدّخر عنهم شيئاً.

وكان من سيرته صلى الله عليه وسلم في جزء الأمّة: إيثار أهل الفضل بإذنه وقسمه على قدر فضلهم في الدين:

فمنهم ذو الحاجة، ومنهم ذو الحاجتين، ومنهم ذو الحوائج، فيتشاغل بهم، ويشغلهم فيما يصلحهم والأمّة من مسألتهم عنه، وإخبارهم بالذي ينبغي لهم، ويقول: (ليبلّغ الشاهدُ الغائبَ، وأبلغوني حاجةَ مَن لا يستطيعُ إبلاغَها، فإنّه مَن أبلغ سُلطاناً حَاجةَ مَن لا يَستطيعُ إبلاغَها ثبّتَ اللهُ قدميه يومَ القيامة)، لا يذكر عنده إلاّ ذلك، ولا يقبل من أحد غيره.. يدخلون روّاداً، ولا يفترقون إلا على ذواق، ويخرجون أدلّة على الخير.

وكان صلى الله عليه وسلم يكثر أن يشاور أصحابه، فيما لم ينزل فيه وحي، وينزل عند رأي بعضهم ويعمل به، وقال لصاحبيه ووزيريه أبي بكر وعمر رضي الله عنهما: (لَوِ اجْتَمَعْتُمَا فِي مَشُورَةٍ مَا خَالَفْتُكُمَا) [كما في مسند الإمام أحمد: /17309/].

وكان صلى الله عليه وسلم يكنّي أصحابه، ويدعوهم بأحبّ الأسماء إليهم، ويغيّر لهم الأسماء القبيحة، أو المكروهة غير المستحسنة إلى أسماء حسنة.

وكان ينهى عن الطِّيرة، ويُعجبه الفأل الحسن، وهو الكلمة الطيّبة..

وكان يحبّ التيمّن في تنعّله وترجّله، وفي طهوره، وفي شأنه كلّه.

وكان صلى الله عليه وسلم أبعد الناس في هديه وسيرته عن كلّ ما نهى الناس عنه، قد شُغف قلبه الشريف بعبادة ربّه، والاستغراق في مناجاته وذكره، قام من الليل حتّى تورّمت قدماه وتفطّرت، فأشفق عليه أهله وأصحابه، وقالوا له: أتفعل ذلك يا رسول الله، وقد غفر لك ما تقدّم من ذنبك وما تأخّر.؟ قال: (أفلا أكون عبداً شكوراً !؟).

وكان صلى الله عليه وسلم إذا حزبه أمر فزع إلى الصلاة، وكان يقول: (أرحنا بها يا بلال ! أرحنا بها يا بلال !)، وكان يقول أيضاً: (.. وَجُعِلَت قُرّةُ عَيني في الصَّلاةِ).

وكان صلى الله عليه وسلم آخر كلامه من الدنيا: (الصَّلاةَ.. الصَّلاةَ.. وَمَا مَلَكَتْ أيمانُكُم.. اتّقُوا اللهَ فِيمَا مَلَكَتْ أيمانُكُم..).

صلّى الله عليه وسلّم، وبارك وأنعم، وعظّم وأكرم، وملأ قلوبنا بحبّه وتعظيمه، وطاعته واتّباعه.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين