صلة الرحِم والتحذير من القطيعة والهجران في غير الله

أذيعت في صباح الإثنين 29 من رمضان سنة 1376، جعلها الله خالصة نافعة.

أيها المستمع الكريم، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

وبعد، فحديثي إليك اليوم عن: صلة الرحِم، والتحذير من القطيعة والهجران بين الأقارب والأصدقاء.

لقد شرع الإسلام المحبة والإخاء بين الناس، وأوجب عليهم التعاطف والتوادَّ فيما بينهم، وأمرَهَم أن يكونوا عباد الله إخوانا، متعاونين متواصلين، متناصرين متراحمين، متناصحين متباذلين، لا تحاسد ولا تظالم، ولا بغضاء ولا شحناء، ولا حقد ولا عداوة، ولا قطيعة ولا خصام، المسلم أخو المسلم، لا يخذله ولا يظلمه، ولا يحقره ولا يكذبه، ولا يخونه ولا يحقد عليه، ولا يَتُمُّ إيمانُه حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه، وحتى يحوطه من ورائه ويكون له عوناً ونصيراً.

والإسلام حين دعا المسلم إلى هذه الحقوق العظيمة، وطلب منه أن يقوم بأدائها، تَصَوَّرَهُ أنه قد يعجز عنها في بعض الأحيان، فيقع في المخالفة، ويكون منه فتور أو جفاء، ذلك لأنه إنسان، ﴿وَخُلِقَ الإِنسَانُ ضَعِيفاً﴾، ولهذا رسم له إذا وقعت بينه وبين أخيه شحناء أو بغضاء طريقةَ التخلص منها، والقضاء عليها، فأمره أولاً بالتسامح والصفح والعفو، قال تعالى: ﴿ وَأَن تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَلاَ تَنسَوُا الفَضْلَ بَيْنَكُمْ إِنَّ اللهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ﴾ وقال سبحانه: ﴿وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلاَ تُحِبـُّونَ أَن يَغْفِرَ اللهُ لَكُمْ وَاللهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾، ونهاه ثانياً أن يقطع التحية والسلام عن أخيه الذي غاضبه أو خاصمه، وجعل للمقاطعة التي قد تقع بينهما مدة لا يجوز لأحدهما أن يتجاوزها، فإذا تجاوزها كان آثماً إثماً عظيماً. قال سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا يَحِلُّ لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث ليالٍ، يلتقيان فيُعرِضُ هذا، ويُعرِضُ هذا، وخيرُهما الذي يبدأ بالسلام. وفي رواية: لا يحل لمؤمن أن يهجر مؤمناً فوق ثلاث، فإن مرت به ثلاثٌ فلْيَلْقَه فليُسلِّم عليه، فإن ردَّ عليه السلام، فقد اشتركا في الأجر، وإن لم يرد عليه، فقد باء بالإثم، وخرج المسلم من الهجرة. أي من القطيعة والعصيان.

فالإسلام بهذا قد حرَّم القطيعة، وما سمح لها إن وجِدت بين اثنين أن تمتد إلى أكثر من ثلاثة أيام، وطلب من كل واحد منهما أن يبدأ صاحبه بالسلام إذا لقيه، فإن لم يلقه في الأيام الثلاثة التي مضت من بدء القطيعة، فليذهب إليه، وليلقه وليسلم عليه، فيكون سلامه هذا إعلاناً لانتهاء القطيعة، وعلامةً على عودة الود والإخاء بينهما، فالسلام في نظر الإسلام مجلاة للقلوب، ومدعاة للتصافي والتحاب، وقد أشار إلى هذا سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديثه الشريف الذي يقول فيه: والذي نفسي بيده، لا تدخلوا الجنة حتى تؤمنوا، ولا تؤمنوا حتى تحابُّوا، أَوَ لا أدُلُّكُم على شيء إذا فعلتموه تحاببتم؟ قالوا: بلى يا رسول الله. قال: أفشوا السلام بينكم.

والنهي في قوله صلى الله عليه وسلم "لا يحل لمؤمن أن يهجر أخاه" عامٌّ ويشمل الأخ النَسَبيَّ والقريبَ كما يشمل الأخ في العقيدة والإسلام.

وإذا أردنا أن نبحث عن سبب تحريم الإسلام للقطيعة بين الناس، فليس من العسير علينا أن نهتدي إلى ذلك، فالقطيعة تهدم في كيان الأمة والمجتمع، وتُفكِّكُ الأسرة، وتباعد بين القلوب، وتُنْشِئُ العداوة والبغضاء، وتشيع القالة والكذب، وتحتدم بها الخصومات، ويكون من جرَّائها التنازع والتناحر، وتقع على الأمة والفرد بسببها أسوأ العواقب والنتائج، ولهذا قرنها الله تعالى بالفساد في الأرض، ورتب عليها جزاءاً شديداً وخسراناً مبينا، فقال سبحانه: ﴿فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِن تَوَلَّيْتُمْ أَن تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ * أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ﴾، وقال أيضاً: ﴿الَّذِينَ يَنقُضُونَ عَهْدَ الله مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللهُ بِهِ أَن يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ أُوْلَئِكَ هُمُ الخَاسِرُونَ﴾. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا يدخل الجنة قاطع رَحِم". والرحم كل قريب لك مَـحْرَماً كان أو غير محرم.

فالإسلام يدعوك أيها المسلم إلى صلة الرحم وإلى تناسي العداوة والبغضاء، ولهذا قال العلماء أخذاً من هذه النصوص الكريمة: إنَّ صلة الرحم واجبة بين الإنسان وقريبه، يأثم تاركُها أو المتساهلُ في أدائها، وبينوا أن صلتها تكون بسلام أو هدية أو معاونة، أو مجالسة ومكالمة، أو تلطف وإحسان، وتكون بالزيارة بين الحين والحين، وليس من صلة الرحم أن تصل الواصل لك من أقاربك فقط، فإن هذا لا يعد صلة بل هو مكافأة ومعاوضة، وإنما صلة الرحم التي أوجب الله عليك: أن تصل أرحامك وإن قطعوك، وتحسن إليهم وإن جَفَوك، فقد روى البخاري في صحيحه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "ليس الواصلُ بالمكافئ، ولكنَّ الواصل الذي إذا قُطِعتْ رَحِمُه وصَلَها".

وقريبٌ من حقِّ ذي الرَّحم عليك حقُّ الصديق الذي يعينك على الخير وتعينه، فإذا وقعت بينك وبينه جفوة أو هفوة، فتحملّها منه، واعف عنها، واسترضِ الله بالتسامح فيها، ليكون لك من الله تعالى الأجر، ومن الناس الثناء والشكر، واعلم أنك إذا أصررت على القطيعة معه في غير مرضاة الله عز وجل فقد تعرضت لسخط الله وجلبت مقته عليك، روى الإمام مسلم في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "تُفْتَحُ أبوابُ الجنة يوم الإثنين والخميس، فيُغْفَرُ لكل عبد لا يشرك بالله شيئاً إلا رجلٌ كان بينه وبين أخيه شحناء، فيقول الله: أَنْظِروا هذين - أي أخِّرُوا هذين - حتى يصطلحا، أَنْظِروا هذين حتى يصطلحا، أَنْظِروا هذين حتى يصطلحا.

فواجبك أيها المسلم، وقد أقبل عليك يوم العيد، أن تستجيب لأمر الله ورسوله، فتُواصِلَ من قاطعتهم من أرحامك، وتسامحَ من أساؤوا إليك، وتصفحَ عمن قاطعك من أصحاب الصدق والخير، فتعودَ إلى مُوادَّتهم وإخائهم كما كنت من قبل وعلى أفضل ممَّا كنت، وينبغي أن تكون أنت السابق إلى هذا الفضل الذي دعاك الله إليه حتى تحرز رضوان الله وتفوز بمغفرته، فقد قال سبحانه ﴿فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى الله﴾، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

من كتاب" أيها المستمع الكريم" إعداد ومراجعة محمد زاهد أبو غدة

جميع المواد المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين