صناعة دولة الخوف والعدالة المفقودة

 

يبحث الإنسان في حياته عن الأمن والطمأنينة والاستقرار، ويتجنب قدر استطاعته مواطن الخوف والقلق وبواعثهما.

 

وقد امتن الله -تعالى- على قريش بنعمة الأمن؛ فقال: ?أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ? [العنكبوت: 67]، وقال: ?لإيلافِ قُرَيْشٍ (1) إِيلافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ (2) فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ (3) الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ? [سورة قريش].

 

هذه النعمة شملتهم في وقت كان باقي العرب يقتل بعضهم بعضًا، ويسبي بعضهم بعضًا.

 

فالقرشي في مكة (بلد الله الأمين) يأمن على نفسه وعرضه وماله وولده، فلا يتعرض له أحد بسوء. والداخل إلى مكة يلفه هذا الأمن الذي يُحرم منه في بلاده وموطنه.

 

وقامت دولة الإسلام على الأمن الذي يستمد وجوده من منظومة العدل التي بسطت أجنحتها على جميع فئات المجتمع.

 

فأول ما تكلم به أمير المؤمنين عمر قال: “بلغني أن الناس قد هابوا شدتي، وخافوا غلظتي، وقالوا: قد كان عمر يشدد علينا ورسول الله -صلى الله عليه وسلم- بين أظهرنا، فكيف الآن وقد صارت الأمور إليه؟! ولعمري من قال ذلك فقد صدق، كنت مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فكنت عبده وخادمه حتى قبضه الله، وهو راض عني ولله الحمد، وأنا أسعد الناس بذلك.

 

ثم ولي أبو بكر، فكنت خادمه وعونه، أخلط شدتي بلينه فأكون سيفًا مسلولاً حتى يغمدني، فما زلت معه كذلك حتى قبضه الله -تعالى- وهو عني راض، ولله الحمد، وأنا أسعد الناس بذلك.

 

ثم إني وليت الآن أموركم، اعملوا أن تلك الشدة قد تضاعفت، ولكنها إنما تكون على أهل الظلم والتعدي على المسلمين، وأما أهل السلامة في الدين والقصد فإنما اللين لهم من بعضهم لبعض.

 

ولست أدع أحدًا يظلمه أحد، أو يتعدى عليه حتى أضع خده بالأرض، وأضع قدمي على الخد الآخر حتى يذعن للحق”([1]).

 

فهذه هي غارته على أهل الظلم والتعدي، فلا مكان لهم في الإمبراطورية الإسلامية الزاحفة في الشرق والغرب.

 

وفي وصية له لجيش القادسية قال: “إن للعدل أمارات وتباشير؛ فأما الأمارات فالحياء والسخاء والهين واللين، وأما التباشير فالرحمة، وقد جعل الله لكل أمر بابًا، ويسر لكل باب مفتاحًا؛ فباب العدل الاعتبار، ومفتاحه الزهد، والاعتبار ذكر الموت بتذكر الأموات، والاستعداد له بتقديم الأعمال، والزهد أخذ الحق من كل أحد قبله حق، وتأدية الحق إلى كل أحد له حق، ولا تصانع في ذلك أحدًا”([2]).

 

فالجيوش الغازية قد تنتقم لقتلاها بالبطش والتنكيل من المهزومين؛ فيشدد أمير المؤمنين على العدل الذي ينبني على أمور أربعة.

 

وقد حدد وظائف الولاة الذين يبعثهم في الأمصار فقال: “ألا إنما أبعث عمالي ليعلموكم دينكم، وليعلموكم سنتكم، ولا أبعثهم ليضربوا ظهوركم، ولا ليأخذوا أموالكم، ألا فمن رأى شيء من ذلك فليرفعه إليّ، فوالذي نفس عمر بيده لأقصنكم.

 

فقال عمرو بن العاص: يا أمير المؤمنين، أرأيت إن بعثت عاملاً من عمالك فأدب رجلاً من أهل رعيته فضربه إنك لمقصه منه؟! قال: نعم، والذي نفس عمر بيده لأقصن منه. ألا لا تضربوا المسلمين فتذلوهم، ولا تمنعوهم حقوقهم فتكفروهم”([3]).

 

فالوالي قد يغره سلطانه فيظلم ويبطش ويجلد، فهدد أمير المؤمنين من يفعل ذلك بالاقتصاص منه، فالعدل يطال الجميع، وأكد على الكرامة الإنسانية، وإعطاء الحقوق وعدم منعها أو أكلها.

 

فهذه هي السياسة العادلة الموافقة للشريعة كما سماها ابن قيم الجوزية في: “إعلام الموقعين”([4]).

 

والعدل عاصم للمجتمعات، وتطبيق قوانين الشريعة أمان للمجتمع، و”في العقوبات الجارية على سنن العدل والشرع ما يعصم الدماء والأموال ويغني ولاة الأمور عن وضع جبايات تفسد العباد والبلاد”([5]).

 

وقد صاغ ابن تيمية تلك السنة الكونية في قيام الدول وسقوطها فقال: “وأمور الناس تستقيم فى الدنيا مع العدل الذي فيه الاشتراك في أنواع الإثم أكثر مما تستقيم مع الظلم في الحقوق، وإن لم تشترك في إثم.

 

ولهذا قيل: إن الله يقيم الدولة العادلة وإن كانت كافرة، ولا يقيم الظالمة وإن كانت مسلمة.

 

ويقال: الدنيا تدوم مع العدل والكفر، ولا تدوم مع الظلم والإسلام.

 

وذلك أن العدل نظام كل شيء؛ فإذا أقيم أمر الدنيا بعدل قامت وإن لم يكن لصاحبها في الآخرة من خلاق، ومتى لم تقم بعدل لم تقم وإن كان لصاحبها من الإيمان ما يجزى به في الآخرة”([6]).

 

وما ذهب إليه ابن تيمية وجعلها قاعدة وسنة كونية، شاهدها عمرو بن العاص وسجلها عند ذكره لمناقب الروم؛ فقال: “إن فيهم لخصالاً أربعًا:

 

1- إنهم لأحلم الناس عند فتنة.

 

2- وأسرعهم إفاقة بعد مصيبة.

 

3- وأوشكهم كرة بعد فرة.

 

4- وخيرهم لمسكين ويتيم وضعيف.

 

5- وخامسة حسنة جميلة وأمنعهم من ظلم الملوك”([7]).

 

لذلك دامت هذه الإمبراطورية قرونًا متطاولة بعد الإسلام، على عكس الإمبراطورية الفارسية التي سقطت تحت سنابك خيل المسلمين في سنوات معدودة.فمن طلب الأمن ناله بالعدل.

 

لكننا نرى الآن أن الطغاة والمستبدين يصنعون جمهوريات الخوف؛ إذ يرون أنه من الأفضل أن يهابك الناس خير لك من أن يحبوك.

 

وليت المهابة تكون من الأعداء، ولكنها قاعدة للداخل وليس الخارج.

 

فهم يبحثون عن كل الوسائل لتركيع الشعوب الناهضة..

 

يعدّون النفاس… يراقبون الحركات… يقمعون الحريات… يبنون السجون… يقتلون خارج القانون…يشترون الأسلحة لمحاربة شعوبهم وقمعه، وليس لقتال عدوهم وصده…

 

زرعوا في المجتمعات الخوف:

 

الخوف من العدو الموهوم المخترع… الخوف من إبداء الرأي… الخوف من التبرم من مشاكل الحياة… الخوف من أبسط الحقوق الإنسانية… يطلبون الأمن بالقبضة الأمنية… أمن كراسيهم وليس أمن شعوبهم… وهل حمت القبضة الحديدية عروش الطغاة…؟

 

بل إن الطغاة ليخافون رغم كل الجيوش والأسوار والحراسات التي تحميهم…

 

فمن يطلب الأمان لا يجده إلا في ظلال العدل…

 

فالأمن قرين العدل، والخوف قرين الظلم…

 

وجمهورية الخوف لا تدوم كثيرًا؛ لأنها ضد سنة الله في كونه، وسرعان ما تستبدل؛ إذ إن الحياة لا تستقيم مع شيوع الظلم والفساد.

----------------------

([1]) سمط النجوم العوالي، (2/468-469).

([2]) تاريخ الطبري، (3/6).

([3]) تاريخ دمشق، (44/278) باختصار.

([4]) إعلام الموقعين، (4/373-374).

([5]) مجموع الفتاوى، (34/148).

([6]) السابق، (28/146) باختصار.

([7]) صحيح مسلم، ح(2898).

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين